مجلة الرسالة/العدد 767/من مذكراتي اليومية:

مجلة الرسالة/العدد 767/من مذكراتي اليومية:

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 03 - 1948


قصة فتاة. .

- 4 -

يوم الخميس 10 مايو سنة 1945

كانت الساعة خمساً بالتمام حين دخلت محلي جروبي الجديد أبحث عن الآنسة (س)؛ وكانت العلامة التي سأتعرفها بها أن أجد نسخة من (الرسالة) على المنضدة التي تجلس إليها. ولكن ماذا أصنع والناس قد فروا من وهج الحر في قلب المكان فتكونوا حول الموائد في حواشيه مماشيه فلا يجد المار طريقه بين المقاعد إلا بصعوبة، والربع الزاهر المعطار قد خلع من حلله وحلاه على الأشخاص والأشياء، فالجو عطر والمنظر سحر والأزياء وشى والنساء ورود والرجال أشواك والأحاديث أغاريد، فلا أستطيع لشيوع الجمال وعموم الحسن أن أعرف صورة من صورة، ولا أن أميز زهرة من زهرة!

لو كنت حديد البصر لنفضت المكان من بعيد، فعرفت على أي منضدة تنام (الرسالة)، وفي أي كرسي تقعد الفتاة؛ ولكن البصر كليل والمساء مقبل، فلا مناص من الجولان المتهم بالفضول، ولا بد من النظر القريب من اللمس. على أنني توخيت المناضد المفردة فجعلت وجهي إليها ونظري عليها، فلم أخط غير قليل حتى رأيت منضدة صغيرة عليها يدان رقيقتان تقلبان (الرسالة)، فكنت في خروجي برؤيتها من ربكة المشي وحيرة النظر أشبه بالزورق العامه في ظلام المحيط أبصر في المرفأ ومض المنارة، أو بالسائر التائه في مجاهل القفر سمع في الواحة نبض الحياة.

أقبلت عليها فاستقبلتني واقفة كما يستقبل النساء الرجال في الريف، ومدت يدها إلي فتصافحنا باسمين، وجلسنا متقابلين، وكلانا يصعد النظر في الآخر ويصوبه، ويوازن في نفسه بين ما تصوره في الخيال بذهنه، وبين ما رآه في الحقيقة بعينه. أما هي فلم أدر ماذا كنت في خاطرها من قبل، وماذا أنا في ناظرها الآن. وربما حملني العجب المضمر في كل نفس أن أسألها عن ذلك في مؤتنف الحديث. وأما أنا فقد كنت موزع النفس والحس بين صورتين تختلفان في الذات كل الاختلاف، وتتشابهان في المعنى بعض التشابه: فتاة العزبة في نفسي كزنبقة الروضة المطلولة، بضة الجسم، لدنة القوام، مطهمة الوجه، قد نظ وجنتيها النعمة، وغلظت شفتيها اللذة، وسوت خلقها الطبيعة؛ وفتاة (جروبي) في حسي نوارة من نوار الفول أبطأ عن حقله الغيث؛ فهي رقيقة البدن، مخروطة الوجه، دعجاء العين، فاترة اللحظ، طويلة الأنف، ظمياء الشفة، حلوة الافترار، هواها أكبر من جثنانها، وقلمها أجرأ من لسانها، وخبرها أضخم من عيانها؛ ولكنها على الجملة وضيئة الطلعة، مليحة القسمات، لطيفة الروح، تحمل الرجل بصباحة وجهها وصراحة قلبها على أن يأنس بها إذا حضرت، وأن يفكر فيها إذا غابت.

قلت لها بعد التحيات المنوعة والترحيب المكرر والأسئلة المعتادة: لقد انقطعت رسائلك عني منذ شهر فلم أعرف الأسباب التي أقدمتك إلى القاهرة؛ وما احسبني أعلم أن لك هنا أقارب تصلين رحمتهم بالزيارة، وتمنحين كرمهم بالضيافة. فلعلك قدمت مع أخيك أو بعض أهلك لغرض من الأغراض الخاصة أرجو ألا يكون من بينها المرض. فقالت الفتاة وقد أرسلت نفسها على سجيتها بعد احتشام من اللقاء الأول لم يدم طويلاً: ليس بجسمي والحمد لله ما أشكوه؛ ولنا في حي المنيرة منزل موروث تقيم فيه أختي الكبرى وزوجها وابنتاها، فأنا نازلة عليها به، ومطمئنة إلى حياتي فيه. وأما سبب قدومي فله حديث عرفت بعضه وغاب عنك بعضه، ولو كنت مطلقة اليد لما انقطعت رسائلي عنك، ولا التبست أموري عليك. ذكرت لك في رسالتي الأخيرة - لو تتذكر - ما كان بيني وبين ابن البستاني، وكيف استرقت زوجة أخي هذا السر من أفواه الخدم وأفشته إلى زوجها، وما أعقب ذلك من الضرب المبرح، والحجاب الكثيف، والمراقبة الشديدة. وكنت أظن أن لذلك العقاب حداً يقف عنده ووقتاً ينتهي فيه؛ ولكن العذاب أشتد وأمتد حتى ضاق مكاني في البيت، وساء مقامي في الأسرة؛ فأخي يعاملني بقسوة، وزوجته تكلمني بجفوة، وخادماته القرويات ينظرن إلي بازدراء. ومما سود نهاري وأطال ليلي أن أخي صادر بريدي فحرمني أن أقرأ ما أحب، وأن أكتب إلى من أريد، فأصبحت كسجينة الزنزانة محرومة من اعتبار النفس واستشعار الأنس واستحضار الوجود.

كان لا بد للإناء أن يطفح، وللجلد أن يهي، وللصبر أن ينفذ، فوطنت نفسي على الفرار إلى القاهرة. ولكن كيف الفرار وليس في يدي مال ولا في قدرتي مشي ولا في أسرتي مساعد؟ الأمر سهل! بين العزبة والقرية مسافة قصيرة وسكة معبدة، وبين أخي وعمدتها صداقة وثيقة ومعاملة متصلة. وهو يعرفني منذ أن كنت طفلة، ويسأل عني كلما زار الأسرة؛ فإذا ذهبت إليه وطلبت منه باسم أخي بعض المال فما أظنه يمتنع أو يتلكأ أو يستريب. على أن معي خواتمي وأساوري فأستطيع أن أستعين ببعضها إذا حبطت هذه الخطة. وفي تباشير الصبح قبل أن يتيقظ البيت ويسرح الفلاحون وضعت ألزم أشيائي وأخفها في حقيبة صغيرة، ثم تسللت إلى الطريق الذاهب إلى القرية، وكانت الأرض قد طلنا الندى، والنبات قد كلله الحباب، والطبيعة الراقدة تحت جنح الليل قد أخذت تستفيق وتنتعش وتتحرك؛ فالطير تصدح بأغاريد الصباح، والشجر يتجه بالتحيات إلى الشمس، وآحاد من الفلاحين المبكرين ينقلون كالأشباح خطاهم الوئيدة على ضفاف القنوات وحواشي الزروع، وأنا في هذه الصحوة الجميلة أسير بين حقول القمح خائفة مسرعة، أترقب كل أمر، وأتأهب لكل طارئ، فأعد لكل سؤال جواباً، ولكل تصرف علة. وستر الله علي حتى بلغت القرية وطرقت باب العمدة، فتلقاني أهله بوجوه منطلقة وصدور رحبة، ثم قدموا إلى الفطور فملت منه ما ينال العجلان القلق. ثم دخلت على العمدة في غرفته وقلت له: أن أخي غائب في المدينة، وقد أبرقت أختي إلي تنبئني أن ابنتها في نزاع الروح وأنها في حاجة إلي، فلا بد من سفري في قطار الصباح وليس معي نقود فما كان جواب الرجل إلا أن قدم إلي عشرة جنيهات وأمر الحوذي أن يهيئ لي العربة.

دخلت القاهرة عشية يوم الأحد الماضي، وكان حالي وأنا أسير في زحمة الخارجين من المحطة حال الهارب من السجن، يتوهم في كل مكان جاسوساً يسمعه، وفي كل طريق شرطياً يتبعه. فلم تكد عيني تقع على سيارة عامة بجانب الإفريز حتى دخلت فيها وقلت للسائق: المنيرة، شارع كذا، رقم كذا. وما هي إلا عشر دقائق حتى وقفت السيارة أمام البيت، فصعدت الدرج، وغمزت الجرس، فأسرعن أختي في لهفة إلى باب الشقة وفتحته وهي ترتجف، وعانقتني وهي تنتحب! وكان مبعث ذلك كله أن أخي أرسل برقية إلى زوج أختي يعلن إليه هربي، ويلح عليه في طلبي، فساورت أختي الهموم، وتنازعتها الظنون، وعللت هذا الهرب بما أقاسيه في العزبة من العدوان المستمر، والحرمان المتصل؛ لأن أخي لا يهتم بها فهي تسيء به الظن، ولأن امرأته لا تخف على قلبها فهي تعتقد فيها الظلم! وقويت أنا في نفسها هذا التعليل بما افتريت من الأكاذيب واختلقت من المظالم.

فكتبت أختي إلى أخيه تسترضيه عني وتسأله أن يأذن لي في البقاء معها أياماً لتجلو عن جسمي هذا المرض، وتكشف عن نفسي هذا الهم. ولكنني قطعت العزم على أن أموت هنا ولا أعيش هناك، وأن أخسر رضا الناس أجمعين إذا كسبت رضاك. .

(للقصة بقية)

أحمد حسن الزيات