مجلة الرسالة/العدد 768/سلافان

مجلة الرسالة/العدد 768/سلافان

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 03 - 1948



محنة الفردية في الأدب المعاصر

للأستاذ شكري محمد عياد

لا أعرف كاتباً صور محنة الفردية في هذا العصر كما صورها جورج ديهامل. ولك أن تقول: محنة الفردية، أو محنة الفرد حسبما يحلو لك من رغبة في التجريد الفلسفي، أو التخصيص الإنساني. . وأنت مصيب على الحالين، فهي محنة يعانيها الأفراد المثقفون اليوم، لا في فرنسا وحدها بل في كل بلد مسته الحضارة الصناعية والإنتاج بالجملة. ومصدر هذه المحنة إحساس هؤلاء المثقفين ذوي الذكاء اللامع أو الإحساس المرهف أو الخيال الوثاب بأن هذا المجتمع الحديث لم يعد محتاجاً إلى ذكائهم اللامع ولا إلى إحساسهم المرهف ولا إلى خيالهم الوثاب، بل لعله ينظر إلى هذه الأمور التي كانت تعدها الإنسانية من قبل ميزات نظرة الشك والارتياب لأنها أصبحت تعد في دنيا العمل عوائق ومعطلات. وهم يلاقون من ذلك عناء غير قليل، حتى ليضطرون إلى إحدى اثنتين: إما أن ينسوا أنهم أفراد، ويلقوا بأنفسهم إلقاء في جيش الساخطين على هذا المجتمع، المعدين العدة لتغييره وفق ما يرونه الحق والصواب. وهم على الحالين لا يستطيعون الاحتفاظ بفرديتهم، ولا تحقيق ذواتهم، وقلما ينجون من هذا القلق الذي ينوشهم من كل جانب، وقلما يصلون إلى حالة من السلام النفسي الذي ينشدونه. وأكثرهم ينطوون على أنفسهم، ويختبرون إحساساتهم، ويطعمون أحلامهم وآلامهم، وربما وجدوا في الألم لذة أكبرن لأنه لا يلوح لهم بأشياء مستحيلة، ولا يعرضهم لخيبة قاسية.

هذه الفرقة من الناس، إذاً، ظاهرة بارزة في الحياة الإنسانية لعصرنا الحاضر، يعني بها علماء الاجتماع، وعلماء النفس، والفلاسفة، والأخلاقيون، والأدباء، والفنانون. ولعل مما يزيد عنايتهم بها أن هذا الفريق من الناس هم الجمهور الأكبر من قراء الأدب والفلسفة، وأهل الفكر، ومتذوقي الفن. فكأن رجال الفكر والفن إذ يعالجون مشاكلهم هم أنفسهم في نطاق أوسع، وكأن هذا الجمهور إذ يطالع ما يكتبه له الأدباء والمفكرون إنما يطلع على مشاكله الخاصة، وما يقدمون لها من حلول.

كتب جورج ديهامل سلسلة من خمس قصص تدور كلها حول محنة الفردية في العصر الحديث، أي حول التنافر بين الفرد ونفسه، وبين الفرد ومجتمعه. وابتدع في هذه شخصية (سلافان)، وهي شخصية لا تقل حياة ولا صدقاً ولا عمقاً عن شخصية (هملت) أو (دون كيشوت). وهي شخصية ذلك المثقف المرهف الحس الذي يلفظه المجتمع الحاضر، وتخنقه أوضاع الحياة التافهة العادية. على أن ديهامل لا يتخذ بطله من أولئك المثقفين ذوي الثقافة العالية المنظمة، ولا من أولئك المفكرين السحابيين الذين يعيشون في أبراج عاجية، وإنما هو رجل من عامة الشعب، لم ينل ما اصطلح الناس على تسميته بالثقافة العالية ولا الثقافة الثانوية، ولكنه قرأ كثيراً وفكر كثيراً. . يقول لصديق: (إنني فقير، وقد كنت فقيراً دائماً، فدرست كما يدرس الفقراء، أعني أنني درست دراسة فقيرة. وقد آلمني ذلك وبخاصة في السن التي يتألم فيها المرء لمثل هذه الأمور. ثم أخذت أثقف نفسي بنفسي، وعلى قدر استطاعتي، فأنا أعلم اليوم أكثر مما يعلمه غالبية البورجوازيين في مثل سني. ولكن الراجح أني لم أتعلم هذه الأشياء بطريقة منظمة، كما تقول. ومن ثم لا يعدني الناس مثقفاً، وأصدقك القول إنني مستني العدوى من أفكار الناس عني، فأصبحت أشك أنا أيضاً في ثقافتي. إنها لثقافة طيبة، لا تخلو من رسوخ وغنى، ولكنها ليست ثقافة (أصيلة). لا ضير! إنني مثابر على القراءة.

وهو يقضي سحابة نهاره في بعض تلك المكاتب التي تؤوي عشرات أو مئات من طبقته، يؤدون أعمالاً تافهة. وهو مشغوف بالموسيقى يعالج النفخ بالناي، ولكنه يقول عن نفسه: (والأمر المؤلم أنني لنقص الدربة والدراية والدرس أوقع بطريقة عاجزة صبيانية قطعاً أحسها إحساساً طيباً؛ إذ ينبغي أن أقول - لأكون عادلاً في الحكم على نفسي - إني مشغوف بالموسيقى، وإني أدين لها بأنبل مشاعري. ولكني حين أجاهد آلتي لا يبدو علي أنني أفهم شيئاً مما أرقعه، على حين أن أورين مثلاً - وهو ينفخ في الناي أيضاً - أورين هذا الذي لا يفهم شيئاً من الموسيقى، ولكن له أصابع متمرنة، يخيل إلي من يسمعه أنه مشبوب الوجدان).

وقد تسأل: لماذا جعل ديهامل بطله مثقفاً عامياً وفناناً عاجزاًن ولم يختره رجلاً ممتازاً في ثقافته أو فنه؟ ألا يكون في هذه الصورة الأخيرة أصدق تمثيلاً لمشكلة المثقفين في هذا العصر؟ ولكنني أذكرك بأمرين اثنين: أولهما أن ديهامل لا يعالج مشكلة المثقفين الممتازين وحدهم، ولا مشكلة هؤلاء المثقفين الممتازين بوجه خاص، بل مشكلة كل من يتغلب فيهم جانبا الفكر والوجدان على جانب العمل، وطبيعي ألا يبلغ هؤلاء جميعاً رتبة العبقرية. والأمر الثاني أن القصة والأدب على العموم اتجها وجهة شعبية منذ ظهر المذهب الواقعي في الأدب واتخذ موضوعاته من الحياة العادية، حياة الناس العاديين. لم يبق الأدب تصويراً لحياة الأبطال وصراعهم، بل أخذ أشخاصه من زحمة الحياة العادية التي تعج بصنوف المآسي والمساخر. ولعل هذا هو الأمر الخالد للمذهب الواقعي في التراث الأدبي الإنساني، فما أظنه قد اصبح في استطاعة الأدب في حاضره أو مستقبله أن يترفع عن مشاكل جماهير الناس مهما تكن طبقتهم أو ثقافتهم أو نحلتهم، ولا أن ينتزع العواطف الإنسانية من مجالها الطبيعي، ليضعها في إطار من العظمة المصنوعة. وقد ظهر المذهب الطبيعي وعميده زولا بعد المذهب الواقعين فزاد هذا الاتجاه الأدب الفرنسي الخالد، وهو في الوقت ذاته دقيق الإحساس بالمشكلة التي يعالجها حين يختار بطله نكرة من النكرات، أو كما يقول هذا البطل عن نفسه:

(رجلاً لا يختلف في شيء عما ألفه الناس، رجلا يشبه كل الرجال إلى حد مخيف!)

ظهرت قصتنا - وهي الأولى من مجموعة سلافان - سنة 1920، ثم تلاها (رجلان) سنة 1924، و (يوميات سلافان) سنة 1926، و (نادي ليونيه) 1929، وأخيراً (كما هو) ' سنة 1932. حلل ديهامل في القصة الأولى عناصر التناقض بين الفرد ومجتمعه، وبين واقع الفرد وآماله، وبين أفكاره وأعماله. صور ذلك كله منعكساً على ذهن سلافان فهو لا يقص أحداثاً، بل أفكاراً بلغت من قوتها وتمكنها مبلغ الأحداث؛ فهي أحداث بالنسبة لصاحبها، وهي مغامرات حقهتمسك أنفاسك وأنت تقرؤها. . . أحداث هذه القصة لا تعدو أن سلافان يفصل من عمله على أثر حادثة يعدها الناس حمقاً منه وشذوذاً، ويراها هو عملاً ضرورياً يرد إليه ثقته بأنه إنسان يعيش بين أناس. وليس بعد ذلك إلا البطالة والتشرد والفاقة، وأحلام الحرمان، وأوهام القلب الوحيد.

وفي القصة التالية (رجلان) نرى سلافان الصديق. . . نراه في ضوء تلك الصلة النفسية العميقة التي تكشف من أسرار النفوس ما لا تكشفه الأفكارولا الأحلام ولا الأوهام. وصديقه رجل لا يشبهه في شيء من الأشياء، إذا كان سلافان مثال الرجل الذي لا ينسجم فكره وعمله فإدوار مثال الرجل الذي يقيس فكره على قدر عمله. وإذا كان سلافان مثال الرجل الساخط على وجوده فإدوار مثال الرجل الراضي عن وجوده. وإذا كان سلافان مثال الرجل الذي يزداد انحداراً كل يوم، فإدوار مثال الرجل الناجح الذي يزداد كل يوم صعوداً. إدوار هو على الجملة صورة حية للمجتمع الحديث. هو الرجل الذي تخضع حياته لنظام لا يحيد أو لا يكاد يحيد. هو الرجل الذي يترجم جميع أفكاره إلى أعمال، وجميع دوافعه ونوازعه إلى مصالح. هو الرجل الذي تنسجم رغباته مع واقع الحياة، حتى لتحار أيهما يستجيب للآخر. . . أهو يكيف وجوده طبقاً لواقع حياته، أم هي أحداث الحياة تنساق مع رغباته؟ يصرف سلافان من مطعم كانا يترددان عليه وكأنه يحس فيه ضعفاً وعجزاً عن المضي في تيار الحياة الزاخر، فيود لو يسنده بذراعه القوية؛ ليزداد التذاذاً بقوته. . . ويقبل سلافان - بعد تردد - هذه اليد الممدودة إليه، ويبذل له الصديق من جاهه ومالهن ويقبل سلافان هذه الهبات أيضاً، ولكن على حساب كرامته وكبريائه، حتى إذا ضاق صدره بعد سنين طوال من هذه الصداقة غير المتكافئة، ثار على ما ألقى فيه من عبودية، وفارق صاحبه فراقاً غير جميل.

والقصص الثلاث الأخيرة تصور صراع سلافان لتحقيق فرديته، فإنه لم يحدد بعد مطلبه من الحياة، وإنما كانت نفسه أشبه بصندوق رنان، كل عمله أنه يضخم الذبذبات التي تصل إليه من الخارج: ولكنه قد بدأ يحس نزوعاً إلى إكمال نفسه، فصاحبه يقول له قبل أن يفارقه: (ما بك؟) فيجيب: (بي كل ما ليس بي. . . أشياء لا تستطيع أن تمنحني إياها يا إدوار. . . السلام. السعادة. روح خالدة. الله.)

(البقية في العدد القادم)

شكري محمد عباد