مجلة الرسالة/العدد 768/شخصيات عباسية:

مجلة الرسالة/العدد 768/شخصيات عباسية:

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 03 - 1948



جحظة المغني الشاعر

224 - 324هـ

للشيخ محمد رجب البيومي

كان للشعر والغناء في الدولة العباسية سوق رائجة، فما ينظم شاعر قصيدة، أو يبدع مغن صوتاً، حتى تتطلع إليه الأنظار ويتصل ذكره بالرؤساء والأعيان فتخلع عليه الهبات الوافرة وتهدي إليه المنح الجزيلة، وقد يطير ذكره إلى الخليفة، فيقر به من ساحته، ويسمر معه في أطيب أوقاته، حتى يكون نديمه المحظوظ، وصفيه المختار.

لذلك أكب الناشئون على الأدب، يقيدون شوارده، ويقتنصون فرائده، فحفلت بهم المجالس، وأورثوا الثقافة العربية ثروة خلدت العصر العباسي في سجل التاريخ حتى لا يكاد يوجد نظيره في شتى عهود العربية وقد توالت عليها السنون وامتدت بها الأحقاب.

ولقد كان أبو الحسن أحمد بن جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي أحد هؤلاء الذين أوتوا نصيباً وافراً من المعرفة، فقد سلخ من عمره وقتاً مديداً في البحث والدراسة حتى استطاع أن يكون عالماً متعدد الثقافة، ومؤلفاً غزير المادة، وشاعراً خفيف الظل ثم هو بعد ذلك مغن بارع تحن إليه المسامع وتتعلق به القلوب.

انحدر أبو الحسن - وقد اشتهر بجحظه - من سلالة البرامكة فحرص جهده على أن يكون بعيداً عن المزالق السياسية كيلا تحوم حوله الشبهة فيؤخذ بجريرة آبائه وأجداده، لا سيما وقد وجد في عصر أهدرت فيه دماء الساسة، وتناثرت أشلاء القادة من وزراء ورؤساء، بل لقد انتقل الخطر إلى أمراء المؤمنين فكان الخليفة يهوى في ليلة واحدة من القصر إلى القبر، وحسبك أن تعلم أن جحظة قد شهد في مدى عمره عشرة خلفاء فارقوا تيجانهم ما بين قتيل وجريح.

ولم يستطع أبو الحسن أن يستفيد من أدبه كما استفاد غيره لأنه كان ذا نمط خاص في حياته فلم يسر في ركاب أمير، ولم يجامل عظيماً، والرؤساء في كل زمان ومكان لا يجزلون حياءهم الوافر إلا لمن يحبر فيهم المدائح الطويلة، لاهجاً بالثناء عليهم في غدوه ورواحه، ولهذا كان الشاعر يشكو من دهره، ويعجب من حرمانه، أضف إلى ذلك ما وقر في نفسه من إنه سليل البرامكة ذوي الأموال المصادرة، والتراث السليب، وهو بعد ذلك فقير معدم تسأله عن حاله فيجيب.

لست الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم

أنا الذي دينه إسعاف نائله ... والفقر يعرفه والبؤس والعدم

أنا الذي حب أهل البيت أفقره ... فالعدل مستعبر والجوْر مبتسم

وكأن السياسة قد حرمت عليه أن يتمدح بآبائه وأهله فكان يعاني من ذلك هما ناصباً وشجناً مبرحاً، وقد ينفجر صبره فيسفر عن مراده في وضوح، ويروح عن نفسه فيقول:

أنا أبن أناس موّل الناس جودهم ... فلم يخل من إحسانهم بطن دفتر

ولقد كان الغناء يدر عليه بعض الخير والنعمة ولكنه مسرف متلاف لا يبقي على شيء فهو في حاجة ماسة إلى العطاء المتواصل، والغريب أنه ابتلى بمن يغنيه فيكتب إليه رقاعاً عديدة دون أن يأذن بصرف واحدة منها وقد يكون جحظة في ضيق من عيشه فيعلن إليه تبرمه إذ يقول:

إذا كانت صلاتكمو رقاعاً ... تُخطّط بالأنامل والأكف

ولم تكن الرقاع تجر نفعاً ... فها خطي خذوه بألف ألف

وشر من ذلك أن يغني جماعة فيقولون له أحسنت ثم لا يعطونه قليلاً أو كثيراً وهو ينتظر أن يحظى ببعض ما يتمتع به زملاؤه المغنون من منح وهبات فلا يسعه إلا أن يعبر عن هذه الحقيقة المريرة فيهتف.

لي صديق مغرى بقربي وشدوي ... وله عند ذاك وجه صفيق

قوله إن شدوت أحسنت زدني ... وبأحسنت لا يباع الدقيق

ولقد دفعه ضيق يده إلى التهافت على موائد الخلان والأصدقاء فكان لا يترك صاحباً إلا فجعه في مأكله ومشربه، فإذا صادف منه بشراً وابتساماً سكت عنه، وإذا لمح في وجهه عبوساً سلقه بهجائه المقذع، وأخذ يشهر به في كل مكان، راوياً عن بخله ما يمتع من النوادر المضحكة كأن يقول (سلمت على بعض لرؤساء وكان مبخلاً فلما أردت الانصراف قال لي يا أبا الحسن ماذا تقول في أكل القطائف؟ فقلت ما آبي ذلك، فأحضر لي جاماً فيه قطائف فأوغلت فيها وصادفت مني سغبة، وهو ينظر إلي؟؟ فقال يا أبا الحسن أن القطائف إن كانت بجوز أتخمتك، أو كانت بلوز أبشمتك، فتعجبت من شأنه، وقلت في أمره:

دعاني صديق لي لأكل القطائف ... فأمعنت فيها آمناً غير خائف

فقال وقد أوجعت بالأكل بطنه ... رويدك مهلاً فهي إحدى المتالف

فقلت له ما إن سمعنا بها لك ... ينادي عليه يا قتيل القطائف

لذلك تجد أكثر معارفه قد أقفلوا أبوابهم في وجهه حذراً من لسانه كما نهوا على الحجاب أن يصرفوه بمجرد رؤيته، وجحظة يعلم جيداً ما يبطنون له، فيشنع عليهم في تهكم يصل به إلى الوقاحة والتبجح فيقول:

ولي صاحب زرته للسلام ... فقابلني بالحجاب الصراح

وقالوا تغيّب عن داره ... لخوف غريم ملح وقاح

ولو كان عن داره غائباً ... لأدخلني أهله للنكاح

وكان إذا امتدا الموائد لا يرحم معدته بل يأخذ على نفسه عهداً أن يبتلع ما تقع عينه عليه، وقد بلغ من بعض البخلاء أن ضربه فأوجعه لما صادف من نهمه الزائد، فقد دخل على هرون ابن عريب فقدم إليه (مضيرة) فأوغل فيها إيغالاً جعل ابن عريب يقول له: جعلت فداك أنت عليل، وبدنك نحيل، والعصب ثقيل. فأجابه النهم في تهكم! والعظيم الجليل، المفضل المنيل، لا أترك منها الكثير ولا القليل. فغضب هرون وضربه عشرين مقرعة، ولم يترك جحظة حادثته تمر بل سجلها في شعره فقال:

ولي صاحب لا قدس الله روحه ... وكان من الخيرات غير قريب

أكلت طعاماً عنده في مضيرة ... فيا لك من يوم عليّ عصيب

ومهما يكن من شيء ففي هذه الأخبار ما يدل على كلفه بالطعام ولا ريب فقد كان فمه يستولي على جانب كبير من إنتاجه وتأليفه، ولم يقتصر على ما ترغم به من الشعر في هذا الباب بل ألف كتباً خاصة ذات فصول وعناوين، والذي يقرأ هجاءه للبخلاء يعتقد أنه كان على شيء من الكرم في بيته، والحقيقة أن أبا الحسن ممن اشتهروا بالكزازة والشح فقد طار له في هذا الباب صيت بعيد، قال أبو علي الأعرابي: كنت في بيت جحظة فدخل علينا رجل من البادية ونحن نأكل فدعوناه وكان طاوي؟؟ تسع، فأتى على القصعة ونحن نرمقهما ونضحك، فلما فرغ من مضغه قال له جحظة أتلعب معي النرد؟ قال نعم فوضعاه بينهما ولعبا فانهزم جحظة هزيمة لم تعد له، فأخرج رأسه من الخيمة ورفع يده إلى السماء قائلاً: لعمري إني لأستحق هذا لأني أشبع من أجاعه الله.

وهنا وقد أوقعه شرهه في مضحكات غريبة فقد كان يتحين الخلوة في رمضان ليشبع جوفه، وأحياناً يذهب إلى المرحاض وفي كمه كسرات من الخبز يلوكها في غفلة من العيون، قال الحسن البغدادي: كان جحظة عند أبي يوماً في شهر رمضان فأجلسته فلما انتصف النهار سرق رغيفاً ودخل المستراح، واتفق أن دخل أبي فرآه فاستعظم ذلك وقال ما هذا يا أبا الحسن؟ فقال أفت لبنات وردان ما تأكل. وبنت وردان دوبية كالخنفساء توجد كثيراً بالمستراح.

وغير كثير على جحظة أن يفعل ذلك فقد كان من المستهترين بالدين إلى أبعد حد وأقصاه، فهو يشرب الخمر، ويأتي المحرمات ويتعرض للنساء مع أن الله قد منحه من الدمامة قسطاً لا يحتمل معه تماجن وخلاعة، وقد سماه ابن المعتز بجحظة لنتوء قبيح في عينه قد شوه سحنته حتى ضرب بها المثل.

وكان فوق ذلك قذر الثياب، رث الأردان، مع إنه كان يغشى المحافل العامة ويتصدر منتديات السمر، وكذلك كان من معارفه البحتري وأبو الفرج، ولست أفهم لذلك علة غير أن هؤلاء وأمثالهم ربما أرادوا أن يحاربوا ما شاع ببغداد من الترف الفاحش في الزي والملبس، فدفعتهم المغالاة إلى ما صاروا عليه من قذارة وحطة، وإلا فلو كان جحظة قد اضطر إلى ذلك لفقره المدقع فلماذا أصر الوليد وأبو الفرج على ما كانا عليه من رثاثة وامتهان.

(البقية في العدد القادم)

محمد رجب البيومي