مجلة الرسالة/العدد 769/بين المهابة والعدل

مجلة الرسالة/العدد 769/بين المهابة والعدل

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 03 - 1948


للأستاذ عباس محمود العقاد

بارك الله في سيرة أبن الخطاب حياً وميتاً. أي رجل كان؟

إنه ليعمل ما دام يذكر، وإن أثره بعد موته بأربعة عشر ألف سنة لمن أكبر آثار هذه الحياة الخالدة. فإن أكثر من عشرين ألف شاب في مقتبل الحياة يشغلون اليوم عقولهم ونفوسهم بفهم العظماء العمرية في شتى مناحيها، وليس أنفع للشاب الناشئ من عرفانه بهذه السليقة العظيمة وهذا الخلق العظيم.

ومن أحب الأشياء إلى أن أتلقى في البريد، حيناً بعد حين، سؤالاً من طلاب العلم الناشئين يدل على عنايتهم بالنفاذ إلى حقيقة هذا الرجل النادر الذي يقل نظراؤه في تواريخ الأمم كافة. فإن العقول الفتية لن تسمو في أفق النبوغ بمعراج أشرف من هذا المعراج ولا اوثق منه في اساسه المكين.

وقد أخذت نفسي بالإجابة عن كل سؤال من هذه الأسئلة ينتظره مؤلف الكتاب من قرائه المجتهدين في استيعاب معانيه. وحدّ هذه الأسئلة أن تدور على الموضوع ولا تنحصر في معاني المفردات، لأن المفردات من شأن المعجمات التي تتداولها الأيدي وليست من صميم الموضوع الذي يرجع فيه إلى المؤلفين.

ومن هذه الأسئلة هذا السؤال من الأديب صاحب الإمضاء قال بعد تمهيد نشكره عليه:

(. . . . لقد كنا نقرأ في باب إسلام عمر فغمضت علينا نقطة فأردت أن أرسل إليكم كتاباً أرجو فيه التوضيح، وترددت كثيراً ولكني تشجعت وكتبته. فأود أن تفسحوا صدركم الرحب لهذا السؤال.

(ذكرتم في باب إسلام عمر أنه بعد أن أسلم أبى إلا أن يخرج ليضر به أناس كما كان يضرب أناساً في سبيل ذلك الدين، وأنه سار إلى الناس يضربونه ويضربهم إلى آخر ما في هذه القصة، وهي إن اتفقت مع عدل عمر وحبه للمساواة، فإنها تناقض مهابته وشجاعته. إذ من كان يجرؤ على أن يمد نظره - فضلاً عن يده - إلى عمر رضي الله عنه وهو الذي تنحنح مرة والحجام يقص شعره فما كان من الحجام إلا أن ذهل عن نفسه وكاد أن يغش عليه. وكذلك في قصة هجرته التي رواها علي رضي الله عنه: قلتم إنها ت على شجاعة عمر وعدله، وأنا أرى أن هذه القصة - وأن كانت برهاناً ساطعاً على شجاعة الفاروق - فإنها لا تحمل من معانيها أي شيء من العدل. . .

(هذا ما أردت أن أسألكم فيه. . . والسلام عليكم ورحمة الله.

فتحي زكي الحداد

بمدرسة شبين الكوم الثانوية

ولا شك أن سؤال الطالب النجيب له وجهه، أو له ما يسوغه؛ ومن مسوغاته على الأقل توضيح شيء في علم النفس، يتعلق بحياة ذلك الرجل العظيم، كما يتعلق بكل حياة.

فالتناقض لا يكون إلا في أختلاف الأثرين لصفة من الصفات في حالة واحدة، أو حالات متشابهة.

أما إذا اختلفت الحالات واختلفت الآثار، فلا تناقض هنالك على الإطلاق.

لأن الاختلاف يؤدي إلى الاختلاف، ولا يؤدي إلى اتفاق.

ورب عمل واحد يؤدي أختلاف مناسباته إلى أختلاف الحكم عليه، حتى الحكم عليه في إحدى المناسبات نقيض الحكم عليه في مناسبات أخرى.

فأنت تقدم الطعام إلى السائل الجائع فأنت محسن اليه وهو في مقام المحتاج إليك!

وأنت تقدم الطعام إلى صديقك فهو يسرك بذلك كما تسره، ولا تقف منه في هذه الحالة موقف صاحب اليد العليا من صاحب اليد السفلى، كما يقولون في مواقف الإحسان.

وأنت تقدم الطعام إلى أميرك فيشرفك أن يقبله ويستجيب دعوته، ويوشك أن يكون محسناً إليك بقبول طعامك، ولا تكون أنت المحسن إليه.

والعمل هنا واحد وهو تقديم الطعام.

ولكن أختلاف المناسبة هو الذي يوجب أختلاف الحكم عليه إلى هذا المدى الواسع من الاختلاف.

ونقترب من المثل في إسلام عمر فنقول: إن البطل الرياضي مخيف إذا وقف في حلقة المصارعة، لا يقترب منه كل مصارع إلا إذا أنس من نفسه القدرة على الصمود له والأمل في التغلب عليه.

ولكن هذا البطل الرياضي يعلم تلاميذه ويتعرض لمنازلتهم ويدعوهم إليها، فيتقدم له أصغرهم وأكبرهم على السواء، وربما تعمد أن يتمكنوا منه ليريهم كيف يكون التمكن من الخصوم. فلا يشعرون بين يديه بتلك الهيبة التي يشعر بها خصومه عند الجد في الصرع.

ونقترب خطوة أخرى فنقول: إن الطفل يهاب الرجل الكبير ولا يخطر له أنه قادر على ضربه، ولكنه إذا علم أن أباه، أو أن رجلا في قوة أبيه، يستدرجه إلى ملاكمته هجم عليه ونسى الفارق بين قوته وقوة ذلك الرجل الكبير.

وعمر بن الخطاب كان يتعمد أن يتعرض للضرب في ذلك الموقف، ويسعى بنفسه إلى ضاربيه.

وكان المشركون يعلمون ذلك من عمله ومن كلامه، ثم يعلمون أنه رد جواز خاله لأنه لا يريد أن يحتمي من ضربهم بذلك الجوار.

ومهما يبلغ من مهابة إنسان، فإن المهابة لا تمنع أن يتكاثر عليه عشرون أو ثلاثون وهم في حماسة الغيرة على العقيدة حول البيت وأصنامه. ثم ينجلي لهم الخطأ بعد التجربة (حتى يحجموا عنه ويفتر من طول الصراع) فيجلس وهم قائمون على رأسه يثلبونه، وتمنعهم مهابته مع ذلك كله أن يجهزوا عليه، وهو متعب بين الفتور.

وينبغي أن نذكر هنا أن حماسة الدين كانت تضاف إلى مهابة عمر بعد إسلامه، فإن حماسة المسلم لدينه كانت تزيد مهابته لهذا المسلم العظيم.

أما حماسة الدين في أنفس المشركين فقد كانت تثور على هذه المهابة ولا تضاف إليها. فهي هنا من أسباب الأجتراء وليست من اسباب التوقير.

وقصة الهجرة التي رواها علي رضي الله عنه هي كما قال: (ما علمت إن أحداً من المهاجرين هاجر إلا مختفياً إلا عمر ابن الخطاب، فإنه لما همّ بالهجرة تقلد سيفه وتنكب قوسه وأنتضى في يده أسهماً وأختصر عنزته ومضى قبل الكعبة والملأ من قريش بفنائها. فطاف بالبيت سبعاً متمكناً ثم أتى المحراب فصلى، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة يقول لهم: شاهت الوجوه. لا يرغم الله إلا هذه المعاطس! من أراد أن يثكل أمه أو يوتم ولده، أو يرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي. . .)

وقد عقبنا على ذلك فقلنا (إنه كان في تحديه هذا لقريش عدنان: شجاعته وعدله).

والطالب الأديب يقول إنه يرى في هذه القصة دليل الشجاعة ولا يرى فيها دليل العدل.

وليست الشجاعة والعدل نقيضين.

وإنما تعرف الصفات بالبواعث عليها، أو بالنيات كما قال النبي عليه السلام. فتكون الشجاعة على الظلم على قدر النفور منه وأنطباع النفس على الإنصاف.

ولو كان أبن الخطاب يقصد إلى الهجرة وكفى لما كانت به حاجة إلى هذا التحدي في حرم الكعبة.

ولكنه تحدي الظلم من فرط شعوره بالعدل.

وقد كان يشتد على المسلمين وهو مشرك، فليس من الإنصاف أن يتراجع عن المشركين وهو مسلم.

ولقد رأينا أن صديقه أبا بكر لم يستثره بكلمة حين أراد أن يستثيره لحرب الردة كانت أفعل في نفسه من قوله: أجباراً في الجاهلية وخوراً في الإسلام!.

فكانت شجاعته هنا منوطة بعدله، وكان عدله هو الذي أوجب عليه أن يقدم بعد إحجام، ولم يكن إحجامه لقلة الشجاعة فيه؛ بل أحجم حتى لمس موضع العدل في المعاملة، فأشفق أن يكون له ميزان في الجاهلية وميزان في الإسلام.

إن الشجاعة تصدر في النفس من بواعث كثيرة: تصدر من حب الأستعلاء فلا تبالي بظلم الضعفاء.

وتصدر من حب الإنصاف فلا تبالي بقوة الطغاة.

وتصدر من الطمع أو من السورة الحيوانية، أو من جهل العواقب، أو من غفلة الحس عن مواطن الخوف.

فأي هذه الشجاعات كانت شجاعة أبن الخطاب؟

إنها شجاعة الرجل المطبوع على العدل، والرجل الجريء على الظالمين، والرجل الذي يأبى أن يصيب مخطئاً وأن يسلم من المصاب ما أصيب غيره من المسلمين.

ولو لم يكن حب العدل مصدراً من مصادر تلك الشجاعة لكفاءة أن يهاجر، وأن يدخر شجاعته لمن يلقاه، حين يلقاه.

ولكنه تحدى المشركين؛ لأنه كان من قبل يتحدى المسلمين، وكان هذا التحدي هو المقصود. ولم تكن شجاعته هي المقصودة لأن شجاعته تثبت له بلقاء من يتعقبونه، حينما تعقبوه.

أما العدل فهو الذي يوحي اليه ألا يكون الظالم في نظره أعز من المظلوم.

ذلك هو عمر في صميم ضميره. شجاع لأنه عادل لا يقبل الظلم، وعادل لأنه شجاع يقدر على الظالمين. وقد تنفصل طبيعة الشجاعة وطبيعة العدل في نفس غيره. . أما في نفسه الشريفة فلا تنفصلان رحمه الله ونفع الناس بقدوته العالية ما ذكره الذاكرون.

عباس محمود العقاد