مجلة الرسالة/العدد 769/ومضات فكر

مجلة الرسالة/العدد 769/ومضات فكر

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 03 - 1948



للأستاذ أنور المعداوي

أفق. . . وأفق!

مسيو أندريه جيد - كما لا يخفى على القراء - عميد من عمداء الأدب الفرنسي المعاصر، وكاتب لم يشأ أن يحتل مكانه في الأكاديمي فسرانسيز، وهو بعد ذلك قد ظفر بجائزة نوبل للأدب عن عام 1947، ولكن منزلته الأدبية ظلت فترة طويلة وهي مترجحة بين آراء النقاد من خصومه وأنصاره؛ أما خصومه فينظرون إليه نظرة قوامها أن شهرته أكثر من علمه. وما زلت أذكر رأي الناقد الفرنسي هنري بيرو في أندريه جيد حين وصفه بأن عقيلته منظمة ولكنها قليلا ما تبدع، وأنه كاتب ضيق الأفق إذا ما قيس بغيره من أصحاب الآفاق الرحيبة! وكنت اقول لنفسي إن بيرو ينفس على الرجل شهرته، وإن رأيه فيه رأي أملاه الهوى ولعل ما بينهما من خصومة قد دفعه إلى أن يهاجم فنه بهذا النقد الذي يفيض قسوة ومرارة.

كنت أقول لنفسي هذا قبل أن أقرأ (الباب الضيق) لأندريه جيد، ورسالته إلى معربه حين سأله أن يأذن له بنقله إلى العربية. . . . ولكني رجعت بذاكرتي إلى الوراء بعد أن قرأت رسالة الأديب الفرنسي إلى معرب كتابه؛ رجعت بذاكرتي إلى رأي هنري بيرو في أندريه جيد حين وصفه بأنه كاتب ضيق الأفق إذا ما قيس بغيره من أصحاب الآفاق الرحيبة، وانتهت إلى أن بيرو قد يكون متجنياً في اتهاماته الأخرى، ولكنه لم يعد الحق حين رمى جيد بضيق الأفق! ولعل أقوى دليل يمكن أن أقدمه إلى القراء هو أن أنقل اليهم فقرات من رسالته إلى معرب كتابه (الباب الضيق) يقول فيها (. . . ترجمة كتبي إلى لغتكم؟ إلى أي قارئ يمكن أن تساق؟ وأي الرغبات يمكن أن تلبي؟ ذلك أن واحدة من الخصائص الجوهرية في العالم المسلم، فيما بدا لي، أنه وهو الإنساني الروح يحمل من الأجوبة أكثر مما يثير من أسئلة. أمخطئ أنا؟ هذا ممكن. ولكني لا إحساس قط كثير قلق في نفوس هؤلاء الذين كونهم القرآن وأدبهم. إنه مدرسة للطمأنينة قلما تغرى بالبحث، وهذا فيما أظن هو الذي يجعل تعليمه محدوداً! وأحسب أن ليس في كتبي كلها أبعد عما يشغل نفوسكم من كتابي (الباب الضيق)، فبم يستطيع هذا الظمأ الصوفي الذي صورته هنا أن يمس نفوساً هي قعيدة اليقين)؟.

إن رجلاً هذه نظرته إلى من كونهم القرآن وأدبهم لرجل ضيق الأفق ما في ذلك شك؛ وإن الحياة العقلية في الإسلام، تلك الحياة المليئة بالنضال الفكري في القرنين الأول والثاني للهجرة، والتي كانت ميداناً هائلا لتطاحن الآراء والأفكار حول هذا الدين وما يثيره في النفوس من قلق وجدل وأسئلة، لتزلزل كل كلمة من كلمات أندريه جيد. إنه لم يقرأ شيئاً عن الفرق الدينية المختلفة التي لنا في فضلها الفكري من أدب وعلم وفلسفة تراث قد تعتز به العربية على مر الأجيال! ولو أنه قرأ ما كتبه المستشرق الألماني جولد تسيهر عن العقائد الإسلامية، أو ما كتبه المستشرق الألماني لويس ماسينيون عن التصرف الإسلامي، لما هرف بما هرف، ولما أرسل القول على عواهنه، ولكنه كما قال هنزي بيرو بحق: كاتب ضيق الأفق إذا ما قيس بغيره من أصحاب الآفاق الرحيبة!

هذا أفق ضيق نضعه أمام أفق آخر لأديب آخر هو توماس كارلايل في كتابه (الأبطال)، ولو أن الزاوية التي نظر منها كارلايل إلى الإسلام تختلف عن الزاوية التي نظر منها جيد، ولكنها زاوية تضع الفارق من أجل الحلال وأشرفها ألا وهي التسوية بين الناس، وهذا يدل على أصدق النظر وأصوب الرأي، فنفس المؤمن راجحة بجميع دول الارض، والناس في الإسلام سواء، والاسلام لا يكتفي بجعل الصدقة سنة محبوبة بل يجعلها فرضاً حتماً على كل مسلم وقاعدة من قواعده، ثم يقدرها بالنسبة إلى ثروة الرجل فتكون جزءاً من أربعين من الثروة تعطى للفقراء والمساكين. جميل والله كل هذا، وما هو إلا صوت الإنسانية، صوت الرحمة والإخاء والمساواة ينبعث من فؤاد ذلك الرجل محمد أبن القفار والصحراء). . .

كلام أديب؛ حين يكون الأدب ومضة فكر، وخفقة قلب، واستجابة شعور. وحديث عالم؛ حين يكون العلم سعة إطلاع، ورجابه أفق، وسلامة تقدير!

كرامة فنان:

هذه قصة عن العبقري الإيطالي مايكل انجلو، قليلة الألفاظ ولكنها كثيرة المعاني. . . وتستطيع بعد قراءتها أن توافقني على أن خير عنوان يمكن أن يوضع لها هو هذا العنوان (كرامة الفنان).

إنها قصة فريدة تتمثل فيها غيرة الفنان على فنه، وثورته على كل من يمس كرامة العبقري أو ينال من جلالها، ولو كان المعتدي هو البابا يوليوس الثاني. . .! قرأت هذه القصة وعجبت كيف يجرؤ مايكل انجلو على أن يقف من البابا موقفاً لا يستطيع أن يقفه ملك من ملوك أوربا في القرن السادس عشر! ولكنه الفنان. . . الفنان الذي كان يشعر في أعماق نفسه أن قداسة فنه لا تقل منزلة عن قداسة الكنيسة!

لقد ترامت إلى البابا أنباء العبقري الشاب الذي بهر فلورنسة بعظمة آثاره الفنية في الرسم والنحت، فأرسل يستدعيه ليزين جدران القصر البابوي وردهاته بمعجزات فنه الخالد. . . .

ومثل رجل الفن أمام الدين، وكان لقاء أفاض فيه البابا على الفنان كثيراً من عطفه وتشجيعه. . . وحين طلب أنجلو مائة ألف (سكودي) أجراً لعمله قال البابا: فلتكن مائتي ألف يا سيدي!. . . وبدأ الفنان العظيم يستلهم الوحي في صوره وتماثيله، ويبعث فيها الحياة تنبض في كل ناحية من نواحيها، مما جعل يوليوس يحله من نفسه مكاناً لا يدانيه مكان. ودب الحقد والحسد في نفوس رجال القصر لهذه المنزلة الرفيعة التي حظى بها أنجلو فوشوا به إلى البابا. . . ويفاجأ يوماً بأحدهم يقول له في لهجة لا تخلو من وقاحة: (سيدي، لدي أمر من قداسة البابا بطردك من قصره، ويحسن بك ألا تريه وجهك بعد اليوم!) وفي كبرياء العظيم يودع أنجلو آثاره الحبيبة وقصر البابا وروما ومن فيها، تاركا له رسالة يخاطبه فيها بقوله: (أيها الأب المقدس، لقد أمرت بطردي من قصرك، ويؤسفني أنك ستحتاج اليّ مرة أخرى، فإذا احتجت ألي - وهذا أمر ليس منه بد - فعليك أن تبحث عني في مكان آخر. . . غير روما!).

ويستشعر البابا فداحة الخسارة بعد رحيله، ويسأل عنه فيعلم أنه في فلورنسة، فلا يسعه إلا أن يبعث إلى حاكمها برسالة يطلب إليه فيها أن يقدم اعتذاره لأنجلو، وأن يرجوه في أمر العودة مرة أخرى. . . ويمتنع أنجلو. . . وتصل رسالة أخرى إلى البابا يؤكد فيها اعتذاره ويلح في إحضاره. ويمعن أنجلو في التغاضي وتصل رسالة ثالثة فيصر أنجلو على أن يلقاه البابا في منتصف الطريق بين روما وفلورنسة. . . وقد كان!!

هل تستطيع أن تعثر في العالم كله، وفي تاريخ الفن كله، على فنان من هذا الطراز؟ لا أظن! إن مايكلانجو قد قدم أروع مثال يمكن أن يحتذيه فنان!

ترى لمن أهدى هذه القصة الفريدة في تاريخ الفن؟ أهديها إلى بعض الناس هنا في مصر، اولئك الذين دفعوا بكرامة الفن إلى الحضيض في سبيل مآربهم الشخصية والمادية. . زهل أسميه؟ كلا. إنهم يعرفون أنفسهم. . . ويعرفهم الناس!.

أنور المعداوي.