مجلة الرسالة/العدد 77/أثر السياسة الحزبية في الأخلاق
مجلة الرسالة/العدد 77/أثر السياسة الحزبية في الأخلاق
للأستاذ عبد العزيز البشري
لقد عرفت من حديث الأسبوع الماضي بعض الآثار التي أشاعتها الحكومات الحزبية المتعاقبة في أخلاق جمهرة الموظفين، الإداريين منهم بوجه خاص، حتى نجم في بلادنا ذلك الفن المحقور المرذول: فن إرضاء القائم ومشايعته في هواه، ومد حبل الولاء للمقبل ومقاسمته أنه صادق الولاء له، ولقاء هذا بوجه، وذاك بوجه أخر، والتحدث إلى هذا بلسان، وإلى ذلك بلسان أخر. ولاشك أن من شأن النجاح بمثل هذه الوسائل، وعصمة المنصب باتخاذها، أن يبعث كثيرا من الموظفين الآخرين على التباري فيها، والافتنان في طلب السبق بها. وهكذا تتميع الأخلاق تميعا، وتتحطم طباع الرجولة تحطيماً!
على أن أثر الحال لا يقتصر على الأخلاق فحسب، بل إنه ليدخل الاضطراب والاختلال على الأعمال العامة التي يعالجها هؤلاء الموظفون. فالموظف، في هذه الحال، يحب أن يرضي أشياع الحكومة القائمة، ولا يحب أن يسيء إلى خصومها من أشياع الحكومة المقبلة، ليتخذ اليد عندهم ليوم تتبدل الحال غير الحال. فهو يبين أن يسوق ما بين يديه من الأعمال تعويقا ليتحلل من المسئولية البتة، وأما أن يعمد إلى توزيع المنافع بين هؤلاء وهؤلاء على حساب المصلحة العامة. وفي الأول شل لحركة الأعمال الحكومية وتعود الاسترخاء عن الاضطلاع بالمسؤوليات، وفي الثانية عبث بحقوق العباد، وإخلال بمصالح البلاد، وفي كلتيهما شر عظيم وفساد كبير!
ولقد أمتد أثر هذه الحال إلى الأعمال الفنية العظيمة، فإن الحكومات الحزبية في بلادنا إنما تعمد، في العادة، إلى المشروعات الفنية التي هيأتها سابقتها، فتتناولها بالتغيير والتبديل، أن لم تتولها بالإلغاء والتعطيل. ولقد تكون قد جردت عليها وهي في المعارضة حملة حزبية شعواء، فأنظر، رعاك الله، موقف الموظفين الفنيين الذين هيأوا تلك المشروعات وأعانوا عليها من هؤلاء ومن هؤلاء!
وليس لهذا من أثر إلا أن ينقبضوا عن معالجة الأعمال الجسام، وأن يحتالوا على الخلاص منها طلبا للخلاص بأنفسهم من ألوان المسئوليات. وفي ذلك إثم في حق الفن وحق الوطن على بنيه من صفوة المتعلمين.
لقد سبق لي أن زعمت أن طبيعة قيام الحكومات الحزبية لا تدعو إلى شيء من كل هذا الاضطراب والتجلجل في أخلاق الموظفين ولا فيتصرف الموظفين، بدليل تعاور الحكومات الحزبية للحكم في جميع البلاد الدستورية، ومع هذا لم يسمع عن حال الموظفين بعض ما نسمع ونرى في هذه البلاد. وعللنا هذا بأننا نجتاز مرحلة سياسية خاصة لا أظن أنه يجتاز مثلها الآن بلدا آخر من بلاد الله.
وبمناسبة الحديث في اعتماد الحكومات القائمة مشروعات سلفها بالتغيير أو التعطيل، أذكر أن المستر سنودن، وهو من تعرف جبروتا وعظم كفاية، لما تولى وزارة المالية الإنجليزية في وزارة العمال، أراد أن يغير في شكل الميزانية، فيقدم هذا الباب على ذلك الباب، ويضيف من هذا الفصل لهذا الفصل، صمد له الموظفون الفنيون ومنعوه هذا منعاً، وقالوا له: إن لك أن تصنع بسياسة الدولة المالية ما تشاء، فتفرض من الضرائب ما تشاء، وتحط منها ما تريد، وأن تزيد ما ترى زيادته من وجوه النفقات، وتنقص ما ترى نقصه لك كل هذا، أما أن تدخل في الوضع الفني للميزانية فذلك ما لا سبيل لك إليه بحال! ويقتنع الرجل ويعدل عن هذا بنيته. فمتى نرى موظفينا على بعض هذه المتانة والثبات والإيمان؟
الذي أعتقده أن مثل هذا من السهل الميسور إذا أمن الموظفون سطوة الحكومات الحزبية بهم يوما يعصونها في طاعة الواجب والحق والقانون. فإذا زلت قدم الموظف، بعد هذا، أو مانع على ذمته وما ائتمن عليه من الحقوق العامة، كان جزاؤه النكال والوبال. فهل نطمع من حكومتنا في أن تعالج هذا فيما أخذت نفسها به من وجوه الإصلاح بعد إذ تفرغ من مهمة التطهير، واستخلاص الأداة الحكومية من هذا الفساد؟
هذا ما كان من شأن الموظفين، أما شأن الأعيان في بلادنا فأعجب وأغرب، إذا منعنا الحياء من أن نقول إنه أخزى وأفحش. فإننا إذا تمحلنا بعض المعاذير لأولئك من الحرص على مناصبهم، وإمساك أسباب العيش على أزواجهم وبنيهم، فإننا لا يمكن أن نصيب عذرا لهؤلاء. اللهم إلا إذا كان من بين الأعذار السائغة حاجة المرء إلى الجاه والسطوة، واغتصاب المنافع العامة، وقضاء حاجات الأهل والأقربين، ولا ينال هذا إلا إذا وضع على رأسه ذمته، وعقيدته، وكرامته، وراح ينادي عليها فعل الباعة المضطربين بسلعهم في الأسواق.
اللهم إنه لا يعيب المرء مطلقا أن يتغير رأيه في شيء من الأشياء، ولو من صواب في الواقع إلى خطأ في الواقع ما دام الأمر موصولا بصحة الاعتقاد، ولا يعيب المرء مطلقا أن يهجر حزبا ويتصل بحزب أخر طوعا لتغير عقيدته في الحزبين جميعا. بل العيب كل العيب في ألا يفعل، وإلا كان أثما أبلغ الإثم في حق وطنه، مأخوذا في تعصبه بحمية الجاهلية التي هجنها الله تعالى في كتابه العزيز. ماذا يعيب المرء إذا تكشف له خطأ رأيه فعدل عنه إلى الصواب؟ وماذا إذا رأى شيعته قد انحرفت عن القصد، وعبثت بما رسمت من المبادئ في توجيه سياسة البلاد؟ بل الذي يعيبه كل العيب ألا يفارقها إلى من هو أصدق منها في تحقيق كريم الأغراض!
لو أن أولئك الأعيان إنما يتحولون ويضطربون بين الأحزاب المختلفةطوعاً لرأي يعتريهم، أو عقيدة تدخلها الظروف عليهم، لما استحقوا إلا الحمد والثناء. أما وهم صامدون بآرائهم وعقائدهم لكل حزب يتولى الحكم، فيهرولون لساعتهم إليه، ويعلنون انضوائهم تحت لوائه، ولا يتوانون في كل مناسبة عن الآذان بأنه الحزب الصادق السعي في تحقيق آمال البلاد، حتى إذا ما أدال الله منه بالحكم لحزب غيره، سرعان ما ولوا وجوههم شطره فأعلنوا أنهم بمبادئه مؤمنون، وأنهم تحت لوائه منضوون، لأنه قد بان لهم أنه الحزب لا حزب غيره، الصادق السعاة في إصلاح الحال، القادر الكفء لتحقيق أعز الآمال!
وهكذا دواليك لا يعقد عن هذا الرقص والحجلان وقار ولا تحشم ولا حياء، حتى أصبحوا على البلاد من أشنع المعرات، وحتى هونوا على غيرهم شأن الكرامة، وأرخصوا في الناس فضيلة الحياء، وأعلنوا أن المبادئ والعقائد مما يباع ويشترى، وأن الأهواء الحزبية مما يؤجر ويكترى، وليس في إطلاق هذا الصنع على ازلاله إلا إفساد الأخلاق، وتوطئ النفوس لقبول الضمة والهوان.
بعد، فقد تقتضيني الرأي في علاج هذا الداء، ولعله يتعاظمك هذا العلاج! اللهم إن علاج هذا لداء في بعض هؤلاء الأعيان، فإنه ما دام الحكم جارية أسبابه على مقتضى النزاهة والعدالة، والحرص على إقامة حدود القوانين، بحيث يصل المرء إلى حقه في يسر، وبحيث يحال بين المرء أيا كان وبين أن يبلغ ما لا حق له فيه بحال - لم يبق بأحد حاجة إلى اللف والدوران، والرقص والحجلان، والتشكلفي مختلف الصور، والتلون بشتى الألوان، فهل نحن فاعلون!
عبد العزيزالبشري