مجلة الرسالة/العدد 77/محاورات إفلاطون

مجلة الرسالة/العدد 77/محاورات إفلاطون

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 12 - 1934


5 - محاورات إفلاطون

معذرة سقراط

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

قد يذهب بكم الظن إني إنما أتحداكم بهذا كما فعلت حينما حدثتكم عن الضراعة والبكاء، كلا فليس الأمر كذلك، إنما أقول هذا لأنني اعتقد إني لم أسيء إلى أحد عامدا، ولا أظنني قادرا على إقناعكم بذلك في هذا الحوار القصير، فلو كان في أثينا قانون، كما هي الحال في سائر المدن، لا يبيح حكم الإعدام في يوم واحد، لاستطعت فيما اعتقد أن أقنعكم، أما الآن فالفترة وجيزة، ولا يمكنني أن ادحض في لحظة هؤلاء المدعين الفحول، وان كنت كما ظننت لم أسيء إلى أحد فلن أتقدم بالإساءة إلى نفسي قطعا. وإذن فلن اعترف بنفسي باني حقيق بالسوء، ولن اقترح عقوبة ما. ولماذا افعل؟ اخوفاً من الموت الذي يقترحه مليتس؟ على حين إني لا اعلم ان كان الموت خيرا أم شرا! لماذا اقترح عقابا فيكون شرا مؤكدا لا مفر منه؟ أأقترح السجن؟ ولماذا أزج في غياهبه فاكون عبدا لحكام هذا العام - اعني الأحد عشر؟ أم اقترح أن أعاقب بالتغريم، وان اسجن حتى تدفع الغرامة؟ فالاعتراض بنفسه قائم، لأنني لابد أن البث في السجن لأنني لا املك مالا ولا أستطيع دفعا. وان قلت النفي (وربما قر رأيكم على هذه العقوبة) وجب أن يكون حب الحياة قد أعمى بصيرتي، لأنكم وانتم بنو وطني لا تطيقون رؤيتي ولا تسيغون كلامي، لأنه في رأيكم خطر ذميم، فوددتم لو نجوتم من شري عسى أن يطيقه سواكم، فما حياتي في هذه السن، ضاربا من مدينة إلى مدينة، مشردا أبدا، طريدا دائما، يلفظني البلد في اثر البلد، فما ارتاب في التفاف الشبان حولي أينما حللت كما فعلوا هنا، فلو نفضتهم رغبوا عني إلى أوليائهم في طردي فاستجابوا لرجائهم، ولو تركتهم يسعون إلى طردني آباؤهم وأصدقاؤهم صونا لأنفسهم.

رب قائل يقول: نعم يا سقراط، ولكن ألا تستطيع أن تمسك لسانك حتى إذا ارتحلت إلى مدينة أخرى ما اشتبك إنسان معك؟ وعسير جدا أن أفهمكم جوابي عن هذا السؤال، فلو أنبأتكم أني لو فعلت لكان عصيانا مني لأمر الله، ولذلك لا املك حبسا للساني، لما صدقتم أن يكون جدا ما أقول. ولو قلت بعد ذلك إن اعظم ما يأتيه الإنسان من خير هو أن يحاور كل يوم في الفضيلة وما يتصل بما سمعتموني أسائل فيه نفسي وأسائل الناس، وإن الحياة التي تخلو من امتحان النفس ليست جديرة بالبقاء، كنتم لهذا اشد تكذيبا، ولكني لا أقول إلا حقا وان عز علي إقناعكم بصدقه. إني لم اعهد نفسي جارمة تستأهل العقاب، ومع ذلك فلو كان لدي مال لاقترحت أن أعطيكم ما املك، ولم يكن ذلك ليضيرني في شيء، ولكنكم ترون إني لا املك مالا، لا بل أظنني قادرا دفع مينة واحدة (المينة تساوي مائة دراخمة) ولذا اقترح هذه العقوبة. إن أصدقائي: افلاطون، وكريتون، وكريتوبوليس، وابولودورس، وهم بين الحاضرين، يرجون مني أن أقول ثلاثين مينة، يضمنون هم دفعها، حسنا، إذن فاحكموا بثلاثين مينة، ولتكن هي عقوبتي، واحسب هؤلاء كفلاء بدفعها.

أيها الأثينيون! لن تفيدوا بقتلي إلا أمدا قصيرا، وستدفعون له ثمنا ما تنطلق به السنة السوء تذيع عن المدينة العار. ستقول عنكم أنكم قتلتم سقراط الحكيم، فسيدعوني وقتئذ بالحكيم وان لم اكن حكيما تقريعا لكم. ولو صبرتم قليلا لظفرتم بما تبتغون بطريق طبيعية، فلقد طعنت في السن كما ترون، ودنوت من اجلي. إنما أسوق هذا الحديث إلى هؤلاء الذين حكموا علي بالموت، واحب أن أضيف إليهم كلمة أخرى: قد تحسبون ان اتهامي جاء نتيجة لعي لساني، فلو قد أثرت أن افعل كل شيء وان أقول كل شيء، لجاز لي أن اظفر بعفوكم، ولكني لم افعل ذلك، فليس عيا في لساني ما أدى إلى ادانتي، ولكنه ترفعي عن القحة والصفاقة، وصدوفي عن مخاطبتكم بما كنتم تحبونني أن أخاطبكم به: بالعويل والبكاء والرثاء، وان أقول وافعل كثيرا مما تعودتم استماعه من الناس، وهو لا يجمل بي كما ذكرت، فقد رأيت واجبي ألا أتبذل في العمل، أو آسف في ساعة الخطر، ولست آسف على ما سلكت من طريق للدفاع، فإني لأؤثره خطتي التي رسمتها ولو أدت بي إلى الموت، على أن اصطنع خطتكم احتفاظا بالحياة. فلا يجوز لإنسان في ساحة الوغى أو أمام القانون أن يتلمس أي سبيل فرارا من الموت، فلو القي المحارب بسلاحه في المعمعة، وجثا على ركبتيه أمام مطارديه لظفر غالبا بالنجاة من الموت. ولكل ضرب من ضروب الخطر طرق للنجاة من الهلاك، إذا لم يتعفف المرء عن كل قول وكل فعل مهما يكن شائنا. فليس عسيرا أيها الأصدقاء إن تفر من وجه الموت، ولكن العسر كل العسر في تجنب الأخلاق الفاسدة. فالفساد والموت يعدوان في أعقابنا، ولكن الفساد أسرع من الموت عدوا. فأنا الذي اكتهلت، إنما أسير سيرا وئيدا، فيكاد يدركني أبطأ العادين، أما المدعون فسراع متحمسون. وسيلحق بهم أسرعهما - اعني الفساد. وبعد، فسأترك موقفي هذا، وقد جرى على قضاؤكم بالموت، وكذلك هم سينطلقون كل إلى سبيله، وقد قال فيهم الحق كلمته، بان يعانوا ما هم فيه من ضعة، ولا بد لي أن اخضع لما حكم علي به، وعليهم كذلك أن يرضوا بما كتب لهم. احسب أن قد جرى القدر بهذا جميعا، فعسى أن يكون خيرا، ولا احسبه إلا كذلك.

وبعد، فيا هؤلاء الذين اجروا علي قضاءهم، هاكم نبوءتي التي احب أن أبلغكم إياها، لأني مشف على الموت، وتلك ساعة يوهب فيها المرء مقدرة على التنبؤ. أتنبأ لكم يا قاتلي بأنه لن يكاد ينفذ حكم الموت حتى ينزل بكم ما هو اشد من ذلك الذي هولا. لقد حكمتم بموتي، لأنكم أردتم أن تفلتوا من ذلك الذي يتهمكم، ولكيلا تحاسبوا على ما قدمت أيديكم، ولكن لن يكون لكم ما ترجون، بل نقيضه. فسيكون متهموكم أوفر عددا منهم اليوم، إذ سيهب في وجوهكم من كنت مسكنهم حتى الآن، وسيكون أولئك اشد قسوة عليكم لأنهم دونكم سنا، وسيذيقونكم من العذاب اكثر مما تذوقون اليوم، فان حسبتم إنكم خالصون من متهمكم بقتله، كي لا ينغص عليكم عيشكم، فانتم مخطئون، إذ ليست تلك سبيلا مؤدية إلى الفرار، ولا هي مما يشرفكم، وايسر من ذلك واشرف ألا تهاجموا الناس، بل تبادروا بإصلاح أنفسكم. تلك هي نبوءتي التي ابلغها إلى القضاة الذين حكموا علي، قبل رحيلي.

وانتم أيها الأصدقاء الذين سعوا إلى برائتي، احب كذلك أن أتحدث إليكم عما وقع، عندما يشغل الرؤساء، وقبل أن اذهب إلى مكان مدني، فالبثوا قليلا، لأننا نستطيع أن يتحدث بعضنا إلى بعض ما دامت هناك فسحة من وقت. انتم أصدقائي، واحب أن أدلكم على معنى هذا الذي وقع. يا قضاتي - فأنا أدعوكم قضاة بحق - احب أن أحدثكم بأمر عجيب، لقد كانت مشيرتي حتى الآن، تلك المشيرة التي عهدتها في دخيلتي، لا تفتا تردني في توافه الأمور، أنكنت مقدما على زلل أو خطا في أي شيء، والآن - كما ترون - قد داهمني ما يحسبه إجماع الناس أقصى الشرور واقساها، ولم تلوح لي مشيرتي بعلامة العارضة حينما تركت داري في الصباح. ولا حين كنت اصعد إلى هذه المحكمة، ولا حين ألقيت كل ما اعتزمت أن أقوله، ومع أني عورضت كثيرا أثناء الحديث، إلا إن المشيرة لم تعارضني في كل ما قلت أو فعلت مما يتصل بهذا الأمر، فبم أعلل هذا، وكيف افهمه؟ سأخبركم: أني اعد هذا دليلا على ان ما حدث لي هو الخير، ويخطئ من يظن منا إن الموت شر. هذا دليل ناهض على ما أقول، لان الإشارة التي عهدتها لم تكن لتتردد في معارضتي لو كنت مقبلا على الشر دون الخير.

لنقلب النظر في الأمر، وسنرى إن ثمة بارقة قوية من الأمل تبشر بان الموت خير. فإحدى اثنتين: أما أن يكون الموت عدما وغيبوبة تامة، وأما أن يكون كما يروى عنه الناس تغيرا وانتقالا للنفس من هذا العالم إلى عالم آخر. فلو فرضتم فيه انعدام الشعور، وانه كرقدة النائم الذي لا تزعجه حتى أشباح الرؤوس، ففي الموت نفع لا نزاع فيه، لأنه لو أتيح لإنسان أن يقضى ليلة لا يزعج نعاسه فيها شيء، حتى ولا أحلامه، ثم قارنها بما سلف في حياته من ليال وايام، وسئل بعد ذلك: كم يوما وليلة قضاها بين أعوامه وكانت أبهج من تلك الليلة واسعد؟ فلا احسب أحدا - ولا اختص بالقول أحدا - بل لن يجد حتى اعظم الملوك بين أيامه ولياليه كثيرا من أشباهها. فإذا كان الموت كهذا فانعم به، وليس الخلود إذن إلا ليلة واحدة! إما أن كان الموت ارتحالا إلى مكان آخر، حيث يستقر الموتى جميعا كما يقال، فأي خير يمكن أن يكون اعظم من هذا أيها الأصدقاء والقضاة! وإذا كان حقا انه إذا بلغ الراحل ذلك العالم السفلي، خلص من أساطين العدل في هذا العالم، وألفى قضاة بمعنى الكلمة الصحيح، إذ يقال إن القضاء هناك في ايدي مينوس، ورادامنتوس، وايكوس، وتربتوليموس وسائر أبناء الله الذين عمروا حياتهم بأقوم الأخلاق، فما احب إلى النفس ذاك الارتحال! وهل يضن الرجل بشيء إذا أتيح له أن يتكلم مع اورفيوس، وموسيوس، وهزبود، وهوميروس؟ كلا، لو كان هذا حقا فذروني أمت مرة ومرة، فسأصادف متاعا رائعا في مكان أستطيع فيه أن أتحدث إلى بالاميدس، واجاكس بن تلامون، وغيرهم من الأبطال القدامى الذين تجرعوا المنون بسبب قضاء ظالم، ولا أظنني حين أقارن الآن آلامي بآلامهم إلا مغتبطا مسرورا. وفوق كل هذا فسأتمكن من استئناف بحثي في المعرفة الحق، والمعرفة الزائفة، وكما فعلت هنا سأفعل في العالم الثاني، وسأكشف عن الحكيم الصحيح، وعمن يدعي الحكمة باطلا. بماذا يضن الرجل أيها القضاة إذا أتيح له أن يمتحن قائد الحملة الطروادية الكبرى أو اوذيس، او سسفوس وغير هؤلاء ممن لا يقعون تحت الحصر رجالا ونساء؟ إلا ما أعظمها غبطة لا تحد، تلك التي أجدها في نقاشهم ومحاورتهم، لأنهم في ذلك العالم لن يقضوا على أحد بالموت من اجل هذا. كلا ولا ريب، هذا فضلا عما يصادفه الناس في ذلك العالم من سعادة عزت على هذه الدنيا، فان صح ما يقال فهم ثمة خالدون.

فابتسموا إذن للموت أيها القضاة، واعلموا علم اليقين انه يستحيل على الرجل الصالح أن يصاب بسوء لا في حياته ولا بعد موته، فلن تهمله الآلهة، ولن تهمل ما يتصل به، كلا، وليست ساعتي الآزفة قد جاءت بها المصادفة العمياء، فلست ارتاب في أن الموت مع الحرية خير لي، ولذلك لم تشر مشيرتي بشيء.

ولست لهذا غاضبا من المدعين، أو ممن حكموا علي، فما نالتني منهم إساءة، ولو أن أحدا منهم لم يقصد إلى أن يعمل معي خيرا، وقد أعاتبهم لهذا عتابا رقيقا.

وان لي عندهم لرجاء. فأنا التمس أيها الأصدقاء، إذا ما شب ابنائي، ان تنزلوا بهم العقاب، واحب أن تؤذوهم كما آذيتكم، وذلك أن بدا منهم اهتمام بالثروة، أو بأي شيء، وكانوا في حقيقة الأمر لا شيء. إذن فانحوا عليهم بالأئمة كما فعلت معكم، لإهمالهم ما ينبغي أن يبذلوا فيه عنايتهم، ولظنهم انهم شيء على حين انهم في الواقع لا شيء. فإذا فعلتم هذا، أكون قد نالني ونال أبنائي العدل على أيديكم.

لقد أزفت ساعة الرحيل، وسينصرف كل منا إلى سبيله - فإنا إلى الموت، وانتم إلى الحياة، والله وحده عليم بأيهما خير.

(يتبع)

زكي نجيب محمود