مجلة الرسالة/العدد 770/إلى الشرق العربي المجاهد:

مجلة الرسالة/العدد 770/إلى الشرق العربي المجاهد:

مجلة الرسالة - العدد 770
إلى الشرق العربي المجاهد:
ملاحظات: بتاريخ: 05 - 04 - 1948



ذكريات أجناس

للأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله

(كان المرج واسعاً والماء صافياً نيراً، والعشب أخضر ملتفاً، يغرى بالرعي سارح السوائم. وقطيع البقر يجرى ههنا وههنا طاعماً من الكلأ، شارباً من الماء، موقناً أنه نامت عنه المقادير

كان ذلك كذلك، حين جاء أول إنسان، وقاد أول ثور ليضع على عنقه النير، ثم أجرَّه المحراث وشق به الأرض).

هذا ما قاله الثور الأسود والزبد يسيل من شدقيه ولا يكاد يستطيع أخذ أنفاسه، حين وقف تحت الشجرة إلى جانب الثور الأبلق لينالا علفهما ثم يعودا يحملان النير.

ولم تكن ذكريات الحرية الأولى التي أفضها على صاحبه لتخفف مما يعانيه هو. بل احمرت عيناه، ولوَّح بقرنيه في الهواء كأنما يغالب ما يدفعه إلى أن يفتك بهذا الحراث الغشوم. ولم يكن قد وضع رأسه في المذود ساعة استعاد ذكريات ماضيه الحر، كلا ولا وضع رأسه بعدها. على حين كان صاحبه يأكل التبن أكلاً لمَّا غير مبال بما يخالطه من زبد يسيل من شدقيه. فقال الأسود:

أنت يا صاحبي هادئ لم تثر في نفسك ذكريات الحرية ما قد أثارته في نفسي حتى صدتني عن الطعام. فلم يرفع الأبلق رأسه من المذود المشترك، بل مال عليه بصفحة وجهه يقول ساخراً: هيه هيه أيها المغرور!! لعلك ابن بقرة فيلسوفة قصت عليك ما حفا به تاريخنا في القديم من سعادة كخيال الأساطير. وهب هذا صحيحاً فما أنت فاعل؟ يجب أن تسلم أيها الخيالي بأن عنقك هذا القوى الغليظ لم يغلق هكذا إلا للنير.

فضرب الأسود بحافره الأرض حفاظاً وغيرة، ثم خار خورة مكتومة قال على أثرها:

- أنت يا صاحبي مظلم الغريزة مخطئ الإلهام؛ فأعناقنا لم يبد هكذا إلا لأن جدَّنا الأول حمل النير يوم قاده الطاغية من مرجه الجميل فغلظ عنقه شيئاً ورثه ابنه من بعده. ثم ما زال هذا الميراث السيئ يظهر أكثر وضوحاً على تعاقب الأجيال حتى خلقت أنا وأنت على نحو ما ترى. فتوارث العيوب وإقامة الأجيال على البغيض من أكبر البلايا التي تمن بها الجماعات. فلو أن الثور الأول رفض النير ما حمله الثاني من بعده. على أن الثاني ليس خالياً من التبعة كذلك، لأنه لو رفضه ما حمله الثالث وبتتبع حلقات السلسلة نصل إلى أنني وإياك يجب أن ننزل النير من على عواتقنا لنخلّص منه سلالاتنا المقبلة.

قال الأبلق وقد كف عن الأكل: لكنك في كل ما قلت تناقض مبادئ الخلقة، لأنني لا أكاد أرى نوعاً سوانا يصلح لحمل الهوان الذي نحن فيه.

فقال الأسود: لم يكذب ظني فيك فأنت حقاً مظلم الغريزة! لماذا أكلف نفسي عناء البحث عن جنس آخر يحمل النير من بعدنا؟! نريد أن نتخلص منه، ثم ليحمله الشيطان أو ليحمله الحرَّاث نفسه.

وكل ما أستطيع أن أجزم به هو أن الثور الأول لم تكن خلقته على ما نحن عليه. فلا بد أنه كان رقيقاً لطيفاً فيه من الظباء مشابه كثيرة؛ ولما صاحبه الاستعباد أتلف نسله على مرِّ الزمن.

أما سمعت عن قصة الغراب؟ لقد كان يمشى في الزمان الخالي على رجليه باعتدال، ثم طرأ عليه ما هو خارج عن خلقته فمشى على رجل واحدة وقبض الأخرى حين فشل في محاكاة العصفور ونسى مشيته الأولى!! آه. . . ثم كان الغربان على ما تراها الآن مشيها وثب: لقد ذكرني بنفسه، ها هو ذا قادم أتاه؟؟ إنه آت ليلتقط حبات الفول من أمامنا في المذود.

وتهافت الغراب باحثاً عن الحب، فطرده الأسود برأسه، ثم عاد فطرده مرة أخرى. فوقف فوق الشجرة، وترجح بأحد الأغصان، وأدار رأسه ذات اليمين وذات الشمال كأنه يفتش عن أحد من جنسه، ثم شرع يقول للأسود:

سمعت ما قلته عن الغربان أيها الملعون وأنا في طريقي إليك. لقد أورثني أبى عرجاً ولم يورثني عبودية. وهاأنذا أسخر منك قادراً على أن أسخر ممن استعبدك كذلك، فانظر ما أنا فاعل. . . أنا ابن الهواء الطلق وسليل ذوائب الأشجار.

ثم أطلق سلسلة نعيب تشاءم الحراث منها فقام عن طعامه وقذفه بحصاة، ولكنه طار عن الشجرة ساخراً مزهواً. . .

فاض على الثور الأبلق غيظ من أن سخر من جنسه ضعاف الأجناس، فرفع رأسه عن طعامه ناظراً إلى الأسود بعينين ملتهبتين كذلك كأنه يسأله ماذا يجب أن يعمل؟ يا لتراجع الحظ! أيسخر منا كل جنس حتى الغربان؟!

قال الأسود: وأخيراً آن لك أن تعلم أنك مغلوب، وأننا كنا من قبل في مرج خلق لنا وخلقنا له، يوم خص الله كل جنس بطعام ومكان!! وبقيناهكذا حتى حجزنا الظلم عن مرعانا ومرَّ الزمان ومرَّ حتى خيَّل إليهم أنه علينا حرام. . .

كان الحرَّاث قد فرغ من طعامه واضطجع قليلاَ على أحد جانبيه وعيناه إلى الثورين، فرأى الأسود لم ينل من علفه شيئاَ على حين أكل الأبلق قليلا ثم كف. فقام إلى الأسود يمسح ظهره ويطرد عن عينيه الذباب، ثم حل رباطه وأورده الماء، وأعاده إلى مكانه، ثم رمى أمامه حفنة من الفول خصه بها وعاد فاضطجع من جديد في هدوء شديد يرقب ويرى ماذا يكون؛ فتبادل الثوران نظرات السخرية حين رأيا أنه حابى الأسود ولم يهويا إلى علفهما بفم.

ومرت لحظات قام الحراث من بعدها إلى الأسود يصب عليه سوطه ثم جرهما معاً إلى المحراث ولم ينزل عنهما النير إلا بعد أن غابت الشمس.

أوى الرعاة إلى الأكواخ، وأوت السوائم إلى الحظائر، وسكن الليل فهاجت هواجس المكروبين.

ورقد الأسود بجوار الأبلق يجتران على المربط علف المساء ويراجعان حديث الصباح فقال الأبلق:

لقد كفرت بالذي قلت لي في الصباح يا صاحبي لأنني فكرت وأنا هادئ. ويخيل إِليَّ أنه كما ينسجم البلح على النخل، وينسجم الجميز على شجر الجميز، لا ينسجم النير إلا على أعناق الثيران!! تصوره مرة على رقبة جمل، ثم تصوره أخرى على رقبة زرافة، تحكم ولا شك بأنه شاذ غريب.

فنطحه الأسود برفق ليثوب إليه رشده، ثم قال:

لن ينزل عن عنقك النير حتى تؤمن بأنه لم يخلق لك. ولو رآه الناس على رقاب الجمال والزرافات طوال القرون التي رأوه فيها على رقابنا، لآمنوا وآمنت معهم بأنها خلقت للنير. إن طول الألفة للمكروه يقربه من أن يكون في نظر الضعيف حقاً، على أن الأقوياء يرقون دائماً من حسن إلى جميل ومن تل إلى جبل.

ثم قام واقفاً على رجليه وخار خواراً عنيفاً هز أرجاء الحظيرة حتى ظن الأبلق أنه باطش به لا محالة، وقال: لا تعتبرني مغالياً إذا قلت لك: لو رأى كل ما يسكن الأرض من دابة أن البشر من قديم تحت سلطان البقر لألفت دواب الأرض كلها هذا الوضع!!

الأمر في أوله مصادفة يا صاحبي، ثم تألفت العين ما فعلته المصادفة، حتى يقال بعد طول السنين: يجب أن يكون هذا هو الجنس الغالب.

فقال الأبلق خائفاً لاهثاً: وماذا أنت مقترح أن تفعل؟! اهدأ قليلا لئلا يسمع الحراث!!

فقال الأسود: ألا فليسمع فإني أريد أن يسمع: المرج لنا كما قد خلقه الله.

قال الأبلق: وهل ينجيك هذا من النير والمحراث عند ما تشرق الشمس؟!

فرد صاحبه: لن ينجينا من الاستعباد إلا أن نعتصم كلنا بالمرج، فإما أن يكون لنا الكلأ الأخضر، وإما أن يكون لنا الموت الأحمر.

(وهجع المظلومان حتى الصباح، ولم يكونا نائمين، لأن شبح النير أفسد عليهما المنام!!). . .

محمد عبد الحليم عبد الله