مجلة الرسالة/العدد 770/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 770/الكتُب

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 04 - 1948



حديث الصومعة

رسائل من إبراهيم الدباغ لمصطفة الدباغ

ألا رحم الله إبراهيم الدباغ الشاعر الناثر الفكه الخفيف الروح، فقد كان محدثاً طليّ الحديث يحب المرح والمفاكهة، ويرى في الحياة المرسلة على السجية فلسفة ومنهجا. فلم يكن يخضع حديثه - أو شعره - للقيود التي تفرضها حياة المجتمع، ولم يكن يقول: هذا جائز خلقياً وهذا غير جائز، بل كان يمضي في الحديث مسترسلا إلى حيث يقوده، وينظم الشعر كيفما واتته القريحة. ولعل هذا سبب من الأسباب التي تحول دون نشر جانب كبير مما قرضه من الشهر، ودون تسجيل كثير من المساجلات الفكهة التي اشترك فيها الدباغ في صومعته مع زائريه وخلانه.

وكان الدباغ منذ عام تسعة وعشرين وتسعمائة وألف يبعث إلى ابن أخيه الأستاذ مصطفى الدباغ في فلسطين رسائل يطويها على آراء له، ونصائح يبديها، ودروس في اأدب والشعر يسوقها متحللا من المجاملات الشخصية، متذرعاً بالصراحة السافرة التي قد تغضب المعنيين.

وقد تجمع للأستاذ مصطفى الدباغ من رسائل عمه إبراهيم الدباغ طائفة كبيرة، فآثر أن ينشرها ويذيعها كما هي ليطلع القارئين على ما كان يعن لهذا الشاعر الفلسطيني من رأي، وعلى ما كان يعتنقه من منهج يجعله ديدنه في الحياة.

وفي هذه الرسائل تعرض لكثيرين من الأدباء في مصر وفي غير مصر، وأصدر في كل منهم حكما يتسم بالصراحة والإبانة وقال في كل منهم قولا فامتدح من رآه أهلا للمديح وذم الذين عدهم مستأهلين للمذمة.

ولنذكر على سبيل التسجيل طائفة من آرائه في المعاصرين والمحدثين من أهل الأدب.

قال في الدكتور شبلي شميل: كان شبلي يغضب للإلحاد، لا لرب العباد، ويسب الدين والديان، إذا عارضه في نظرية القرود إنسان.

وقال في الدكتور زكي أبي شادي: الدكتور أبو شادي سريع الخاطر في إنشاد القصائد، شغوف (كذا) بإذاعتها على علاتها.

وقال في الدكتور زكي مبارك: إن نشاطه ومثابرته في الحياة الأدبية والاجتماعية ليست في حاجة إلى التدليل، وآثاره تملأ الأفق وتحجب ضوء الشمس، والنثر الفني جهاد سبع سنين مع غيره من المشاغل، وقد ظهر له خلال هذه السبعة الأعوام طائفة من الكتب ولم نسمع عنه أو منه تبرماً بالوقت والناس. وهو يدون كل ما يقع تحت حسه ونظره فلا تفلت منه شاردة ولا واردة إلا وألقى لها رخاً من عقله وبازياً من براعته، وهذا ما يجب على كل أديبيحس بالحياة ويشعر بلذة العمل.

وفي الشيخ نجيب شاهين: على حديثه مسحة القرآن وأثر الاقتباس ولغته مبتذلة مع ما فيها من رنة الطربَ.

وقال في طه حسين: أعتقد أن مؤلفته كلها عقيمة، وليست ذات قيمة

وفي سلامة موسى: إنه وطه حسين أشد بخلا وإمساكا مما يتصور المتصورون، وعلى العكس مبارك وخليلمطران فلاهما مكساب مهلاك.

وفي الشعراء: بعد شوقي لا يليق أن يكون كبير شعرائنا أحد غير واحد من هؤلاء الثلاثة. مطران. محرم. الكاشف.

فالقارئ يرى أن الدباغ لا يفتقر إلى الجرأة ولا يخشى أن يصدر الرأي في قوة وثقة. وقد نختلف معه في كثير مما أرتاه ونعارضه في بعض المذاهب الاجتماعية التي دعا إليها، ولكن هذا لا يحول دون أن نذكر له أنه صاحب رأي يعرف كيف يلقيه مغمض العينين غير مبال بما يكون له من دوي.

ولقد كف بصر إبراهيم الدباغ قبيل وفاته بسنوات وسنوات فكانت هذه الملمة مدعاة لانطوائه على النفس ونفوره من الناس وإيثاره الانزواء وقعود الدار عن مخالطة أهل ندوته. وما فتئت الأمراض تقبل عليه وتنهش بدنه حتى كانت منيته ذات يوم، ونعاه الدكتور زكى مبارك وشيع بنفسه جنازته.

وهذه المحن - فيما يبدو من رسائل الدباغ - جعلته برماً بالحياة ضيقاً بكل ما فيها، أقرب إلى التشاؤم منه إلى التفاؤل وإن كانت هذه الظاهرة لم تستطيع أن تأتى على محبته للفكاهة وتعلقه بها.

وحديث الدباغ في رسائله التي جمعت في كتاب (حديث الصومعة) حديث متشعب مستفيض يبدأ من مكان وينتهي إلى آخر ويمر في الطريق على ألوان شتى من الأفكار. ولكن هذا الحديث مشوق مبعد للملل يهيئ لك أنك تصغي بنفسك إلى إبراهيم الدباغ وتجلس معه مرهفاً السمع مصيخاً الأذن. ولك إن شئت أن تقاطعه وأن ترد عليه، لأن الجريء في إذاعة الرأي، واسع الصدر لقبول كل رأى.

وديع فلسطين

السيد البدوي

تأليف الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف

من هو (المريد) في اصطلاح المتصوفين؟ هو - إن لم أكن نسيت ذلك الذي يفنى في شيخه ويجعل حياته كلها طاعة وتجردا وعبادة. يأمر الشيخ فيطيع (المريد) وشيخ المريد هو قلبه الخافق، وهو عينه الباصرة، وهو وعيه، وهو إرادته. الدنيا بما حوت هي الشيخ في عين المريد، والطريق إلى الجنة في الآخرة هو الشيخ. . . هذا هو (المريد) وهذا هو شيخه.

فمن هو شيخ (المريد) محمد فهمي عبد اللطيف؟ العلم والأدب والتاريخ، هذه الأقانيم الثلاثة شيخ واحد!! له المجد، وله العلى، وفي سبيل طاعة هذا الشيخ يفنى (المريد) محمد فهمي عبد اللطيف، وإذا قلت: يفنى، فإنني أعنى مدلول هذه الكلمة في غير كناية أو مجاز. . . لأن صاحبنا يفنى حقاً في سبيل شيخه المثلث الرحمات!!

لقيته - أول ما لقيته - في ندوة دار الكاتب المصرية، منذ خمسة عشر عاماً. وكان طالباً يحصل العلم نهاراً، ويعمل في الصحافة ليلاً، لقيته في أولى مدارج شبابه، ناحل الجسم، فلوى العود، مضعضع البنيان، تراه فكأنك ترى شيخاً أوقرت ظهره السنون، ويتحدث الرفاق في ندوة الدار شتى الأحاديث، ويتشعب القول في شئون الحياة وفى أحداث السياسة، وصاحبنا صامت لا يتكلم، ويدور الحديث على كل لسان، وحديث صاحبنا الذهول والاطراق!

فإذا عرج المتحدثون على العلم أو الأدب أو التاريخ، أفاق الذاهل المطرق، الوجه الأسمر العابس، وتهللت أساريره ومضى صاحبنا يفيض بما يشاء الله أن يفيض، فما شئت من علم وأدب وتحقيق، وما شئت من نقد وتمحيص، وكأن هذا الجسم الناحل الذاوي قد أصبح كله (شحنة) من الكهرباء تشع بالحيوية والنور والعرفان. . . وتبارك الله أقدر الخالقين.

منذ ذلك الحين تمكنت بيني وبينه أسباب المعرفة، فلم تزدني الأيام إلا إيماناً بغزارة علمه ورفيع أدبه وكريم خلقه. ومنذ ذلك الحين سلكته في عداد (المريدين) في دولة العلم والأدب والتاريخ، ومضى هو قارئاً ومحققاً ومؤلفاً، يضنيه البحث، وتنهكه القراءة، وتلح عليه، فيتداوى بالتي كانت هي الداء. الكتب أكداس على سريره، وعلى المناضد، وفوق الأرفف، وتحت المقاعد، وعلى مائدة الطعام.

ويشفق عليه خاله الكريم، فمضى به إلى الطبيب، يتجسسه ويتعرف داءه، وفى كل مرة لا يسمع المريض ولا الخال سوى كلمات مكررة معادة: الكبت الجنسي والإجهاد وشدة الحاجة إلى الانطلاق من الكتب، والراحة والرياضة. . . وهذه الأمور كلها في نظر (المريد) بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فالأقانيم الثلاثة شيخ واحد. . . له المجد، وله العلي، وفي سبيله يمرض ويصح، وله الأمر في شأن هذا (المريد) من قبل ومن بعد.

. . حتى إنتاجه الأدبي في الصحافة فهو قراءة كتب ثم تلخيص ونقد وتحقيق وتمحيص. وحتى كتبه التي يؤلفها، فهي رحلات وأسفار شاقة مضنية في صحارى الكتب وشعاب المراجع، يقرأ مائة كتاب ليحقق منها موضوعاً عن (أبي زيد الهلالي) يقع في سلسلة كتب (اقرأ) ويعكف على دراسة (الجاحظ) فيعد في تاريخه (كتاب الجاحظ الضحكوك) ثم يدعه قبل تقديمه للطبع، ليعكف على تاريخ (السيد البدوي) أو (دولة الدراويش) فيخرج للناس في هذا الموضوع كتاباً جليل الشأن قيم الأثر، هو الآن بين أيدي القراء ينعمون فيه بما أنعم، ويجنون من شهى ثماره ما أجني.

إنه في هذا الكتاب، وفى غيره من الكتب التي أعدها، والتي يعدها، هو هو (المريد) محمد فهمي عبد اللطيف، يغوص إلى القاع، فيظفر بأنفس النفائس، ويحلق في الأجواء، فلا يهبط إلا بما يشع على موضوعاته نور العلم والمعرفة.

إنه يعيش في الكتاب وللكتاب، ولاشيء غير الكتاب، حتى لأرجح أنه لم يسمع إلى اليوم (الأوبرج) ولا يدري أين موقع (الكيت كات) ولا أستبعد أن يكون (الأوبرج) في نظره وفي مبلغ علمه نوعاً من أنواع الأطعمة الإفرنجية يقدم على موائد الموسرين، وأن يكون (الكيت كات) كلمة محرفة عن شواء الكتكوت.!! فإذا قلت له: إن الأول ملهى من ملاهي العاصمة التي تزخر بالمتعة والهوى والشباب، وأن الثاني هو الآخر مطرح من مطارح اللهو على ضفاف النيل، لاذ بالصمت والذهول والإطراق، كأن هذا الأمر لا يعنيه، وكأن حديث دنيا غير دنياه.

وإني لأشفق على هذا الصديق مما هو فيه، ولا أدري متى يعرف لنفسه حقها من المتعة والراحة والنعيم؛ إنه ماض في طريقته الوعرة الشاقة، سادر في (تجرده) من حياة الشباب. إنه يحترق في ميعة الصبا، لا يرحم نفسه، ولا يشفق عليها. وأغلب الظن أنه يجد الراحة في هذا الشقاء، ويستروح نسمة النعيم من هذا العناء.

وأقسم لو كان أمر هذا الصديق في يدي؛ لأقمت عليه (مروضا) كالذي يقيمه الموسرين على جيادهم الأصيلة، ليقدم له الطعام في موعد، ويشرف على تضميره ورياضته بالقدر المناسب لجسمه وصحته؛ ليدخر بذلك من قوته ما يضمن له الفوز دائماً في حلبة السباق.

فإذا لم أستطع هذا طالبت بسن قانون (للحجر) عليه وعلى أمثاله المبذرين الذين ينفقون من قواهم فيعرضونها للاضمحلال والفناء. . أيكون المبذر في ماله عرضة للحجر عليه، ولا يكون المبذر في قواه وصحته وكيانه عرضة للحجر عليه؟ ويكون خاله الكريم من أبرز رجال القانون، ولا يفكر في مثل ما أفكر فيه ذلكم هو (المريد) محمد فهمي عبد اللطيف مؤلف كتاب (السيد البدوي) أو (دولة الدراويش) جليته للقراءة ممن لا يعرفونه معرفتي به. أما الكتاب فهو بين أيديهم، كما أسلفت ينعمون منه بما أنعم، ويجنون من شهي ثماره ما أجني.

عبد الله حبيب

حفنة ريح. . .

تأليف الأستاذ سعيد تقي الدين

للأدب المهجري ذاتية خاصة، وصفات مميَّزة ترفعه إلى منزلة عالية في عالم الآداب العربية.

من هذه الصفات أن الأدب المهجري هو أدب الحياة النابضة الفياضة. . . والأديب المهجري فنان يقبل على الحياة ليعبَّ من من عِبرها، وليتزود بتجاربها، وليندمج مع حوادثها فيكوِّن آراءه نتيجة لاختبار طويل، وتجربة واقعية تامة وإدراك للأمور الحياتية. . فإذا أراد أن ينشئ أدباً عمد إلى ما ادخرته حاسته الواعية، وما التقطته مخيلته المصورة. . واستمد الوحي والإلهام من هذه الحياة التي لا ينضب معينها، ومن هذا الكون الذي لا تُبلى جدته. . وهما يمدانه بكل طريف وجديد ورائع. . ومن هنا كان الشعر المهجري صورة نابضة تحمل إليك (قِطاعاً) من الحياة، مصورة لك خوالج النفس الإنسانية ومشاعرها بإطار شعري شفاف.

ومن هذه الصفات أيضاً: هذه الروح الطليقة الشاعرية الظامئة التي تتغلغل في الأدب المهجري، وتطبعه بطابع خاص، وتضفي عليه ظلالاً فيها حرارة الروح إلى السمو، ونبضات القلب وتلهفه إلى الحب، وتسابيح الضمير ينشد عالم الحرية والانطلاق. وإنك لتحسُّ تلهفاً حاراً، وظمأ شديد يتطلعان إليك من بين السطور عند قراءتك لهذا الأدب الرائع.

ولست أنا بصدد التحدث عن الأدب المهجري فأسهب في تبيان صفاته ولكنى أودُّ أن أتحدث عن كتاب اسمه (حفنة ريح) لأديب مهجري اسمه سعيد تقي الدين. هو في نظري وفى نظر المطلعين على أدبه من أكبر كتاب المسرحية في الأدب العربي. . لا يدانيه في منزلته إلا توفيق الحكيم رائد المسرحية في الأدب العربي، على ما بينهما من اختلاف في الأسلوب، وتباين في النظرات الفنية.

فسعيد تقي الدين فنان واقعي يستمد فنه من الحياة، ومن الكون المحيط به. . فهما كفيلان بتزويده بالتجارب الكثيرة، ومده بالملاحظات القيمة. . وأشخاص مسرحيته واقعيون لا يكادون يجنحون إلى الشذوذ. فهو شديد الإخلاص للحياة، عظيم الحرص على صورها. . أما توفيق الحكيم فلا يعتمد على الحياة فيما ينشئ منذ تأليفه كتاب (يوميات نائب في الأرياف) أو من قبل ذلك. فأشخاص مسرحياته خياليون تخلقهم مخيلته؛ لأنه يرجو من ذلك خلق الجو الفكري الذي يلذه، والذي يكاد يخنق كل صوت ما عداه. . فلهذا يمتزج مع الأشخاص، ويشرف على حركاتهم، ويعين تصرفاتهم. . فهذا (فلان) يمثل الغريزة الحيوانية، و (فلان) يمثل النفس الظامئة إلى إدراك الغيبيات، و (فلان) يمثل هذا الطور أو ذاك من أطوار الرقي الإنساني وهلم جرا. . . أما سعيد تقي الدين فلا يطرق الجو الفكري، ولا ينظم الأشخاص لتعبر عن فكر بعينها_كما يفعل الحكيم - ولكنه يصور لك صورة من الحياة بمساوئها ومحاسنها، بشرها وخيرها، بأحزانها وأفراحها. . ويهتم بالناحية النفسية أكثر من اهتمامه بأية ناحية أخرى، ويدع الأشخاص يعملون بما توحيه إليهم الحياة دون أن يتدخل في سلوكهم. .

وبالإضافة إلى هذه الفروق نضمُّ إليها فرقاً آخر وهو روح الفكاهة والسخرية التي تميز بها الأديب المهجري ولم يعرف بها الأديب المصري.

وبعد هذا كله أحدثك عن الكتاب (حفنة ريح) فأقول لك: إن الكتاب يضم مهزلة ذات فصل واحد هي (حفنة ريح) ومجموعة قصص هي (موجة نار) ومراسلات بين المؤلف والأستاذ سهيل إدريس أحد الأدباء اللبنانيين:

والمسرحية خلق فني ممتاز تقف في الصف الأول من صفوف المكتبة في الأدب العربي توافرت فيها عوامل النجاح فرفعتها إلى هذه المنزلة العالية. . وعوامل النجاح في هذه المسرحية الممتازة هي عوامل النجاح في كل مسرحية ناجحة فهي ترجع: أولاً: إلى مقدرة المؤلف في التصميم الفني المسرحي، ثانياً: وإلى إشاعة الحركة على المسرح ثالثاُ: وإلى خلق الأشخاص الذين يتصلون بأسباب قوية، ويتحركون على المسرح كما يتحركون على مسرح الحياة، رابعاً: وإلى إجراء الحوار الجميل الجاري جرياناً لا يعكره التكلف، ولا يعتريه الخفوت.

أضف إلى هذا كله تلك الفكاهة المستحبة، والروح الشفافة الطليقة، والسخرية اللاذعة. . تلك الصفات التي امتاز بها الأستاذ سعيد تقي الدين، وأطلقها في أجواء مسرحياته فكانت عاملاً من عوامل نجاحها.

وقد أشاع المؤلف في مسرحيته هذه وأهتم اهتماماً كبيراً في إبرازه (من اللحظة التي يرفع فيها الستار إلى (كعك سخن) في آخر المسرحية.

وعلى الرغم من أن التأريخ سمة من سمات المهزلة الناجحة فإن المؤلف لا يمكن أن يعتمد عليه وحده - لأن من خصائص التأريخ خلق الجو النفسي فحسب، فلهذا نلمح في (حفنة ريح) الناحية النفسية وحدها.

وأشخاص المسرحية محبوبون لأنهم واقعيون، ولأنهم من أصحاب النفوس الساذجة الكريمة، ينطقون فتبتسم لما نطقوا به، أو تنفجر ضاحكاً تعجب من هذه النفوس الغريرة الطليقة المحبوبة إلى أبعد غايات الحب. .

والمؤلف يسير مع الأشخاص أو مع الحياة أو مع ما يقتضيه الواقع في الجزء الأكبر من المسرحية حتى إذا ما وصل إلى النهاية بدا التكلف ظاهراً حيث يقنع (وجيه) اللحام الكهل بأن في استطاعته أن يعود إلى شبابه إذا قال (الله يسامحك الله بالحساب) فيتنازل عن دينه لوجيه، ويظهر التكلف بوضوح في الطريقة التي هيأ بها المؤلف زواج الأشخاص.

وأكبر الظن أن الأستاذ سعيد عندما أوشك أن يصل إلى نهاية مسرحيته وضع (العجائب السبع) التي خلقها أمامه، وكيف النهاية حسب ما تقتضيه هذه العجائب. . فجعل اللحام يسترجع شبابه بطريقة عجيبة تثير الضحك ليستخلص من ذلك العجيبة الأولى وهي (لحام يستعيد شبابه). وأغرى الشيخ نسيب بترك وظيفته الحكومية بطريقة غريبة ليستخرج من ذلك العجيبة الثانية وهي (شاب يرفض وظيفة حكومية). . وأقنع (أم ظريف) بالطريقة نفسها على أن تسامحه بالإيجار ليصل إلى العجيبة الثالثة وهي (ملاك يسامح مستأجراً). . وقس على ذلك سائر العجائب الأخرى. وهي (مؤلف أدبي نفع البشرية) و (أم تزوج أبنتها من دون مصاغ) و (ظهر في لبنان رجل يلبس أسمه من دون لقب) و (البوليس يقبض على القاتل والقتيل فار من وجه العدالة).

والملاحظ في هذه المسرحية أن الحبكة، والتسلسل الروائي والانسياب الحواري على درجة كبيرة من الإتقان تدل على رسوخ قدم الأستاذ سعيد في الفن المسرحي. . ورسالته إلى المخرج هي غاية في الدقة الفنية، فيها من الملاحظات الفنية ما ينفع المخرج والممثل والكاتب المسرحي على حد سواء.

ولنتحدث الآن عن مجموعة (موجة نار) من هذا الكتاب ولنعرض أولاً آراء المؤلف في القصة، ففي الكتاب آراء يحالفها التوفيق مرات، ويتنكب عنها أخرى:

يعرف المؤلف القصة ص 254 فيقول (القصة كما أفهمها هي حادثة غير عادية محتملة الوقوع تسرد بأسلوب جذاب سهل، وتنتهي بمفاجأة حلوة معقولة). . ولكن المؤلف يتخلى عن شرط أو شرطين من هذه الشروط الأربعة في بعض قصصه. فهناك قصة يعوزها التصميم الفني وهي (الخطاب المبتور). وتفتقر قصة أخرى إلى الصدق الفني وهي (الدواة)؛ وهناك قصتان تحتاجان إلى الحرارة وإلى إشاعة الحياة والحركة النابضة فيهما. . أما قصة (ألام الذكرى) وقصة (موجة نار) فهما أحسن ما في المجموعة الأولى لأنها صورة إنسانية رائعة أملتها الحياة التي خاض غمارها، والثانية لأنها تبرز لنا هذه الروحية التائهة التي شغف بها المهجريون.

ولست أدري كيف يرى المؤلف (أن عنوان القصة يجب أن يكون لغزاً موسيقياً!!) ص259. . أيعد المؤلف العنوان (اللغزي الموسيقي!!) عنصراً في عناصر التشويق؟!. . وإذا كان كذلك فقد ساءلت نفسي وأنا أقرأ ما قاله المؤلف عن عنوان القصة لو لم يكن عنوان مسرحية سعيد تقي الدين (حفنة ريح) ولو لم يكن عنوان القصة (موجة نار) أأعدل عن قراءتهما؟. كلا. . . وألف كلا فليس من الضروري أن يكون العنوان (لغزاً موسيقياً) كما ليس من الضروري أن تكون (العبارة الأخيرة في القصة قنبلة ذرية تنفجر بين عيني القارئ!!) - الله يحفظ عيوننا من شر القنابل الذرية -. . ونحن لو رجعنا إلى نهاية قصص سعيد تقي الدين لما رأيناها قنبلة ذرية تنفجر، ولا (ديناً ميتاً) يثور بين عيوننا ومع ذلك فنحن لا نملك إلا الإعجاب بها.

سامح الله الأستاذ سعيد تقي الدين - لا بالحساب لأنني لا أطلب شيئاً أولاً، ولأنني لا أرجو منه أن يستعيد شبابي لأنه لم يذهب بعد ثانياً، بل سامحه الله بهذه الأمثلة التي تدل على خفة روحه أو دمه. لست أدري. .

هذا الكتاب ممتاز حمله إلينا البريد اللبناني فأطلعنا عليه، وقضينا ساعات لذيذة معه. . ولكن أين الكتب اللبنانية الأخرى التي تخرجها المطبعة اللبنانية في كل شهر؟. الجواب عند الأستاذ سهيل إدريس على إخواننا لأنهم لا يحلفون الأدب اللبناني!

غائب طعمة فرحان

كلية الآداب