مجلة الرسالة/العدد 771/ألغام الدكتور ماغنس

مجلة الرسالة/العدد 771/ألغام الدكتور ماغنس

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 04 - 1948



للأستاذ نجاتي صدقي

كان سكان حي وادي الحوز في القدس مستسلمين إلى نوم عميق بعد يوم من العمل الشاق غي سبيل المعاش، وكانت الساعة تشير وقتئذ إلى الثانية بعد منتصف الليل. فإذا وقفت في غرفتي في تلك الساعة وتطلعت من نافذتها الشرقية مخترقاً بنظرك ظلام الليل الحالك، ارتسم أمامك جبل الزيتون، وقد قامت عليه أشباح عمارات الجامعة العبرية، ومستشفى همداسا، وهي تغتسل بالفحم السائل. . .

ثم إذا ألقيت بنظرك هناك قسماً من بيوت قرية الطور وهي أيضاً تغط في نوم عميق هادئ، ولكنها آثرت أن تبقى لعض الأضواء هنا وهناك تحسباً للمفاجئات، وكم تحمل هذه المفاجئات في طياتها من جرائم مشبعة بالخسة والنذالة. وكنت أنا ساعتئذ في جملة الناس المستغرقين في نومهم، أودع يوماً واستقبل يوماً آتياً، وإذا بي استيقظ فجاءة على أزيز الرصاص ينطلق من جميع الأسلحة الآلية، من (بون) و (ستن) و (طومسون) وبنادق إنكليزية وكندية وفرنسية وألمانية، يتخللها انفجارات مروعة تهتز لها أركان البيوت، تمتزج مع أصوات نساء ورجال وصفارات، فيتجاوب صداها في الوادي الممتد من محلة الشيخ جراح حتى ضريح العذراء مريم فتخيلت نفسي في مدريد سنة 1937!. . .

كان المهاجمون جماعات من منظمة (الهاجانا) اليهود المرابطين في الجامعة العبرية وهم خليط من التلامذة والعمال، وبينهم عدد من الفتيات. . وقد اقتحموا أطراف الحي من ناحية الجبل مفتنمين فرصة خلو هذه الناحية من الحرس الوطني تقريباً، لأن السكان كانوا يعتقدون بأن الجامعة العبرية هي معهد علم وتربية وثقافة، ويستحيل أن تصدر منها طلقة واحدة.

ومما يدل على قوة اعتقاد العرب هذا، حوار جرى بيني وبين صاحب حانوت من أهل الحي، وهو رجل أمي، سليم الطوية، قلت له: أتظن أن الجامعة العبرية ستكون مصدر خطر على وادي الحوز والأحياء العربية المجاورة؟

فقال: كلا يا أبا سعيد، هذه دار علم، ونحن لا نخشاها، كما أننا لا نعتدي عليها. . . وهي على الجملة في حمى قوانين العالم! وحدث أيضاً أن اعتقل الحرس الوطني صحفياً يهودياً أمريكياً واقتاده إلى مقر قيادة مدينة القدس، حيث أخذوا يحققون معه فقال في دفاعه: إنني من أنصار الدكتور ماغنس عميد الجامعة العبرية. . . وحزبنا يريد سلماً مع العرب. فأفرجوا عنه مصحوباً بحرص ليوصله إلى الأحياء اليهودية.

وبلغ مسمعي حوالي الساعة الثالثة بعد منتصف الليل أصوات آتية من وسط الوادي تقول بالعبرية: مهير. مهير. كاديما!

وأعقب تلك النداءات انفجار هائل شعرت منه أن دارنا قد تزحزحت عن مكانها، ثم استمر تبادل إطلاق النار حامياً، وكانت تصدر عن الأسلحة السريعة الطلقات أنغام غريبة تشبه الخبط على الأبواب، أو النقر على الزجاج، أو الضرب على طبلة السحر. . . ثم تنفجر أنغام الدكتور ماغنس وكأنها قرع طبول تشترك في هذا العزف الآثم.

وحين بلغت المعركة الليلة أوجها اقترب أحد المعتدين من كوخ منعزل، تركه صاحبه ليساهم في الدفاع عن الحي، ولم يبق فيه سوى زوجة وستة أطفال. . . ولما سمعت المرأة حركة عند كوخها ظنت أن زوجها عاد ليتفقد أسرته، فصرخت قائلة: من بالباب؟. . . فأجابها المعتدي: يهوديم، ثم سألها: أين زوجك؟

قالت: خرج، ولا أدري إلى أين، وليس في البيت سواي وأطفالي. . .

لعل القارئ يتصور أن المعتدي ابتعد عن الكوخ وسكانه الأبرياء الآمنين، غير أن الواقع كان على العكس من ذلك، فإنه وضع لغماً عند باب الكوخ، وأشعل فتيله، وأطلق ساقيه للريح، ملبياً صوت قائده الذي يقول له من بعيد: بوهينا اتسخاق. . . مهبرا!. . . وبعد لحظات انفجر اللغم، وقتلت المرأة مع أربعة من أطفالها، واستحال الكوخ إلى رماد.

أما الدكتور ماغنس فهو عميد الجامعة العبرية بالقدس، في حدود الخامسة والخمسين، أمريكي الجنسية، مديد القامة، نحيف الجسم، غائر العينين، ذاهل النظرات، وصاحب مائة مشروع ومشروع من أجل التقارب بين العرب واليهود.

واستمرت المعركة حتى السادسة صباحاً، فتطلعت إلى جهة الجامعة فرأيت أحد المعتدين يقذف النار من مدفع (برن)، وقد نصبه في صومعة الدكتور ماغنس، وتقع هذه الصومعة فوق سطح غرع الإنسانية التابع لكلية الآداب!. . .

وحوالي السابعة صباحاً هدأت المعركة، وهرع السكان إلى حيث الكوخ المنسوف، والأشلاء المبعثرة، وكان بود المعتدين أن يغتنموا هذه الفترة الملائمة، ويمطروا الحشد بوابل من الرصاص، لو لم تتدخل السماء ستاراً كثيفاً من الضباب على الجامعة العبرية لمدة نصف ساعة من الزمن.

ثم انقشع الضباب. . . وانتشر الضياء. . . وعرف العرب أمراً جديداً، هو أن في وسع العلم والجريمة أن يعيشا في الجامعة العبرية تحت سقف واحد!. . .

نجاتي صدفي