مجلة الرسالة/العدد 772/من أقاصيص الجواري في عهد الرشيد:

مجلة الرسالة/العدد 772/من أقاصيص الجواري في عهد الرشيد:

مجلة الرسالة - العدد 772
من أقاصيص الجواري في عهد الرشيد:
ملاحظات: بتاريخ: 19 - 04 - 1948


بهيرة

(مهداة إلى صاحب المعالي إبراهيم دسوقي أباظة باشا)

- 1 -

- ما اجمل هذا الصوت! من أين مصدره؟

- من صوب النهر يا مولاي

- إن حلاوته وإيقاعه لينبئان عن ظرف بارع وصبى نضر

- لعلها قينةٌ في زورق من زوارق المخنثين ترف على لهوهم الماجن بالغناء والحسن كالعادة

- مل بنا إلى الشاطئ عسى أن نرى مصداق ما نسمع وكان الرجل الذي سال وأمر طويلاً بدين الجسم أشقر اللحية على وجه جلالة السلطان ومهابة الملك؛ أما رفيقه الذي أجاب وأطاع فكان مساوياً له في العمر، ولكنه كان ربعة القوام، رقيق البدن، أزهر اللون، تتوسم الظرف من ملامحه، وتتبين الذكاء من ألفاظه. وكانا يلبسان ملابس التجار ويمشيان مشية المستطلع بين القصور الناعمة القائمة على دجلة من كرخ بغداد في أصيل يوم من أيام أبريل. وعلى ثلاث خطوات مهما كان يسير رجل وثيق التركيب عظيم البسطة يلحظ لحظات الصقر أرعاهما بعين النمر. وكان دار السلام يومئذ في أيام العروس من عهد الرشيد، قد تجمعت فيها الدنيا بهجتها وزينتها، وفتنتها وثروتها، فهي أشعة من الجمال والسحر، وظلال من الرخاء والبشر، ونسمات من الروح والعطر، وخالية من الحب والشعر، ومتع من نعيم التمدن الإسلامي القائم على لذة الروح والجسم، وسعادة الدين والدنيا، وراحة النفس والناس

اتجه الرجلان وتابعهما الصامد نحو الصوت فجرهما إلى بستان مشرف عل انهر قد جلست على عريش منت عرائشه الكاسية بأشتات الرياحين وزهرة العمر ترسل هذا اللحن الشجي الضارع كأنها تهدهد به حباً لا يهجع، وتناجي به حبيباً لا يسمع!

فدار بين اعظم الرجلين وبينها هذا الح - لعلك تودين أن يكون هذا الغناء الساحر سامع!

- لو كنت لما اعز علي أن أجده

- وهل خلق الله مثل هذا الصوت ليتبدد في الهواء ويضيع في هذه الخلوة؟

- سل البلبل حين يبعث الشدو: هل يريد أن يبعثه إلى اذنك؟ وسل الشمس حين ترسل الضوء: هل تريد أن ترسله إلى عينيك؟ وسل الزهرة حين تبعث العطر: هل تريد أن تبعثه لانفك؟

- تبارك الله! براعة في الغناء وبراعة في الذكاء وبراعة في الحسن! ماذا تسمين؟

- بهيرة

- ولمن تكونين؟

- لسيدي علي بن وهب

قالت ذلك بهيرة ثم حيت الرجل وصاحبيه ثم انطلقت في أشجار البستان كأنها عروس من عرائس المروج ازدهارها الربيع فطفرت من المرح راكضة راقصة

- لقد وقعت بقلي هذه الجارية يا جعفر!

- إذا شاء أمير المؤمنين كانت في ملكه من الغد

- 2 -

وفي غد ذلك اليوم انتقلت بهيرة بالشراء إلى قصر الرشيد بالرصافة، وكان بموج بالحوار والولدان موجان الفردوس، حتى بلغ ما فيه من السراي والقيان زهاء ألقى جارية من الروميات والكرجيات والجركسيات والعربيات والحبشيات، يرفلن في الأثواب الموشاة بالذهب، والعصائب المرصعة بالدر، والمناطق المنسوجة بالمسجد؛ ويخطرن بين دوائر الحرم موائس من الدلال، نشاوى من الحسن، ينفحن بالفتون والحب كما تنفح الزهور العاشقة بالعطور المغرية في ميعة الربيع.

أحلها مسرور الخصي مقصورتها الأنيقة بين مقاصير سحر وضياء وخنث (1) وأفاض عليها من الوشى والزينة والحلى ما جعلها قطعة من الفن الجمالي الخيالي لا تبلغها قريحة شاعر ولا عبقرية مصور. وانغمرت بهيرة في فيض من الجمال والنور والترف واللذة؛ ولكن هذا القصر الذي لا ثاني له في دنيا الناس لم يستطيع بما فيه من النعيم الدافق والسرور المتصل واللهو المختلف والأشجار المحمولة من كل ارض، والأطيار المجلوبة من كل سماء، والأواوين المنجدة بالديباج والارسيم، والبرك المزدانة بالتماثيل والدمى، والسلطان الذي خضع له الدنيا، والجلال الذي اعتز به الدين؛ لم يستطع بكل أولئك أن يسمح عن وجه بهيرة هذه الكآبة الغاشية ولا هذا السهوم الملح، فقد كانت أشبه بالوردة المقطوفة على المائدة الغارقة في السرور الطافحة باللذة: وتموت وكل ما حواليها يزدهي وينتش. فهل كان قصر الخليفة أضيق من قصر التاجر؟ ام كانت سيادة ابن وهب أني على قلب بهيرة من سيادة الرشيد؟ واقع الأمر أن هذا الحال لم يطرأ على بهيرة في عيشها الجديد، وإنما كانت تلازمها وهي في ملك ابن وهب، وقد تذرع الرجل بالطب والحيلة والإله وإلى أن برفه على جاريته المحبوبة فما كانت تزداد على عنايته بها ورعايته لها إلا هما على وهم؛ حتى استراب في حبها إياه فحاول أن يصل إلى سراها ويعرف متجه هواها فما استطاع. فلما ساومه النخاس عليها بالثمن الربيع نزل عنها غير آسٍ ولا آسف

كانت بهيرة قبل عامين قد وهبت قلبها الخالي المنتظر لفتى من سراة بغداد الظرفاء فشغله كله وتغلغل فيه تغلغل السر، وشاع به شيوع السرور. ثم تقلبت عليها الأيام والأحداث وهما ثملان من رحيق الحب، وادعان في ظل الآمان، حتى نزل بالفتى ما ينزل بالمترفين المتبطلين من كساد الحال وهجوم الفاقة، فباع كل ما يملك، ثم عاش على الأماني فترة من الدهر؛ ورأى أخر الأمر أن من الإخلاص لحبيبته إلا يحملها وزر إسرافه وعواقب طيشه، فباعها على الرغم من تشبثها به وإيثارها إياه من على ابن وهب ودأب يزورها يوماً بعد يوم وهي في قصر ابن وهب، من وراء الحديقة، ومن خلال السور، وهي تنتظره في العريش الذي رآها فيه الخليفة يوم تنكره، فيستسقيان كؤوس الهوى، ويتناقلان حديث المنى، ويتشاكيان حرقة الوجد، وينظران نظرات الأسى إلى دجلة والشابا الأحباب يشرقون على وجه إشراق البسمة العذبة على ثغر السعيد، فيذكران كيف كان هذا النهر الخالد مسرحاً لصباهما اللاهي، وشاهداً على حبهما الخالص؛ وكيف نظر أليهما الدهر الخؤون فتقوض الربع الآهل، وتفرق الشمل الجميع، وآل الأمر بينهما إلى أن يكون بين قلبيهما عاذل لا يتغفل، وبين جسميهما حاجزاً لا يقتحم!

كانت بهيرة وهي في قصر ابن وهب تستطيع أن ترى سليمان وان تتحدث إليه وان تترك للأقدار الرحيمة إسعاف حبيبها البائس بالثروة الموجودة فيستردها إلى ملكه؛ ولكنها انتقلت الآن من عش الحمام إلى غيل الأسد! فمن ذا الذي يستطيع الدنو من قصر الخلافة؟ لقد ضرب الدهر بينها وبين حبيبها إلى الأبد؛ فلا هو يستطيع الدخول إليها ولا هي تستطيع الخروج اليه؛ فكانه مات من دنياها وهي ماتت من دنياه. وبيت الخلافة من أمثالها قصر في الأول وقبر في الآخر!

- 3 -

على أن الهوى كالسكر لا يعرف المحال ولا يحس الخوف ولا يبصر العاقبة فقد احتال سليمان حتى ظفر بثياب خادم من خدام جعفر بن يحيى. فكان يدخل قصر الرشيد في هذا الزي فلا يرتاب الحراس ولا ينكره الخدم. وعرف مقصورة بهيرة فكان يتسلل إليها في الظلام أو في الغفلة، فيقضي معها ساعة من النهار أو هزيعاً من الليل ينضحان فيه غرامهما المسعور بالحديث المعسول والقبل الندية.

وفي ذات ليلة اطفي عليهما الحب وعصفت برأسيهما الصبابة فتولدت فيهما ناشئة من الأمل والعزم. قال سليمان وهو يثبت نظره المتوقد في نظر بهيرة الساجي:

- لقد أعددت عدت الخلاص ومهدت لك سبيل الهرب

- وماذا أعددت يا سليمان؟

أعددت لك هذا الثوب الغلامي فالبسيه واخرجي تحت الليل حين تخشع الأصوات وتهجع العيون ولا يدخل ولا يخرج إلا رسل الأسرار بين قصور السادة والقادة. وساكون في انتظارك لدى مشروع القصب من دجلة

فقالت بهيرة ودمعها الساجم يتقاطر على خديها تقاطر الطل:

- أنسيت يا سليمان أني ملك الخليفة فلا اخرج منه إلا بالبيع أو بالعتق!

- لم أنسى يا بهيرة، ولكن الخلاص بغير ذلك محال

وكيف يصفو لنا العيش يا سليمان وهو شقاء متصل بمعصية الله وخيانة الخليفة؟

- بربك يا بهيرة اخفتي هذا الصوت في نفسك، وفكري قليلاً في بؤسي وبؤسك. ليس لي غيرك وليس لك غيري؛ أما الخليفة فله ألف جارية، وله إضعافهن إذا شاء. والله يا بهيرة يغفر الذنوب جميعاً - ألا تظن يا سليمان أن العذاب في الحب عذب، وان الموت في سبيله شهادة، وان هذه الساعة التي نلتقي فيها على غفلة من الرقيب بين الخوف والأمن، وبين اليأس والرجاء، أدنى إلى الحب الصحيح والسعادة الحق من العيش الغرير الناعم على مهاد الرذيلة؟

- أن العشاق يا بهيرة لا يعشون بعقول الخليين ولا يخضعون لقوانين المجتمع

- واسلس لسليمان الدمع والكلام فأوشك أن يحمل بهيرة على راية لولا أن قرع باب المقصورة قارع عنيف، فاستطير قلب العاشقين من الرعب، وأيقنا بالهلاك المحتم

- وفتح الباب ودخل مسرور قهرمان القصر وسيد الموالى وحاجب الرشيد، ومعه نفر من الحراس، فأمر بالقض على سليمان، وكان قد سمع بآذان جواسيسه ما دار بالحديث بينه وبين بهيرة.

- 4 -

سيق العاشقان إلى مجلس الخليفة الخاص متهمين بانتهاك حرم الخلافة، والمؤامرة على الفرار، والخلوة الأثيمة. فأسالهما عن جلية الخبر فأجاباه بصحته. واستفهم الشهود عن تفاصيل الحديث فأدلو به على نصبه. فكان الخليفة مفتوناً ببهيرة لما جرب به عليها من الوفاء والذكاء والصدق فعفا عنها، ودفع بسليمان إلى مسرور ينفذ فيه حكمه

فتقبل العاشق المنكود الحكم عله قبول من راض نفسه على التسليم بالقضاء المحتوم والأمر الواقع.

وذهب به الموالي إلى لقاء الموت، ولبثت بهيرة في حضرة الخليفة شاخصة لا تطرف، واجمة لا تنطق، كأنما أخرجها الجمود عن الحياة، وفصلها الذهول عن الوعي. ثم رأت بعينيها في سكون، وحركت لسانها ببطء، وألقت بنفسها على قدمي الخليفة وهي تقول:

مولاي: إني اعلم أن الجريمة إذا مست الشرف ضاق بها العفو وقصرت عنها الشفاعة؛ ولكني اعلم كذلك أن حلمك لا يستحقه غضب، وعفوك لا يتعاظمه ذنب. فهب لي دم سليمان فقد جنى عليه حبي، وسعى إلى عدمه وجودي. وهو يا مولاي صادق النية سري الخلق بريء الساحة.

فقال لها الخليفة: أن هذه الجريمة تنسى بوجهها الوقاح صورة الرحمة. فاسأليني ما شئت إلا العفو، فأني لا امنح إلا ما املك.

فقالت بهيرة: أذن تعدني يا مولاي إلا يقتل حتى أراه.

فقال لها الخليفة: لك هذا الوعد.

وراسل وراء الجلاد يأمره أن يرد عليه سليمان قبل أن يمضي قضاءه فيه.

فلما خرج الرسول أدارت بهيرة بصرها إلى السماء والفضاء والطبيعة، ثم أرجعته وهو يفيض بالدمع والأسى، ورددته في نواحي البستان، وفي جوانب المكان، وفي مرايا الجدران، وفي حلتها الذهبية، وفي حلتها اللؤلؤية، وفي وجه الخليفة؛ ثم أدخلت إصبعيها في محجريها فاقتلعت بهما عينيها

فصاح بها الخليفة وقد أفزعه ما رأى:

ويحك ماذا صنعت بنفسك؟

فديت بعيني حبيبي يا مولاي!

وكيف ذلك يا حمقاء؟

ألست وعدتني يا مولاي إلا يقتل حتى أراه؟ فالان لا أراه ولا يقتل!

كان اثر هذا الحادث بالغ في نفس الخليفة، ومهد لهما الحياة السعيدة في ظلال نعمته.

وقنعت الفادية العمياء من دينها بالعيش على نور الحب وفي كنف الحبيب!

أحمد حسن الزيات