مجلة الرسالة/العدد 772/(الشيوعية في الإسلام)

2 - الشيوعية في الإسلام مجلة الرسالة/العدد 772/(الشيوعية في الإسلام) رأي لجنة الفتوى ورأي السيد جمال الدين الأفغاني أوردنا في المقال السابق ما أذاعته لجنة الفتوى بالأزهر عن (الشيوعية في الإسلام) وما حكمت به على مذهب أبي ذر الغفاري من المخالفة للإجماع على مبدأ الإسلام، ثم أوردنا فتوى السيد جمال الأفغاني عن (الاشتراكية في الإسلام) وفي هذا المقال نورد ما قاله السيد عن مذهب أبي ذر وما أبدى من استحسان هذا المذهب. قال السيد رضوان الله عليه: (في زمن قصير من خلافة عثمان تغيرت الحالة الروحية في الأمة تغيراً محسوساً. ولشد ما كان منها ظهوراً في سير العمال والأمراء وذوي القربى من الخليفة وأرباب الثروة بصورة صار يكمن بها الإحساس بوجود طبقة تدعى (أمراء) وطبقة تدعى (أشراف) وثالثة (أهل ثروة وثراء وبذخ) وانفصل عن تلك الطبقات طبقة العمال وأبناء المجاهدين، ومن أرباب الحمية والسباقة في تأسيس الملك الإسلامي وفتوحاتة، ونشر الدعوة، وصار يعوزهم المال الذي يتطلبه طرز الحياة، والذي أحدثته الحضارة الإسلامية، إذ كانوا مع كل جريهم وسعيهم وراء تدارك معاشهم لا يستطيعون اللحاق بالمنتمين إلى العمالورجال الدولة. وقد فشت العزة والأثرة والاستطالة، وتوفرت مهيئات الترف في حاشية الأمراء وأهل عصبيتهم، وفي العمال وبمن استعملوه وولوه من الأعمال. . فنتج من مجموع تلك المظاهر التي أحدثها وجود الطبقات المتميزة عن طبقة العاملين والمستضعفين في المسلمين، تكون طبقة أخذت تتحسس بشيء من الظلم وتتحفز للمطالبة بحقهم المكتسب من مورد النص، ومن سيرتي الخليفة الأول والثاني أبي بكر وعمر كان أول من تنبه لهذا الخطر الذي يتهدد الملك والجامعة الإسلامية، الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري، فجاء إلى معاوية إبن أبي سفيان وهو في الشام، وخاطبه بوجوب الرجوع إلى سيرة السلف وبتقليل دواعي السرف والترف وعدم التمادي في مسببات الحسد، والعمل على نزعها من العاملين من رجال المسلمين، وذكر مواعظ كثيرة، وعدد أخطاراً جمة من وجود طبقة فقيرة عاملة مفكرة من المسلمين، يكتنفها شظف العيش وقلة ذات اليد بين ظهراني قوم أكثرهم ممن لا سابقة لهم في الإسلام ولا لآبائهم، ولا من الطبقات المحمودة، ولا من المجهودات أو المميزات العلمية والجسدية، ما يوليهم أو يعطيهم حق ما هم فيه من النعيم، وطيب العيش والرخاء، غير محض الانتماء والإدلاء بولاء لآل حرب وعمالهم. فأجابه معاوية بما معناه: يا أبا ذر، إن ما تقوله هو الحق، ولكني ليس في استطاعتي الرجوع لا إلى سيرة الصديق وسيره، ولا إلى العمل الذي كان يعمله الفاروق، وغاية ما في إمكاني الحث على بذل الصدقات والقول اللين إرشاداً لتخفيف دواعي الحسد، وغير ذلك فلا سبيل إليه. قال أبو ذر: قد نصحتك يا معاوية، والدين النصيحة، فأحذر أنت والخليفة عثمان مغبة ما أنتما عليه. وذهب من مجلس معاوية مغاضباً، واجتمع مع طبقة المتألمين والمتذمرين من المسلمين وقص عليهم من سيرة السلف أشياء، وأطلعهم على ما قاله عامل الشام معاوية بن أبي سفيان، وأردفها بإعلانه مشاركته لهم في كل ما يحسون به قلباً وقالباً. وبمختصر القول إنه شجعهم على النهضة والمطالبة بحق صريح لهم اهتضمه جماعة بغير وجه شرعي، ولا باجتهاد إمام السلف، فكان من وراء عمل أبي ذر هذا أن حصل شيء من التهيج والانفعال النفسي ما خشي معه معاوية وأعوانه سوء المصير. فجمع معاوية كيده، واستنجد دهاءه، وبعث لأبي ذر ليلاً بألف دينار، فقبلها أبو ذر، وفي الحال بادر لتفريقها على الفقراء والمعوزين من المسلمين. وفي ثاني يوم أرسل معاوية رسولاً وقال: يا أبا ذر، أنفذني من عذاب معاوية، فأن الآلف دينار لم يرسلها إليك وإنما غلطت، فقال أبو ذر، والله لم يبقى معي من دنانيره ولا دينار، فليمهلني حتى آخذها ممن وزعتها عليهم من المستحقين في المسلمين. وعلم معاوية صدفة وضاق به ذرعاً، فكتب إلى الخليفة عثمان مستجيراً من إلغاآت أبي ذر، وما أحدثه من التأثير في النفوس. فأجابه متعجلاً أرسل أبي ذر إليه، فأرسله، ولما تقابل مع عثمان لم يسمع منه أكثر مما سمع من معاوية، وأنه لا يمكنه أن يفعل ما فعله الفاروق مع العمال من مصادرة ما عندهم من الثروة، ولا أن يرجع ما كان من حالة مجموع المسلمين في عهدي الصديق والفاروق إلا عن طريق الحث على بذل الصدقات والإحسان فقط. فقال أبو ذر: يا عثمان، أما تذكر حديث رسول الله ومعناه: (إذا وصل البناء إلى سلع (جبل في المدينة) واستعلى في المدينة. . الحديث) وجبت الهجرة. وفي رواية أنه قال: يا عثمان: إن النبي أمرني بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعاً، وها قد استعلى بناؤك وبناء قريبك معاوية وأعوانكما. والله من ورائكم محيط. فألح عليه عثمان أن لا يفعل، فقال أبو ذر: إن رسول الله أولى أن يتبع، وهاجر من المدينة. كان في عمل أبي ذر هذا أنه أخذ بمحض النصح لخليفة المسلمين إذ ذاك (عثمان) وبنصح عماله، وبالدفاع عن حقوق المسلمين كي لا تتكون طبقة اشتراكية يكون رائدها الانتقام، بل إلى العمل بنص القرآن والاقتداء بمن طبق ذلك النص عملاً من الخلفاء كأبي بكر وعمر. . وبعد، فهذه هي فتوى السيد جمال الدين الأفغاني فيما كان من رأي أبي ذر الغفاري وخلافه مع ولاة الأمور على توزيع مال المسلمين على المسلمين. وشتان بين رأي لجنة الفتوى في مذهب ذلك الصحابي الجليل، ورأي السيد الأفغاني؛ فبينما ترى اللجنة إنه أخطأ الاجتهاد وخالف الإجماع يشهد الأفغاني برجاحة رأيه وسلامة مذهبه. وسنعود في المقال التالي للتعقيب على فتوى اللجنة بما يوضح هذه المسألة التي تشغل الأذهان في هذه الأيام. . . (الجاحظ)