مجلة الرسالة/العدد 773/القصص

مجلة الرسالة/العدد 773/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 04 - 1948



من الأدب الإيطالي:

ذلك الرجل!!

للشاعر الإيطالي جبريل دانونزيو

بقلم الأديب محمد فتحي عبد الوهاب

كان قصير القامة ممشوقها، تنوء رقبته برأس ضخم يميل قليلا إلى اليسار، وقد اكتسى هذا الرأس غابة كثيفة من الشعر الكستنائي المسترسل إلى كتفيه في تجعدات والتواءات، تلعب به الريح لعبها بعرف الجواد، ولحية كثة كلحية المتقشفين، تركها دون تهذيب وقد تراكمت عليها ندف صغيرة من القش. وكانت عيناه تتطلعان دائما إلى موقع قدميه العاريتين، حتى إذا ما رفعهما ظهر فيهما الغموض والابهام، ولاح فيهما الرعب، أو بدتا كما لو كانتا عينني مخبول تارة، أو رجل محموم تارة أخرى. أو تشهد فيهما ما يجعلك تفكر في الماء الأخضر الآسن الراكد في حفرة ضيقة، أو في وميض السيف اللامع.

كان يرتدي سترة قديمة حمراء، قد ألقى بها على كتفيه كأنها المعطف. وكان الناس يروون عنه شتى الأقاصيص، ويتحدثون عن حب، وخيانة، واعتداء، وهروب. . .

كنت في سن الثالثة عشرة عند ما قابلته أول مرة، فجذبني منظره. وكان ذلك في يوم من أيام الصيف الحارة والميدان الكبير تغمره الشمس، وقد أقفر إلا من بعض الكلاب تتسكع هنا وهناك، والسكون مخيم على المكان، اللهم إلا من ذلك الصرير الممل لعجلة السنان. وكنت قد اعتدت الوقوف برهة أراقب ذلك الرجل من خلف مصراعي نافذة غرفتي، فأراه يسير في بطئ تحت شمس الظهيرة، يختال في جو من العظمة، أو يزحف قرب الكلاب في هدوء حتى لا تلاحظه، ويلتقط حجرا يقذفها به في خفة ثم يهرب متظاهرا بأنه شيء غير منظور، فتقبل عليه الكلاب وتلتف حوله وهي تبصبص بأذنابها، فينظر إليها ثم ينفجر ضاحكا ضحكات قصيرة صبيانية فأشاركه ضحكه.

وفي ذات يوم تمالكت شجاعتي، وأطللت برأسي من النافذة ثم ناديته. فالتفت إلى في سرعة ثم أبتسم، والتقطت زهرة من الأقاصيص قذفت بها اليه، ومنذ ذلك الحين أصبحنا صديقين.

وفي مساء يوم سبت كنت واقفا على الجسر وحيدا أراقب حركة أسطول الصيادين وهو راجع من الصيد. كانت شمس يوليو البديعة تغرب، وقد احمرت السماء بالسحب الذهبية، وتوهج النهر الجاري صوب البحر وارتعشت أمواجه في تلألؤ زاه. وكانت الضفاف تحت الهضبات تلقى على الماء فتنعكس الأشجار، وتظهر قممها كأنها نائمة على صفحة الماء في ذلك الجو الحار. وجعلت القوارب تلقى مراسيها في بطئ وقد طوت أشرعتها البرتقالية الكبيرة ذات الخطوط الزخرفية السوداء. وابتدأت تفرغ حمولتها من السمك. وسرت الريح تحمل أصوات النوتية ورائحة الصخور.

والتفت فجاءة ورائي فرأيت الرجل واقفا يتصبب عرقا، وقد أخفى يده اليمنى وراء ظهره، وأضاءت فمه ابتسامته الصبيانية المعهودة. فصحت اهتف باسمه وأنا أمد يدي المتخاذلة إليه في سرور. وتقدم نحوي وقدم إلى بيده التي كان يخفيها باقة أنيقة من الخشخاش الأحمر وسنابل القمح الذهبية. فصحت وأنا أتناولها منه (أشكرك، أشكرك، ما أجملها. . .)

وسحب يده على حاجبيه، وجعل يمسح العرق المتساقط ثم ينظر إلى أصابعه المبللة ثم إلي، وأخيراً ضحك وقال (إن الخشخاش الأحمر ينمو بين القمح الأصفر هناك في الحقول، فرأيتها وأحضرتها لك فقلت لي) ما أجملها (وكانت الشمس كالنار).

كان يتكلم في خنوع، ويقف بين كل كلمة وأخرى كأنه يحاول أن يتبع خيط أفكاره. أم آلاف الصور المبهمة المضطربة كانت تتجمع في ذهنه. فيحاول أن يبززها ويتشبث باثنتين أو ثلاثة منها، تلك التي كانت أكثرها ثبوتا وأوضحها صورة، وتهرب منه الصور الباقية. كنت الحظ ذلك في عينيه فأتعجب. وكأنه شعر بما يجول في خاطري، فأدار رأسه صوب قوارب الصيد وقال وهو يفكر:

- هذا الشراع، إنه شراعان، واحد في الهواء، وواحد في الماء.

كان لا يدرك أن الشراع الأسفل انعكاس الشراع الأعلى على صفحة الماء. فجعلت اشرح له ذلك قدر امكاني، فاستمع إلي في ذهول، ثم ابتسم وتطلع إلى الأشرعة.

وسقطت زهرة من الخشخاش في النهر، فراقبها حتى اختفت مع التيار، ثم قال في صوت حزين لا يوصف (لقد رحلت بعيدا، بعيدا جدا (وكأنها شيء عزيز لديه).

وبعد لحظة من الصمت سألته (من أي قرية أتيت؟) فالتفت صوب السماء يتطلع إلى صفاء لونها الزبرجدي. كانت الجبال القاتمة تظهر أمام الأفق كأنها جبار راقد. وامتد الجسر الحديدي فوق النهر يقطع السماء إلى صور صغيرة، وظهرت خلفه الأشجار الخضراء وقد استحالت إلى أشباح قاتمة. واختلطت ضحكات الجنود في الثكنات بصوت البوق.

وأخيراً قال (كان عندي منزل ابيض، نعم كان كذلك، تحفه حديقة كبيرة من الفواكه. لقد اعتادت تريزا أن تحظر في المساء. كانت جميلة، أن عينيها. . . ولكن. . .)

وكف عن الكلام وقد ظهرت على هينيه الكآبة. ولكن سرعان ما عاد إلى هدوئه، ثم انحنى لي، وسار مبتعدا عني وهو يغني.

ومنذ ذلك الحين كنت كلما أراه يمر في الطريق أناديه وأجود له ببعض الطعام. وفي ذات مرة قدمت إليه القليل من النقود الذي أعطيتني إياه والدتي، ونظر إلي في صرامة، ثم دفع بها إلى في احتقار ظاهر، وأخيراً أدار ظهره ومشى دون أن يلتفت إلى.

وفي ذلك المساء قابلته خارج الميناء الجديد، فتقدمت إليه قائلا

- سامحني، سامحني.

فهرب كأنه حيوان جافل، وفي لحظة كان قد اختفى عن أنظاري بين الأشجار. ولكن في صباح اليوم التالي كان ينتظرني على باب داري، وابتسم في شجاعة، ثم قدم إلى ياقة يانعة من زهور المرجريت. كانت عيناه محضلتين بالدموع، وشفتاه ترتعشان. . . وعادت المياه إلى مجاريها.

وفي ذات مرة، في أواخر شهر أغسطس، كنا جالسين في نهاية الطريق وكانت الشمس قد توارت بالجبال. وقد امتدت أشجار الصنوبر حتى البحر، وابتدأ القمر يرتفع في بطئ في عنان السماء بين السحب القاتمة. . .

ونظر إلى القمر ثم تمتم قائلا (انظر! الآن تستطيع أن تراه. . تستطيع أن تراه)

وجعل يتأمله لحظة ثم قال (ذلك القمر! إن له عينين وأنفاً وفما كالبشر، لست ادري ما الذي يفكر فيه. من يدري؟)

ثم جعل يدندن أغنية ذات لحن حزين، من تلك الأغنيات التي يرتلها الأهلون عند قطف الكروم في ليالي الخريف الحارة. وكان يلوح لنا عن بعد مصباحا قطار قادم في سرعة، فظهرا كأنهما عينا وحش تحدقان فينا. ومر القطار يهدر ويتعالى دخانه وصفيره عند عبوره الجسر الحديدي، وعاد الصمت يخيم تدريجيا على الأرض الشاسعة.

ووقف الرجل على قدميه وصاح وهو يشير إلى القطار المبتعد (اذهب، اذهب، اذهب، بعيدا، بعيدا، انك تنساب كالتنين، والنار في داخلك، النار التي وضعها فيك الشيطان)

ولن أنسى ما حييت منظره وهو واقف في هذه اللحظة. . ولم يهدا انفعاله إلا بعد أن تلاشى صوت القطار وعاد الصمت يخيم على الطبيعة.

وعندما كنا في طريقنا إلى الدار كان لا يزال غارقا في أحلامه.

وفي ذات صباح جميل من سبتمبر ذهبنا إلى البحر. إن ذلك الاتساع السرمدي للماء الأزرق العميق كان ممتدا حتى الأفق المتألق، وكانت قوارب الصيد تبحر أزواجاً، فتظهر كأنها طيور هائلة الحجم مجهولة النوع، قد نشرت أجنحتها الصفراء القرمزية. وكانت الهضاب الرملية النحاسية ترقد على طول الساحل خلفنا وقد لاحت من ورائها الكتل الضخمة الخضراء من مزروعات شجر الصفصاف.

قال في صوت خافت وكأنه يخاطب نفسه في لهجة التعجب والشعور بالخوف (يا لهذا البحر الخضم الأزرق الضخم! ويا لهذه الأسماك الضاربة المفترسة! إن (أراكس) هناك سجين في قفص من حديد، يصيح فلا يسمع أحد صيحاته. انه لن يرجع ثانية. وهذه السفينة السابحة في الماء، إنها نجلب الموت لكل من يشاهدها؟

ثم صممت. . واقبل على الشاطئ حتى غمرت الأمواج البيض الصغيرة قدميه. من يدري ما الذي كان يحدث داخل عقل المسكين الضعيف؟

وبينما نحن مقبلان على الدار وقد التزم الصمت طول الطريق نظرت إليه فاخبرني قلبي بأشياء غريبة.

وهمس أخيراً في صوت خافت وهو يأخذ بيدي (إن لك أما في منزلك ننتظر أو بتك لتقبلك) كانت الشمس تغرب في الماء الصافي خلف الجبال، والنهر يتلألأ بشتى الانعكاسات.

فسألته والدموع تتساقط من عيني وانت، اين والدتك؟) فنظر إلى عصفورين في الطريق، والتقط حجرا سدده كأنه بندقية في يده، ثم أطلقه عليهما، فوليا كأنهما السهام.

وصاح وهو يراقب طيرانهما في السماء اللامعة وهو يضحك في صخب (طيرا. . طيرا. .)

ومرت الأيام فلاحظت فيه تغيرا، كأنما أصابته الحمى. كان ينطلق مسرعا إلى الحقول كأنه الجواد حتى يقع على الأرض مبهور الأنفاس، أو يرقد الساعات مفترش الثرى دون حراك يحدق بعينه في وهج شمس الظهر المحرقة. وعندما يقبل المساء كان يلقى بمعطفه الأحمر على كتفيه ويتنزه جيئة وذهابا في الميدان، يختال في خطوات طويلة بطيئة كأنه عظيم إسباني. وكان يتحاشاني، ولا يجلب لي الزهور. وتألمت لهذا الهجر. كان الناس يدعون بأنه سحرني. وفي ذات صباح ذهبت قاصدا لقياه. ولكنه لم يرفع عينيه، بل احمر وجهه كأنما مسته نار. فصحت في اضطراب (ما الأمر؟)

- لا شيء،

- بل هناك شيء.

- لا شيء.

- هذا غير صحيح.

ولاحظت انه ينظر أمامه بعينين متقدتين، فالتفت، فوجدته يتطلع إلى فتاة ريفية حسناء واقفة أمام مدخل حانوت

وتمتم وقد شحب لونه: (تريزا) ففهمت إن الرجل المسكين كان يتخيل في هذه الفتاة غادة بلدته التي أثرت على قواه العقلية

وبعد يومين قابلها في الميدان، فاقترب منها مبتسما وهو يقول: (إنك أكثر جمالا من الشمس. فلطمته بقوة على وجهه)

كان هناك بعض الصغار بالقرب منهما، فجعلوا يسخرون منه بعد أن تركته الفتاة وحيدا مصدوماً باهتاً، وابتدأت بقايا الخضر تطير فترتطم في وجهه. والتفت إلى الصبية، وهدر كالثور الجريح، ثم أمسك بواحد منهم وألقاه على الأرض كأنه من الأسمال.

ورايته، يمر أمام نافذتي بين أيدي اثنين من رجال الشرطة مقيدا، والدم يسيل من لحيته منحنى الظهر، مرتعش الجسد، والناس من خلفه يضحكون ويسخرون. نظرت إليه فامتلأت عيناه بالدموع.

وكان الحظ قد واتاه، فان الصبي لم يصب إلا بجروح يسيرة، وخرج من السجن بعد يومين

مسكين ذلك الرجل! كان قد تغير تغيرا تاما واصبح مكتئب الوجه لا يثق في أحد، غضوبا وكنت أراه في بعض الأحيان ينفلت مساء في سرعة كبيرة كأنه الكلب، ويختفي في طريق مظلم قذر

وفي ذات صباح مشرق الشمس صافي السماء من أكتوبر وجدوه على خط السكة الحديدية بجانب الجسر وقد تمزق إرباً حتى اصبح كتلة دامية مشوهة من اللحم، وانسحب إحدى ساقيه مع عجلات القطار الذي دهمه إلى مسافة بعيدة، وظهرت عيناه الخضراوان في رأسه المقطوع الذقن المصبوغ الشعر بالدم القاني، تحدقان في رعب هائل

مسكين ذلك الرجل! كان يود أن يشاهد القطار عن قرب، ولكنه كان يبتعد ثم يبتعد - كما يقول - ذلك الوحش الطويل ذلك التنين الذي بداخله النار التي وضعها الشيطان!

محمد فتحي عبد الوهاب