مجلة الرسالة/العدد 773/من شواهد النبوة
مجلة الرسالة/العدد 773/من شواهد النبوة
المتنبئون
للأستاذ علي العماري
(تتمة)
وثالث الأسباب التي دفعت بعشائر المتنبئين وأصحابهم إلى الصبر والصدق في حروب المسلمين الطمع في الملك والرغبة في السيادة. ولقد عرف المتنبئون كيف يأكلون الكتف، فهم إن فاتهم - إحكام الكذب في دعواهم لم يفتهم استمالة أقوامهم بما يطمعونهم فيه من ملك العرب. وهذا أمر قد استقام لكل المتنبئين، فأما مسيلمة فقد ابتدأ أمره بأن كتب للنبي ﷺ هذا الكتاب (من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد فأني قد أشركت معك وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً قوم يعتدون) فرد عليه النبي (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب. السلام على من أتبع الهدى. أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين) فلما جاءه كتاب الرسول أخفاه، وكتب عنه كتاب زعم أنه وصله بثبوت الشركة بينهما، وأخرج ذلك الكتاب إلى قومه فافتتنوا به. وبهذا - إلى جانب ما قدمناه من أسباب - استطاع عدو الله أن يسخر هذه الآلاف المؤلفة في حرب مبيده. وأما طليحة فقد ذكروا أن مما سجع به قوله (الحمام واليمام، والصرد الصوام، قد صمن قبلكم بأعوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام). وسواء أصحت هذه المقالة أم لم تصح فإنها تدلنا على كل حال على الفكرة التي كان يبثها طليحة في قومه، وهي أنهم إنما يطلبون الملك، وسينالونه. وسجاح ما كان لها أن تجرر وراءها سادات قومها من تميم، ووجوه أخوالها من تغلب ألا بهذه الأمنية الجذابة: (إنما أنا امرأة من يربوع، فإن كان ملك فهو لكم) إذن فقد كانت العصا السحرية التي أمسك بها هؤلاء المتنبئون هي التلويح بالملك والسيادة لهؤلاء العرب الظامئين إلى السلطان. ولقد ألم الرافعي رحمه الله في كتابه (إعجاز القرآن) ببعض هذه الأسباب التي شرحناها. قال بعد الكلام عب بعض المتنبئين: (على أنه لا اتباع له من غير قومه، ولا يشايعه من قومه ألا طائفة يستنفرون لأمره، ويعطفون عليه جنبات الناس حتى يجمعوا له أخلاطا وضروبا، وقد تبعوه وشمروا في ذلك حمية وعصيبة، وحدبا من الطباع على الطباع، فهم في غنى عن نبوته وقرآنه، وإنما رأيهم الخطار بالأنفس والأموال على ما تنزعهم إليه الطبيعة مقارنة لمن قارب صاحبهم، ومباعدة لمن باعد، وعسى أن يرد عليهم ذلك مغنما، أو ينفلهم من غيرهم، أو يجدي عليهم بالعزة والغلبة، أو يكون لهم سبيل منه إلى التوثب، أن صادفوا غرة، وأصابوا مضطربا إلى غير ذلك مما تزينه المطمعة، ويعزبه الغرور، ويقصد إليه بالسبب الواهي، وبالحادث الضئيل، وبكل طائفة من الرأي وبقية من الوهم، وتستوي فيه الشمال واليمين، وتتقدم فيه الرؤوس والأرجل، مبادرة لا يدري أيهما حامل وأيهما محمول)
يضاف إلى كل ذلك ما ذكره ابن خلدون من أن بعض هؤلاء المتنبئين وأنصارهم كان يطمع في النبوة، فلما لم تجئه عاند قال في فصل بعد الكلام على الكهان: (ثم إن هؤلاء الكهان إذ عاصروا زمن النبوة فإنهم عارفون بصدق النبي ﷺ لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبوة، ولا يصدهم عن ذلك ويوقعهم في التكذيب إلا قوة المطامع في أنها نبوة لهم فيقعون في العناد، كما وقع لأمية بن أبي الصلت، فإنه كان يطمع أن يتنبأ. وانقطعت تلك الأماني آمنوا أحسن إيمان كما وقع لطليحة الأسدي وسواد بن قارب، وكان لهما الفتوحات الإسلامية الآثار الشاهدة بحسن الإيمان).
قلنا في المقال السابق إن التنبؤ في العصر العباسي كان جنونا، فإن لم يكن فهو الحمق لا شك فيه، وإنما دعانا إلى هذا القول أنا وجدنا جمهرتهم غير جادين في هذا الإدعاء، فلا أنصار ولا اتباع ولا غايات عظيمة يقصدون إليها، كما كان هذا شأن أصحابهم السابقين، ولذلك فإنا لا نلم بأخبارهم مؤرخين، وإنما نلم بشيء منها فيه طرافة يستريح إليها الدارس، ويستمتع بها القارئ، فإن أخبارهم كما يقول صاحب العقد الفريد (حدائق مونقة، ورياض زاهرة، لما فيها من طرفة ونادرة، فكأنها أنوار مزخرفة أو حلل منشرة، دانية القطوف من جاني ثمرتها، قريبة المسافة لمن طلبها، فإذا تأملها الناظر، وأصغى إليها السامع، وجدها ملهى للسمع، ومرتعا للنظر، وسكنا للروح، ولقاحا للعقل، وسميراً في الوحدة، وأنيساً في الوحشة) وإنما كان الأمر كما يقول ابن عبد ربه لأن في أخبارهم الغريب المطرب، والطريف المعجب، بل إن ادعاءهم النبوة نفسه كان مما يضحك الثكلى، ويسري عن المحزون، لأنه اقترن بحمق وسخف. وحسبكم بقوم يفترون على الله الكذب، ويزعمون أنه أرسلهم زورا وبهتانا، دون أن يكمن وراء ذلك ما يكون كفاء لهذه الكذبة البلقاء، ليس ببعيد عندي أن الإخباريين اختلقوا وتزيدوا، وأرادوا مادة للسمر والتفكه فالتمسوها في المجانين، والحمقى، وفي هؤلاء. ولعل اختيارهم لهذا النوع كان اختياراً موفقا إلى حد بعيد. نعم روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون رجلا كلهم يدعي النبوة. ولكن نحن لا ننكر أن قوماً ادعوا النبوة كما أنا لا نسلم - كذلك - أن هذه الأخبار كلها وقعت بالفعل. ومهما يكن من شيء فإن أحق جانب بالنظر في أخبار هؤلاء هو جانب الفكاهة والممالحة. على أن أصحاب السمر لم يخلوا المتنبئين القدامى من لاذع نكاتهم. وما أشك في أن قصة زواج مسيلمة بسجاح وأنه اختدعها عن نفسها وأمهرها بإقساط صلاتين عن قومها، ما أشك في أن هذه القصة وضعها مازح مفحش خبيث.
أما أخبار متنبئ العصر العباسي فإنها تدلنا في جملتها على أنهم كانوا على حظ عظيم من الحيلة وحسن التخلص أو هكذا أراد لهم الوضاع.
ادعى رجل النبوة في عهد المهدي فأدخل عليه فقال: أنت نبي؟ قال: نعم. قال: متى نبئت؟ قال: وما تصنع بالتاريخ؟ قال: ففي أي المواضع جاءتك النبوة؟ قال: وقعنا - والله - في شغل! ليس هذا من مسائل الأنبياء، إن كان رأيك أن تصدقني في كل ما قلت فاعمل به، وإن كنت عزمت على تكذيبي فدعني أذهب عنك. فقال: المهدي: هذا لا يجوز؛ إذ كان فيه فساد الدين، قال: وا عجبا! تغضب لدينك لفساده، ولا أغضب أنا لفساد نبوتي؟ ثم قال المهدي: أحاكمك فيما جاء به من قبلي من الرسل، قال: رضيت، قال أكافر أنا عندك أم مؤمن؟ قال: كافر، قال فإن الله يقول: (ولا تطع الكافرين والمنافقين، ودع أذاهم) فلا تطعني ولا تؤذني، ودعني أذهب إلى الضعفاء والمساكين فإنهم أتباع الأنبياء، وأدع الملوك والجبابرة فإنهم حطب جهنم. فضحك المهدي وخلى سبيله.!!
وإذا كان هذا لجأ إلى آية من كتاب الله يستند إليها ويتخلص بها فإن غيره كان يعتمد على النكتة البارعة، والأضحوكة الآخذة، يتلمس بها الخلاص من قبضة الخليفة وبطشه. . . أتى المأمون بإنسان تنبأ فقال له: ألك علامة؟ قال: نعم. علامتي أني أعلم ما في نفسك! قال المأمون: قربت علي، ما في نفسي؟ قال: في نفسك أني أكذب! قال: صدقت، وأمر به إلى الحبس، ثم أخرجه بعد أيام، فقال: هل أوحي إليك بشيء؟ قال: لا. قال: ولم؟ قال: لأن الملائكة لا تدخل الحبس! فضحك المأمون ثم أطلقه.
وجيء بمتنبئ - مقيدا - إلى سليمان بن علي فقال له: أنت نبي مرسل؟ قال: أما الساعة فأني مقيد. قال: ويحك! من بعثك؟ قال: أبهذا تخاطب الأنبياء يا ضعيف، والله لولا أني مقيد لأمرت جبريل أن يدمدمها عليكم. قال: فالمقيد لا تجاب له دعوة؟ قال: نعم. الأنبياء خاصة إذا قيدت لم يرتفع دعاؤها.
ولا أدري ما الذي حمل الإخباريين على أن يشقوا لكل متنبئ طريق النجاة إن لم تكن الدعابة هي غايتهم؟! على أنهم إذا أوقعوا أحدهم في مكروه التمسوا الفكاهة في ناحية أخرى من خبره. ادعى رجل النبوة في زمن خالد بن عبد الله القسري الوالي الأموي وعارض القرآن، فأتى به خالد، فقال له ما تقول؟ قال: عارضت في القرآن ما يقول الله تعالى (إنا أعطيناك الكوثر) فقلت أنا ما هو أحسن من هذا: إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وجاهر، ولا تطع كل كافر وساحر. فأمر به خالد فضربت عنقه وصلب، فمر به أحد الظرفاء فقال: إنا أعطيناك العمود، فصل لربك على عود، وأنا ضامن ألا تعود.
هكذا كانوا يتندرون بهم، ويسخرون منهم، ونحن لا نجد في عصرنا من يدعي الألوهية في الدين وفي غير الدين، فهل يصلي هؤلاء على عود؟!
علي العماري
مبعوث الأزهر إلى معهد العلمي بأم درمان