مجلة الرسالة/العدد 775/تولستوي الحائر

مجلة الرسالة/العدد 775/تولستوي الحائر

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 05 - 1948



للأستاذ محمود الخفيف

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

ما الحياة إلا وهم. وما سعينا فيه إلا عبث. وما أنفسنا وأولادنا إلا طعام للدود. وما مسراتنا وملاهينا إلا كأصوات الخائفين من الأطفال في ظلام الغابة اللفاء يدرأون بها عن أنفسهم الخوف. وما ذلك الذي نسميه في الحياة جمالا إلا غرور، إن كل ذلك إلا باطل؛ وإن هو إلا اللاشيء. ذلك ما أفضى به إليه تأمله، وذلك ما يعذه ويفزعه ويحيطه باليأس من جميع أقطاره

وليته ينسى! ولكن انى له النسيان وهذه الحياة نفسها تذكره أبداً بفزعه الأكبر منها؛ وهو ما فكر فيها لمجرد الفكر في ذاته، ولكن شيئاً مبهماً خفياً ظل يوجه نفسه هذه الوجهة منذ حداثته، لا ينقطع عنه إلا ليعود إليه أقوى مما كان، وما زال حتى وقف به على حافة الهاوية. .

وما قصر أو تهاون في درس أو قعد عن استقصاء. قال: (ولكني ربما كنت قد سهوت عن شيء أو أخطأت فهم شيء. ذلك ما تحدثت به إليّ نفسي مراراً؛ فليس من الممكن أن تكون مثل هذه الحال من اليأس أمراً طبيعياً في الإنسان. ثم بحثت عن تفسير لهذه المسائل في كل ناحية من نواحي المعرفة بلغها الناس، وبحثت بحثاً مؤلماً طويلا، لا لمجرد الفضول والنظر، وقضيت في بحثي الشاق زمناً، بالنهار وبالليل، أجدُّ كما يجد من أشرف على الهلاك حين يطلب النجاة؛ فلم أعد من ذلك بطائل)

لم يدع شيئاً من العلوم النظرية ولا من العلوم التجريبية، ولكنه لم يجد في العلم بغيته. فما بلغ العلماء من العلم إلا بعض ما يتصل بأبحاث المختصين والمحترفين، أما ماله صلة بالمشكلة الأساسية وهي مشكلة الحياة، فقد أهملوه أو جهلوه. يقول عن العلماء (إنهم هكذا يجيبونك: أما عن سؤالك: ماذا أنت ولم تعيش، فليس لدينا جواب، وليس هذا مما نشغل أنفسنا به. أما إذا أردت أن تعلم قوانين الضوء أو قانون الاتحاد الكيمائي أو غيرها فلدينا أجوبة واضحة محددة عن ذلك لا تقبل الجدل).

ولم يدع شيئاً مما له في الفلسفة صلة بمسائل الحياة، فقرأ سقراط وبوذا وسليمان الحكيم وشوبنهاور واضرابهم، ولكنه لم يرجع من فلسفتهم إلا (بأن كل شي في الحياة عبث، وأن السعيد هو ذلك الذي لم يولد).

ماذا يقول سقراط؟ أليس هو القائل: (إننا نقرب من الحقيقة كلما أخذنا في الابتعاد عن الحياة، وأن حياة الجسد شر وباطل؛ وعلى ذلك فالقضاء على حياة الجسد من النعيم، وينبغي علينا أن نطلبه؟) وماذا يقول بوذا؟ أليس هو القائل: (إن من المستحيل أن نعيش وفي نفوسنا أن الألم أمر لابد منه، وأننا سوف يلحقنا الضعف ويصيبنا الكبر ويدركنا الموت. . . ألا إنه يجب علينا أن نتخلص من هذه الحياة؟).

وماذا يقول سليمان؟ أليس هو القائل (عبث في عبث وباطل في باطل، وماذا يجني الإنسان من عمله تحت الشمس؟ يمضي جيل وياتي جيل غيره والأرض هي الأرض قائمة أبداً؛ وكل ما كان هو ما سوف يكون، وما عمل هو ما سوف يعمل؛ ولا جديد تحت الشمس. ولن يذكر ما مضى من الأشياء، وكذلك ما هو آت فسوف لا يذكره من يأتي بعده).

وماذا قال شوبنهور؟ أليس هو القائل: (الحياة هي ذلك الذي كان يجب ألا يكون. . . هي الشر؛ وإن انتهاءنا إلى اللاشيء هو الخير الوحيد فيها).

وهذه الحكمة الهندية القديمة كيف تصور الحياة؟ (كان سكياموني أميراً شاباً يعيش عيشة سعيدة حُجب عنه العلم بالمرض والكهولة والموت. وخرج الأمير ذات يوم للنزهة فبصر بشيخ فقد أسنانه، يتعثر في مشيته، ويبعث منظره الرعب في النفس، فسأل ذلك الأمير الذي لم يكن له علم بالشيخوخة حتى ذلك اليوم سائق عربته، وقد أخذه العجب: ماذا يكون ذلك؟ وكيف وصل الرجل إلى هذه الحال التعسة الكريهة؟ ولما علم الأمير أن ذلك حظ الناس جميعاً، وأنه سوف يصيبه لا محالة يوماً ما، لم يستطع أن يستمر في نزهته، وأمر سائقه فعاد به إلى القصر ليتفكر في هذه الحقيقة. ثم أغلق من دونه الأبواب وجعل يتفكر. ويرَّجح أنه وجد عزاء لنفسه؛ فقد خرج ثانية للتنزه مبتهجاً سعيداً، ولكنه أبصر هذه المرة مريضاً متهدماً أعشى العينين مرتعش البدن، ولما لم يكن للأمير علم بالمرض فقد وقف وسأل عن ذلك. ولما علم أنه المرض، وأن كل إنسان عرضة له وأنه هو نفسه، وهو الأمير القوي السعيد، قد يمرض في غده، لم يطق متابعة سيره وعاد ثانية إلى قصره ليتدبر ويبحث عن عزاء ويرَّجح كذلك أنه أصاب عزاء، فقد خرج يتنزه للمرة الثالثة. ولكنه في هذه المرة وقع على منظر جديد؛ فقد أبصر رجالا يحملون شيئاً ما، فسأل ماذا يكون؟ ولما أخبر أنه رجل ميت قال متعجباً: ميت؟ وما الميت؟ وأخبر أن الإنسان إذا أصبح مثل ذلك الرجل صار ميتاً. فدنا الأمير من الجثة وكشف عنها غطاءها ونظر فيها وسأل ماذا يحدث بعد ذلك؟ فأخبر أنها سوف تدفن في الأرض واستفهم عن سبب ذلك فأجيب: لأن الميت سوف لا يعود إلى الحياة وسوف يتعفن وينتج الدود. وسأل الأمير أذلك حظ الناس جميعاً؟ وهل يحدث لي مثل هذا؟ وهل أدفن وأتعفن وأنتج الدود؟ أتقول نعم؟ إذن فإلى القصر. ولن أخرج بعد ذلك أبداً طلبا للمتعة.

ثم إن سكياموني فقد كان عزاء، وأيقن أن الحياة أعظم شر، وجعل همه كله أن يتخلص منها ويخلص غيره).

هكذا تُصور الحكمة الهندية الحياة وهكذا يراها تولستوي، ولقد فكر كثيراً في أن يتخلص منها. . .

ولكنه يرى كثيراً غيره من الناس يعيشون لا تزعجهم الحياة ولا يكربهم التفكير فيها، فإذا كان لم يجد في العلم هداه ولا في الفلسفة، أفلا ينظر في حياة الناس ليرى كيف يرضون ولا يشقون مثل شقائه؟

وعرف من الناس في الحياة أربعة أنماط: ففريق هم الجهلاء الذين لا يدرون أن الحياة عبث وسخف، وليس له في هؤلاء فائدة؛ لأنه لا يستطيع أن يعود جاهلا. وفريق يعلمون سخفها، ولكنهم مع علمهم يوطنون أنفسهم على تحملها، وهو لا يقدر أن يجاريهم فهو متبرم ساخط. وفريق هم الجادون العاملون الذي يتخلصون من الحياة على أية صورة، وهو لا يستطيع أن يفعل فعلهم لأن شيئاً خفيا يمنعه من ذلك كلما أغراه اليأس. وفريق يرون الحياة زوراً وعبثا وأن لا خير في مستقبل ولا رجاء، ومع ذلك فهم يتعلقون بها وإن تعذبوا، وهو من هذا الفريق.

على أن هناك فريقاً خامساً لا يدخل في هذه الأنماط الأربعة، هم أولئك الذين لا يكترث لهم أحد، وينظر إليهم السادة نظرتهم إلى الدواب، وهؤلاء قد وجدوا لهم في الحياة معنى يعيشون عليه، معنى لا يتصل بالمعقول ولا بالفلسفة، وذلك هو الإيمان.

ولكن إيمان هؤلاء يقوم على أساس من الأرثوذكسية عقيدة الكنيسة الروسية الإغريقية، وهي ما لا يستطيع أن يحمل عقله على قبوله. . .

يا للحيرة! إن العقل يفضي به إلى إنكار الحياة نفسها، وإن الإيمان يقضي أن يعطل العقل. . . أي بلاء هذا؟ وأي ليل معتم!

ولكنه علم فيما علم قول المؤمنين إنه لابد من إعداد النفس للإيمان حتى تؤمن؛ وإذاً فليدع العقل جانباً وليناقش رجال الدين، ولينظر في كلامهم لعله يصل إلى قلبه، وليقرأ ما كتبه آباء الكنيسة، وليطالع سير القديسين، وليتعبد فيقيم الشعائر جميعاً، وليزر الأديرة، وليذهب إلى الأب الصالح أمبروز، ذلك الذي كان يستعينه جوجول والذي استعانه دستويفسكي وسولوفييف؛ وفعل ذلك جميعا ولكن الشك مازال يأخذ بخناقه ويكاد يزهق روحه. . .

ويقرأ العقيدة الأرثوذكسية، وكلما أمعن فيها سخر منها وبعد عن التصديق بها. فما هذا التثليث؟ وما هذا التحول إلى دم المسيح ولحمه؟ وما تلك المعجزات التي تنسب إلى القديسين؟ وما تلك الأدعية والصلوات والطقوس؟ أذلك مما يقبله العقل؟ كلا ثم كلا

ثم يحاول أن يطرد الجحود من نفسه فربما كان الجحود هو ما يحول بينه وبين الإيمان. ويقول لنفسه دائما إنه مستعد لأن يؤمن. قال في كتابه (اعتراف) يصف ذلك: (لقد اتجهت صوب الإيمان لأني لم أجد شيئا خارجه إلى الخراب. وعلى ذلك فما دمت لا أستطيع أن أطرح عقيدتي جانبا فقد صدقت وخشعت. وقد أحسست في قلبي من القنوت والخشوع ما جعلني أفعل ذلك. ثم إني عدت فخشعت وازدردت الدم واللحم من غير سخرية في نفسي رغبة مني في أن أصدق؛ ولكني أذكر ما مر بي من صدمة وأرى ما ينتظرني فيما هو قادم، فلا أملك أن أظل مصدقا).

وإذ يرى نفسه في بحر لجي من الحيرة يسأل نفسه: ماذا يريد أن يعرف على التحديد ليلتمس السبيل إلى معرفته؟ فيكتب على رقعة: لماذا أنا حيّ؟ ما سبب حياتي وحياة غيري من الناس؟ وما هدف حياتي وحياة غيري؟ ماذا تعني ثنائية الخير والشر التي أحسها في نفسي؟ ولماذا هي قائمة فيها؟ وعلى أي وجه ينبغي أن أحيا؟ وما الموت؟ وأهم من ذلك كله وأكثره تعقيداً كيف أنجي نفسي؟ ذلك أني أحس أني هالك، فإني أعيش ثم أموت؛ وإني أحب الحياة وأخاف من الموت، فكيف أنجي نفسي؟)

وإذا لم يبق له إلا الدين والإيمان، فأي أيمان؟ إنه إذا قارن في نفسه بين تلك الأوقات التي آمن فيها بالله وبين تلك التي أنكر فيها الله، وجد الأولى نيرة فيها شفاء للنفس، ووجد الثانية مظلمة فيها العناء، ولكن الإيمان بالله شيء، والإيمان بما تقول الكنيسة الأرثوذكسية شيء آخر. . .

ولا يزال يطيل القراءة في العقيدة الأرثوذكسية، ولا يزال يقرأ الأديان جميعاً في كتبها، ولا يزال يزور الأماكن المقدسة علها توحي إلى نفسه الإيمان، ومن ذلك مدينة كييف وما تزدحم به من كنائس وأديرة قديمة. ولا يزال يستفهم القسيسين والطيبين من الطاعنين في السن من الناس. ولا يزال يقيم الشعائر ويعظمها. . ثم لا يعود من ذلك جميعاً بشيء إلا الجحود بما تقول الكنيسة.

تلك حال ترلستوي وما صنع في تلك السنوات التي أعقبت زواجه حتى أتم كتابه (أنا كارينينا). ثم تلقى الضربة التي جعلته يتخبط في الظلام، والتي جعلته يلقى بعيداً بحبل كان في متناوله مخافة أن يشنق نفسه، ويجعل دون بندقيته قفلاً غليظاً كيلا يصوبها إلى قلبه. وما تلك الضربة إلا أنه بعد طول عنائه يرى الحياة لا شىء، ولكم يزعجه اللاشىء ويوبق روحه ويرعزع فؤاده!

ولكن إذا كان لا يحب أن يقتل نفسه فما معنى أن يستسلم لليأس؟ وكيف يحيا إذن ويطيق حياته إذا كان لا يرضى الموت ولا يرضى الحياة؟

إذن فليجاهد على وعورةّ الطريق وبعد الشقة وظلمة المفازة، ليجد معنى للحياة ترتاح له نفسه، ويسعد به البشر. ولئن وقف به ما سلف من جهاده وقفة التائه الذي يخيفه الفضاء والظلام، فلخير له أن يمضي لعله يجد بعد الضلال هدى وبعد العذاب راحة. ولأن يتحمل وعثاء السفر مهما عظمت أهوَن عليه من هذه الوقفة التي تكاد تلقيه في قرار سحيق. .

لقد قضى من عمره قرابة ثلاثين عاماً يعمل للفن، فليقض ما بقى من عمره عاملاً على تقرير معنى الحياة، وليس ما يمنع أن يكون الفن أداته فيما هو قادم إذا لزم الحال. . .

وسوف يعمل تولستوي دائباً ناصباً، حتى ليعد جهاده في سبيل غايته من أروع فصول الكفاح في خطى البشرية، فليس أبلغ في معاني البطولة من تحمل مثل ما سوف يلقاه من عذاب، ولا من الصبر على مثل ما سوف يعترض له من صعاب. ولسوف يغدو تولستوي في تاريخ الفكر الحديث، والأدب الحديث، والفن الحديث، بجهاده الهائل منقطع القرين في إخلاصه وحميته وثباته. أجل، وسوف يرتفع إلى منزلة وسط بين الأنبياء والناس.

محمود الخفيف