مجلة الرسالة/العدد 775/عبد الله بن سبأ
2 - عبد الله بن سبأ مجلة الرسالة/العدد 775/عبد الله بن سبأ للدكتور جواد علي وجاء في تأريخ الطبري: (كان عبد الله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء أمه سوداء). واكتفى في مواضع أخرى من تأريخه (بابن السوداء) وفي العبارة الأولى شرح لكلمة (ابن السوداء) ويدل ما ذكره الطبري على أن أم عبد الله كانت سوداء اللون وأنها كانت قريبة من الزنوج أو من أصل زنجي قريب أو بعيد، وأن أباه كان من اليمن وإن كنا لا نعرف اسمه كما لا نعرف اسم أمه، وأنه كان يهودياً إلى أيام عثمان. وفي البيان والتبيين) حديث جاء في بعض فقراته (فلقيني ابن السوداء وهو ابن حرب) ولست في شك من أنه يقصد (بابن السوداء) عبد الله بن سبأ الذي يتحدث عنه أصحاب كتب الفرق، لأن المقالة المنسوبة إلى هذا الرجل هي نفس المقالة التي ينسبها الرواة الآخرون إلى عبد الله بن سبأ، كما يذكر مؤرخون ورواة أن (ابن سبأ) هو (ابن السوداء) فهل عرف الجاحظ ذلك، أن أنه قصد شخصاً آخر؟ على كل حال فالمهم في الرواية أنه نص على اسم والد (ابن السوداء) فدعاه (حرباً) ولكن أي (حرب) هو؟ فهنالك مئآت من الأشخاص عرفوا بحرب. ثم من كان والد حرب؟ ومن أي قبيلة كان؟ ذلك ما لم يتحدث عنه الجاحظ ولا غير الجاحظ من الكتاب أو الرُّواة أو المؤرخين. وقد فرَّق بعض الرُّواة بين (عبد الله بن السوداء) و (عبد الله بن سبأ) فجعلوا كل واحد منهما شخصاً، ومن هؤلاء ابن عبد ربه، والبغدادي، ومن أخذ عنه مثل الاسفرائيني. ويعتقد المستشرق (إسرائيل فريد لندر) أن هذا التفريق الذي جاء في كتاب (البغدادي) سببه الرواية المنسوبة إلى الشعبي ونصها: (وقد ذكر الشعبي أن عبد الله ابن السوداء كان يُعين على قولها. وكان ابن السوداء في الأصل يهودياً من أهل الحيرة فأظهر الإسلام وأراد أن يكون له عند أهل الكوفة سوق ورياسة فذكر لهم أنه وجد في التوراة أن لكل نبي وصياً إلى آخر الرواية، وكان قد ذكر قبل لك اسم (عبد الله بن سبأ) فحدث هذا الاختلاف ولكنه كان يقصد في الواقع شخصاً واحداً لا شخصين ويظهر مثل هذا الاختلاف ولكن بصورة أخرى في موضع من كتاب (العقد الفريد) للفقيه أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي المتوفي سنة 328 للهجرة. في الموضع الذي ذكر فيه رواية مفصلة للشعبي عن (الرافضة) - وأكثر الروايات اليت تتعرض لبحث الرافضة هي من روايات الشعبي - جاء فيها (وقد حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار، ونفاهم إلى المدائن: منهم عبد الله بن سبأ، نفاه إلى ساباط، وعبد الله ابن السَّبَّاب، نفاه إلى الحاذر، وابن كروَّس). فذكر الشعبي في رواياته هذه اسم شخصين: (عبد الله بن سبأ) و (عبد الله بن السباب) والذي يطالع هذا الموضع يتصور أنه الثاني من زعماء الغلاة في حب علي بن أبي طالب، وأنه كان من حزب عبد الله بن سبأ، وأن اسم والده هو السباب) ولكن إذا ما درسنا كتب الفرق وجدنا أنها تسمى أتباع عبد الله بن سبأ (السبائية) كما تسميهم (السبابية) في ذات الوقت. جاء في كتاب البغدادي (الفرق بين الفرق) (الفصل الأول من فصول هذا الباب، في ذكر قول السبابية، وبيان خروجها عن ملة الإسلام. السبابية أتباع عبد الله بن سبأ الخ) وقد تكرر ورود هذه التسمية في كتب أخرى. وأرى أنها لم تأت عن اشتباه أو عن خطأ في الكتابة، بل جاءت من سبَّهم الخلفاء. وقد ظهر السبُّ بيهم على ما يظهر قبل أيام عثمان. ولما جاء الإمام إلى العراق أنكر عليهم ذلك. وظلت فرقة منه ماضية في سبها. كما سبَّ الخوارج سائر الصحابة ممن اشترك في الحوادث السياسية منذ عهد عثمان فما بعد. والظاهر أن القدماء كانو يطلقون على تلك الجماعة (السبابية) وعلى الوالد منهم (السبابي) نسبة إليه تمييزاً لهم عن الفرق الأخرى التي ظهرت بعد وفاة الرسول، كالذي رواه أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري المتوفي سنة 276 للهجرة في كتابه (عيون الأخبار) عن المغيرة من أنه كان (سبابياً) وأنه كان من الغلاة وكان (المغيرة) وهو الغيرة بن سعد مولى لبجيلة من السبابين. وقد أصلح جماعة من المحققين والناشرين المخطوطات القديمة واستبدلوا (بالسبابية) السبائية و (بسبابي) سبائي لشيوع (السبائية) وشهرتها. ورد في النسخة الخطية (لعيون الأخبار) (وأما المغيرة فكان مولى لبجيلة وكان سبابياً وصاحب نير نجات) فاستبدل محقق هذا الكتاب بكلمة (سبابياً) كلمة (سبائياً) أي من السبائية (أتباع عبد الله بن سبأ. وقد اعتمد في ترجيحه هذه الكلمة على ما جاء في مفاتيح العلوم للخوارزمي وعلى ما جاء في العقد الفريد وفي القاموس كما استبدل السيد سعيد العريان محقق (العقد الفريد) (بعبد الله بن السباب) عبد الله بن السوداء. ومعنى هذا أن عبد الله بن السوداء شخص آخر غير عبد الله بن سبأ كما جاء ذلك لدى البغدادي. وأعتقد أنه لا داعي إلى هذا التبديل فلعل (ابن السباب) من (السبابية) وهي إحدى المصطلحات القديمة التي كانت تطلق على الجماعة التي كانت تسبُّ قسماً من الصحابة. وعلى كل فنحن لا نعرف أي شيء عن هذا الشخص الذي سماه الرواة (عبد الله بن السباب) ولا عن الشخص الآخر الذي سمَّاه صاحب العقد الفريد (ابن كروّس) ويذهب أكثر الرُّواة إلى أن (عبد الله بن سبأ) هو من أهل اليمن. وقال بعضهم أنه من حمير؛ ولذلك قيل له (الحميري) وقد عرف (كعب الأحبار) وهو يهدي مسلم بالحميري كذلك؛ غير أننا لا نستطيع أن نقطع بأنه كان من حمير أي من صميم (حمير) فيجوز أن يكون من المنتسبين إليها بالولاء. وهنالك رجل آخر له شهرة في التأريخ قيل عنه أيضاً إنه كان يهودياً أو من أصل يهودي، هو (وهب بن منبه) ثم أسلم أو أسلم أهله. وقد ميز عن صاحبيه بلقب هو (الأبنوي) ويعني هذا اللقب أنه كان من (الأبناء) أي من أبناء جنود الفرس الذين كانوا قد جاءوا إلى اليمن قبل الإسلام لطرد الأحباش. وزعم الطبري في تأريخه أنه كان من أهل صنعاء أما الشعبي فقد ذهب إلى أن عبد الله بن السوداء كان من أهل الحيرة. ونحن لا نستطيع رفض رواية الطبري كما لا نستطيع قبولها. ولا نستطيع أيضاً تصديق رواية الشعبي ولا تكذيبها. حتى أننا إذا ما أخذنا بالرواية الثانية فإنها لا تتعارض مع الرواية الأولى إذ يجوز أن يكون من أصل يماني هاجر إلى الحيرة في العراق. كما أن من الجائز أن يكون اسم (سبأ) هو الذي أوحى إلى الرواة بهذه القصة قصة موطن (عبد الله) وانتسابه إلى اليمن ومن اليمن في صنعاء. وأستطيع أن أقول وأؤكد أن اشتهار (عبد الله) بابن السوداء لم تكن شهرة تسره، كما لم تكن شهرة تسر أتباعه إن كان له أتباع حقاً. وقد استعملت هذه الكلمة دوماً للتحقير والازدراء. وقد عير بها (عمار بن ياسر) حينما تجاسر وتطاول على الخليفة عثمان بن عفان فكان من جملة ما قاله الخليفة (ويلي على ابن السوداء! لقد كنت به عليما) وقد عير بها (المقداد ابن الأسود) فقيل له (يا ابن السوداء). ولما غضب أبو ذر الغفاري على كعب الأحبار قال له (يا ابن اليهودية) و (يا ابن السوداء). ويكاد يكون في حكم الإجماع بين الرواة الذين ذكروا خبر عبد الله بن سبأ أنه كان يهودياً. وقد أيد علماء الشيعة ذلك أيضاً مثل النوبختي والكشي والكليني المحدث الشيعي الشهير صاحب كتاب (الكافي) في أحاديثه عن الإمام الصادق في عبد الله ابن سبأ. ويظهر من دراسات هذه الروايات أنها ترجع في الواقع إلى أوائل العصر العباسي وأواخر العصر الأموي. وقد كانت (صنعاء) عاصمة اليمن في أيام الأحباش قاعدة مهمة لليهود. والظاهر أنهم أقاموا بها منذ مدة قبل غزو الأحباش لليمن. وأنهم صاروا يشعرون بطمأنينة بال وراحة في هذه المدينة، فربطوا حوادثها بالتوراة وقالوا إنها مدينة (أزال) (أوزال) التي ورد خبرها في الكتاب المقدس. فهل كان (عبد الله بن سبأ) أحد هؤلاء اليهود الذين حافظوا على ديانتهم إلى أيام الخليفة عثمان بن عفان حتى إذا أسلم تلمكته حمى التنقل من مكان إلى مكان ومن قطر إلى قطر داعياً الناس إلى دعوات غريبة، طمعاً في إثارة الفتنة وخلق الفوضى في صفوف المسلمين. فزار الحجاز وذهب إلى البصرة فالكوفة فالشام فمصر، واتصل بكل هذه الأقطار عن طريق المراسلة حتى تمكن من تأجيج نار فتنة لم تخمد حتى اليوم؟ والعجيب أن رجلا كهذا الرجل لم يسجل الرواة حوادثه ولا أخباره، ثم ينصاع له شيوخ من شيوخ المسلمين، ولا يتقدم أحد لقتله أو سجنه على هذه المقالات التي كان يظهرها وهو في صورة مسلم يدين بالإسلام. ذكر الطبري أنه لما مضى من إمارة ابن عامر ثلاث سنين بلغه أن في عبد القيس رجلا نازلا على حكيم بن جبلة، وكان حكيم ابن جبلة لصاً، إذا قفل الجيوش خنس عنهم فسعى في أرض فارس فيغير على أهل الذمة ويتنكر لهم ويفسد في الأرض ويصيب ما شاء ثم يرجع. فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة إلى عثمان فكتب إلى عبد الله بن عامر أن احبسه. ومن كان مثله فلا يخرجنَّ من البصرة حتى تأنسوا منه رشداً. فحبسه، فكان لا يستطيع أن يخرج منها. فلما قدم ابن السوداء نزل عليه واجتمع إليه نفر فطرح لهم ابن السوداء ولم يصرح. فقبلوا منه واستعظموه. وأرسل إليه ابن عامر فسأله ما أنت؟ فأخبره أنه رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام ورغب في جوارك. فقال ما يبلغني ذلك، أخرج عني. فخرج حتى أتى الكوفة فأخرج منها، فاستقر بمصر وجعل يكاتبهم ويكاتبونه ومختلف الرجال بينهم) والمعروف أن ولاية (عبد الله بن عامر) على البصرة، بعد عزل أبي موصى الأشعري عنها، إنما كانت في سنة تسع وعشرين للهجرة في عهد الخليفة عثمان بن عفان فيكون مجيء عبد الله ابن سبأ إلى البصرة إذاً في سنة 32 - 33 للهجرة، أي في السنة الثالثة من حكمه كما أخبر بذلك الطبري. . . (للبحث بقية) جواد علي