مجلة الرسالة/العدد 776/القصص
مجلة الرسالة/العدد 776/القَصصُ
المنبوذة
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
عندما دخلت استراحة المسافرين بمحطة لوبان؛ صوبت أولى نظراتّي إلى الساعة، فرجدت أنه لا يزال أمامي متسع من الوقت حتى يصل قطار باريس السريع. وشعرت فجأة بالإجهاد كأني قطعت عشرة فراسخ سيراً على الأقدم. فنظرت حولي لعلي أرى على الجدران ما أقتل به الوقت فلم أجد شيئاً. فخرجت ووقفت أمام مدخل المحطة، وأنا أقلب الفكر فيما يرفه عن نفسي إلى أن يصل القطار.
كان الطريق أمامي قد نمت على جانبيه أشجار الفتنة بين صفين من مختلف المنازل الصغيرة، وقد ارتفع الطريق صعداً؛ فبدت نهايته كأنها حديقة بعيدة.
وكان مقفراً إلا من هرة تتسكع في الطريق في خفة، وكلب يسرع في مشيته يشتم قوائم الأشجار باحثاً عن فضلات الطعام. . .
واجتاحتني موجة حزينة من الشعور بالخيبة. ما العمل. . .؟ ما العمل؟ وجدت أنه لا مفر لي من الانتظار الممل بمقهى المحطة الصغير. وتصورت نفسي جالساً وأمامي قدح من الخمر لم تمسه شفتاي، وجريدة محلية عافت نفسي قراءتها، عند ما بدت أمامي جنازة قادمة من شارع جانبري لتخترق ذلك الطريق أمامي.
شعرت عندئذ أن منظر مركبة الموتى قد فرج عن نفسي.
لقد ربحت على الأقل عشر دقائق من فراغي الطويل. وتضاعفت فجأة انتباهي عند ما شاهدت الميت لا يشيعه سوى ثمانية رجال كان أحدهم يبكي في حرارة والآخرون يثرثرون ويتحدثون أثناء سيرهم. ولم يشترك في الجنازة أي قس. ففكرت وأنا أخاطب نفسي (هاهوذا دفن مدني) ولكن سنح لي خاطر: ما بال المئات من ذوي الأفكار الحرة الذين يعيشون في البلدة لا يشتركون في إبداء شعورهم في مثل هذه المناسبة؟ إن سير هذه القافلة السريع قد دل على أنهم سيدفنون الفقيد دون احتفال ديني.
ودفع بي فضول إلى افتراض فرض معقد بعيد. ولكن؛ بينما كانت المركبة تمر أمامي، إذ بفكرة تنبعث في خاطري هي أن أشيع المركبة مع هؤلاء المشيعين وبذلك أشغل من وقتي الضائع ساعة على الأقل؛ فسرت وأنا أتظاهر بالحزن خلف الآخرين.
والتفت آخر اثنين منهم إلي في دهشة، ثم تحدثا في صوت خافت. فاعتقدت أنهما يتساءلان عن سبب وجودي وأنا الغريب عن هذه البلدة. ثم استتارا الاثنين اللذين أمامهما؛ فالتفتا ناحيتي يتطلعان أليَّ في فضول. فضايقني ذلك الأمر، وعزمت على أن أضع حداً له؛ فاقتربت منهم، وقلت بعد أن بادلتهم التحية: (أرجو المعذرة أيها السادة إذا كنت قد قطعت عليكم حديثاً، ولكني عندما شاهدت الجنازة دفعت نفسي إلى اللحاق بها دون سابق معرفة بالفقيد الذي تشيعونه)
فرد أحدهم قائلا (أنها فقيدة).
فدهشت، وسألت: (إذن هي جنازة مدنية، أليس كذلك؟).
فأجاب آخر يشرح لي قليلا: (نعم، ولا. أن القس رفض أن ندخل بها الكنيسة).
فبدرت مني آهة من الدهشة لأني لم أفهم ما يعني.
فصرح قائلاً في صوت خافت: (إنها قصة محزنة. إن هذه الشابة قد انتحرت. وهذا هو السبب في عجزنا عن إجراء الطقوس الدينية قبل دفنها. إن من تراه يبكي هنا هو زوجها)
فقلت بعد تردد (إنك لتدهشني وتثير فضولي. هل أنتهك سرا إذا ما رجوت أن تقص على هذه القصة؟ إذا كنت تشعر بأن ذلك فضولا مني فاعتبر كلامي كأن لم يكن).
فأخذ الرجل بذراعي دون كلفة وقال: (كلا. . ليس ما يمنع أن أسرد عليك وقائعها. فلنبطيء في السير قليلا حتى نكون آخر المشيعين، ولدينا من الوقت ما يكفي للسرد قبل أن نصل إلى المقبرة عند الأشجار التي تشاهدها هناك)
ثم طفق يحدثني قائلا (تصور أن هذه المرأة الشابة السيدة بول هامون كانت ابنة أحد التجار الأثرياء السيد فونتانلي. وكان قد حدث لها حادث رهيب وهي في سن الحادية عشرة. لقد اعتدى عليها خادم، وكادت تموت خزيا وعارا من ذلك الحادث الأليم. وأظهرت المحاكمة الرهيبة أن تلك المسكينة كانت ضحية ذلك الوحش مدة ثلاثة أشهر. فحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة.
ونمت الفتاة الصغيرة وقد تلطخت بالعار، منبوذة، وحيدة، بلا رفيقات ولا عطف وأصبحت أمام الأهلين كأنها مسخ أو أعجوبة من الأعاجيب. كانوا يتحدثون عنها في همس، ويتكلمون عن (الصغيرة فونتانل) في غمز، ويديرون ظهورهم عند رؤيتهم لها في الطريق. حتى المربيات، كان أكثرهن يأبين الالتحاق بخدمتها. وكانت العائلات تبتعد عنها كأنها وباء تخشى أن تنشره الفتاة فيسري إلى من بالقرب منها.
أي شفقة تعتريك لو كنت قد شاهدت هذ الطفلة المسكينة وهي تراقب الأولاد يمرحون ويلعبون في الساحة بعد ظهر كل يوم. كانت تجلس وحيدة أو تقف بجانب خادمتها تشاهد حزينة ما يحدث دون أن تشترك مع الأولاد في لهوهم. وعندما كانت تنتابها نزوة من الأغراء لا تقاوم، كانت تتقدم في خجل وخوف وتدخل في زمرتهم في خطوات مترددة، وكانها شاعره بعارها. وسرعان ما ينهض الأمهات والعمات والمربيات من مقاعدهن ويأخذن بأيدي الأولاد ويجذبنهم بشدة بعيدا عنها، وتبقى الصغيرة فونتانل وحيدة، والهة القلب، مذهولة، ثم تنفجر باكية وقد امتلأ قلبها شجنا، وأخيراً تسرع إليها خادمتها تخفي وجهها المخضل بالدمع في مئزرها.
وكبرت الفتاة وازدادت حالتها سوءا. وكان الناس يحولون بينها وبين مثيلاتها من الفتيات كما لو كانت مصابة بالطاعون. ولم يكن لدى الفتاة شيء تتعلمه، لا شيء البتة. لقد قُطفت الثمرة المحرمة قبل أوانها وامتلأ جسمها بالأنوثة قبل أن يحين ذلك الوقت الذي تحاول فيه كل فتاة أن تقرأ المستقبل المجهول في وجه الرجل ليلة الزفاف.
كانت كلما عبرت الطريق بصحبة مربيتها، ينظر إليها الناس وهم في خشية منها، فتغض الطرف شاعرة بالعار الذي يثقل كاهلها. وكانت الفتيات الساذجات الغريرات يتغامزن عند رؤيتها في خفية، ويحولن أنظارهن عنها كلما التقت أعينهن بعينيها.
وكانوا قليلا ما يحيونها، ويتظاهرون بعدم رؤيتهم لها. حتى الصبية كانوا ينادونها (مدام باتست) اسم ذلك الخادم الذي اعتدى على عفافها.
كانوا لا يعرفون مقدار العذاب الذي تعانيه هذه الفتاة. فقد كانت قليلة الكلام لا تبتسم مطلقاً. حتى أهلها، كانوا يضيقون بها كأنهم يحقدون عليها من جراء تلك الهفوة الشنعاء. إن الرجل الفاضل لا يمد يده بمحض ارادته إلى المجرم الذي أُفرج عنه، ولن كان ابنه، أليس كذلك؟ وعامل السيد والسيدة فونتانل ابنتهما كأنها من طريدات السجون.
كانت جميلة، شاحبة اللون، ذات قامة هيفاء، وسمت وقور. ولو لم يكن ذلك الحادث لكنت من المعجبين بها.
ولما قدم الحاكم إلى البلدة بعد غياب ثمانية عشر شهراً استحضر معه سكرتيراً خاصاً، وهو شاب غريب الأطوار كان يعيش في الحي اللاتيني بباريس. فرأى الآنسة فونتانل وأحبها. وقصوا عليه قصتها فلم يأبه بها؛ بل قال إن ذلك يضمن مستقبلها.
وغازلها ثم طلب يدها وتزوجها. وكان لا يخجل من التزاور معها؛ فكان البعض يرد الزيارة، والبعض يحجم عنها.
وسار الحادث مع الزمن في طريق النسيان، وأخذت السيدة مقامها في المجتمع. وكانت تعبد زوجها كما لو كان إلهاً. أم يرد إليها شرفها؟ ألم يقاوم المجتمع ويكافح الناس من أجلها، ويواجه الإهانات بسببها؟ لقد كان يقوم بدوره في شجاعة قل أن تجدها في الرجال.
وحملت فتفتحت أمامها الأبواب كأنما تطهرت تماماً بالأمومة، إن ذلك لشيء مضحك. ولكنها الحياة!
وسار كل شيء في طريقه العادي، حتى حانت حفلة البلدة السنوية، وأقبل الحاكم يحيط به سكرتيره وحواشيه وأصحاب الجاه لتوزيع الجوائز على المتسابقين، وأنت تعرف بالطبع ما يحدث من خلاف ومنافسة وغيرة بين الناس في مثل هذه الحفلات، وما أكثر أن يفقد البعض رشدهم. كان كل سيدات البلدة قد حضرن لمشاهدة هذه الحفلة. وتقدم رئيس فرة الموسيقى لبلدة دي مورميون؛ فقلده بول هامون وساماً من الدرجة الثانية. فقذف رئيس الفرقة بالوسام في وجه السكرتير صائحاً (احتفظ به لباتست - فأنت مدين له ولي بوسامين من الدرجة الأولى).
كان هناك حشد كبير من الناس فسرعان ما ضجوا بالضحك كان جمهوراً خشناً غير مهذب، واتجهت كل الأنظار صوب السيدة المسكينة. أواه يا سيدي، ألم تشاهد قط امرأة جنت؟ لقد كنت بين الحاضرين في تلك الحفلة، وشاهدتها وهي تحاول النهوض فتسقط على مقعدها ثلاث مرات متتالية، كأنها تريد الهرب فيقيدها عجزها عن اختراق هذه الجموع المتكاثرة المحيطة بها. وسمعت صوتاً من جهة ما يصيح: (أهلا. . . أهلا. . . بمدام باتست) فضج بعض الناس بالضحك واشمأز البعض الآخر. وهبت عاصفة من الضوضاء والهرج، واهتزت الرؤوس وترددت الأصوات، وتطلعت الأنظار تشاهد وجه تلك التعسة، وحمل الرجال زوجاتهم على أذرعتهم ليشاهدنها، وتساءل الناس أيهن؟ أيه تلك التي ترتدي ثوباً أزرق اللون؟ وكان الأولاد يصيحون صياح الديكة، وانفجر القوم يضحكون ضحكات عالية، ولكنها لم تتحرك من مكانها، كانت جالسة في ذهول على المقعد الوثير كأنها ساعة خصصت لهذه الحفلة تتطلع إليها الأنظار، ولم تستطع حراكا، ولم تتمكن من إخفاء وجهها. كانت جفونها تنطبق ثم تنفتح كأن هناك ضوءا باهراً يحرق عينيها. ولهثت كأنها جواد يصعد مرتفعا من الأرض. كان كل هذا يمزق قلبي تمزيقاً.
وأخذ السيد هامون برقبة رئيس فرقة الموسيقى ذلك الشخص الوقح وألقاه على الأرض وسط الضوضاء الهائلة. وتوقف الاحتفال، وبعد ساعة كان السيد هامون في طريقه إلى الدار برفقة زوجه. كانت مرتجفة الجسد صامتة لم تفه بكلمة واحدة. وفجأة تسلقت حاجز الجسر دون أن يتمكن زوجها من منعها، ثم ألقت بنفسها في النهر.
واستغرق إخراجها ساعتين من ذلك الماء العميق. كانت بالطبع قد فارقت الحياة).
صمت المتحدث لحظة ثم عاد بعدها يقول (ربما كان من الأفضل لها أن تصل إلى هذه النهاية المؤلمة. فإن هناك أشياء تحدث فلا يمكن محوها. وهأنذا عرفت الآن لماذا رفض القس أن يفتتح أبواب الكنيسة لها. فإنه لو كان الدفن دينياً لشيع الجنازة كل أهل المدينة. ولكن ذلك الانتحار وتلك القصة الأليمة حملت العائلات على الاحجام عن تشييع الجنازة. ولذلك كان من الصعب أن يشيعها القس.
وعبرنا باب المقبرة؛ وانتظرت في تأثر بالغ نزول الناووس في القبر لأقترب من ذلك الشاب المسكين الذي كان يبكي وينتحب. وشددت على يده معزيا، فنظر إليَّ في دهشة من خلال دموعه ثم تمتم قائلاً: (شكراً يا سيدي، شكراً).
ولم آسف أبداً على اشتراكي في تشييع هذه الجنازة.
الإسكندرية
محمد فتحي عبد الوهاب