مجلة الرسالة/العدد 777/القصص

مجلة الرسالة/العدد 777/القَصصٌ

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 05 - 1948



ليلة في القبر

للأستاذ نجاتي صدقي

مات الأديب بعد أن قضى عمراً حافلاً بالإنتاج الأدبي، فقد ترك ثروة أدبية تقع في ثلاثة عشر كتاباً، وهي تعالج مواضيع مختلفة من تاريخية، وعلمية، واقتصادية، وروايات وقصص.

وفي منتصف الليلة الأولى من دخول الأديب القبر جاءه الملكان الكريمان منكر ونكير، ويا لها من ليلة!

فنبه ناكر الميت قائلا: إيه يا رجل قم!. .

وقال له نكير: هيا انزع عنك هذا الرداء الأبيض لنرى ما يضم في طياته من صفحات سود!. . .

فذعر الأديب لهذه المفاجأة ونهض متثاقلا، فرأى نفسه قبالة ملكين جبارين يحمل أحدهما هراوة حديدية ضخمة، ويحمل الثاني تحت إبطه كتاباً كبيراً.

وقالا له: نحن الملكان اللذان أخبرك عنهما الشيخ أثناء إيداعك هذه الحفرة. . فرجاؤنا ألا تنزعج من زيارتنا غير المنتظرة، فنحن لم نأت إلا للقيام بواجباتنا المقدسة، وإنا لنتمتع بسلطات لا حد لها، فنطرق القبور دون استئذان، ولا نُميز بين غني أو فقير، رجل أو امرأة، فتى أو فتاة، طفل أو طفلة. .

وسنشرع الآن في محاسبتك حساباً تمهيدياً، وعليك أن تكون معنا صريحاً، وتيقن بأننا لن نرحمك إن حاولت المداورة أو المراوغة.

وسأله منكر حامل الهراوة: ما اسمك؟. وما مهنتك؟ فأجاب الميت - اسمي (. . .) ومهنتي الأدب!. .

ففتح نكير الكتاب الكبير، وقلب صفحاته قليلا إلى أن عثر على اسم المرحوم. . وانكب يطالع مع ناكر ما كتب عنه في عشر صفحات طوال، ولما بلغا نهاية ترجمة حياته التفتا إليه والشرر يتطاير من أعينهما.

وقال له نكير: حياتك مليئة بالآثام، وسنحاسبك الآن حساباً عسيراً، قل لنا أأنت صاحب كتاب (النجاة في الصدق) وغيره من الكتب الكثيرة؟. . . الميت: نعم. .

نكير: أتعترف بأنك كنت تدس السم في هذا الكتاب وفي غيره، وأنك كنت تنشر الإلحاد في الناس، وتبث فيهم الإباحية؟. .

الميت: هذه تهم باطلة، وإني لأحتج عليها بكل ما أوتيت من قوة. . إنك أيها الملك الكريم تردد ما قاله خصومي في. والواقع أنني كنت أنشر المعرفة في قرائي، وأبث فيهم روح الحرية. . كنت أرفع الغشاوة عن أعينهم وأدلهم على طريق الهدى والصواب.

نكير: لقد بدأت تراوغ؟. . والتفت إلى منكر وقال له: اضرب!

وهوى منكر بالهرواة على ظهر المرحوم وقدميه بضربات شديدة جعلت سكان القبور المجاورة يرتعدون فرقاً من هول ما يجري في قبر جارهم الجديد، وكان الأديب يصرخ وسط هذا العذاب ويقول: إن عماكما هذا غير شرعي. . وستظهر براءتي في يوم الحساب الأكبر. . ماذا تريدان مني؟. . إنني نشرت المحامد في قرائي، وكشفت النقاب عن مساويء الناس وشرورهم، وبينت لهم أخطاءهم ونقائصهم. . ثم إنني إذا كنت قد وضعت مؤلفات وأنا على قيد الحياة مشبعة بشيء من الحرية والصراحة، فثقا بأنني عوقبت عليها، وسجنت، واضطهدت، وليس لديكما مبرر لمعاقبتي مرة أخرى!.

فتوقف منكر عن الضرب، وتابع نكير قوله للمرحوم الأديب: إسمع أيها المتهم. . نحن نضاعف العقاب على الكتاب المفكرين ونجعلهم في المرتبة الأولى بين المتهمين ويليهم الأشقياء واللصوص!. . فالشقي عندنا ينتهي أمره بموته. . أما الكاتب فجريمته لا تنتهي بموته، بل على النقيض من ذلك فإن مفعول سمومه يزداد جيلا بعد جيل. . وهذاعين ما فعلته كتاباتك وما ستفعله في المستقبل.

والتفت إلى منكر وقال له بحزم: اضرب!. . اضربه بشدة على أصابعه التي كانت تقبض على القلم!. .

وهوت الهراوة على يدي المرحوم، وكان يصرخ ويتلوى من شدة الألم، ثم حاول المقاومة لكن رأسه ارتطم بحجر فانطرح مغشياً عليه، فمسح ناكر وجهه بيده فأفاق ثانية وقال رحماكما أيها الملكان الكريمان. إنني دعوت في كتاباتي إلى حرية الإنسان، فقبحت جميع أنواع الظلم والطغيان، ونبهت في قرائي حب الفنون، وحدثتهم عن الحب، والموسيقى، والغناء، كما حدثتهم عن لؤم النفس ومساوئها، ومظاهر خستها وانحطاطها؛ وقد فعلت ذلك متمتعاً بحرية القول التي خولتني إياها الهيأة الاجتماعية، وكان رائدي دائماً الإصلاح، والإصلاح لا غير.

فقاطعه نكير قائلا: قلت لك لا تحاول أن تضللنا، إنك منهم بتفرقة الأبناء عن الآباء، وبإيقاع الشقاق بين أسرة وأخرى، وحي وآخر، وجماعات وجماعات، هذا والله وحده يعلم ما ستسفر عنه كتبك من شرور في الأجيال القادمة.

والتفت إلى منكر قائلا للمرة الثالثة: اضرب وافهمه بأنه لا زال في دون التحقيق!. .

وانهال منكر على الأديب بالهراوة، وهذا ينقلب على نفسه، ويعول مستنجداً ولكن دون جدوى.

وهنا تدخل نكير وأشار على منكر بإيقاف الضرب منبهاً إياه إلى أن الساعة بلغت الثانية بعد منتصف الليل، ثم التفت إلى المرحوم الأديب وقال له: نكتفي بهذا القدر هذه الليلة، وانتظر قدومنا غداً عند منتصف الليل أيضاً فلنا معك حساب بصدد مجموعة قصصك المسماة) المدينة الشقية - وقصص أخرى) ثم إننا سنوالي زياراتنا إليك في ثلاث عشرة ليلة على التوالي لنبحث معك في كل ليلة آثام كل كتاب على حدة. . فإلى الغد أيها المتهم.

وعاد الملكان الكريمان في منتصف الليلة الثانية إلى قبر الأديب ولكن لشد ما أدهشهما أنهما وجدا القبر خاوياً!. .

نجاتي صدقي