مجلة الرسالة/العدد 777/تربية سلامه موسى

مجلة الرسالة/العدد 777/تربية سلامه موسى

مجلة الرسالة - العدد 777
تربية سلامه موسى
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 05 - 1948



تأليف الأستاذ سلامه موسى

ما قرأت في اللغة العربية سيرةً كتبها صاحبها عن نفسه فحالفه فيها توفيق كالتوفيق الذي أصابه الأستاذ صلامه موسى لما سجل أخيراً سيرته وأصدرها في كتاب عنوانه (تربية سلامه موسى). فهو كتاب أصيل فريد يمتاز بالصدق والإخلاص، ويبسط آراء الكاتب وانفعالاته وما استثاره من أحداث، وما استفزه على التفكير، ويرد لأساتذته المفكرين ديناً، ويرشد أبناء الجيل الجديد إلى وسائل الكفاح الذهني وطرق التجاوب بين الإنسان والمجتمع الذي يحيط به.

والأستاذ سلامه موسى إنسان، بشري، يؤمن بالإنسانية وبالبشرية، ويرى أن العالم (قرية) لجميع قطانه، وأن الفضيلة موجودة في كل مكان حتى عند الزنجي الجلف الذي جافته الحضارة وطمست الجهالة مسام ذهنه. وهو ما فتئ يعطف على كل كائن: على الفراشة، وعلى الدابة؛ وما برح يؤكد كل حركة إصلاحية مستقبلية، سواء كانت هذه الحركة من جانب المرأة للتحرر من قيود الرجعية الآسرة، أو من جانب المستذلين من الشعوب، أو من جانب الراسفين في أغلال الجهل الواقعين فرائس للمرض والفقر. والأستاذ سلامة صريح صراحة غير مألوفة في مصر وفي الشرق، حتى إنه ليقول عن نفسه (أخطأت حين اعتنقت المذهب النباتي) و (كتبت مقالا عربدت فيه وفسقت) ويقول (وقعت في فجر شبابي في عربدة جنسية ذاتية) ويقول (تقاضيت جنيهين من شهر مرتباً من وزارة الشئون الاجتماعية)، ويوغل في اعترافاته إيغالا لا ضابط له إلا الحقيقة.

وقد يسأل القارئ: وما دخل (حياة) سلامه موسى في (تربيته)؟

والواقع أن الأستاذ سلامه ما سرد سيرته إلا ليوطئ بها لبسط فلسفته في التربية والتهذيب الذاتي. فهو يتحدث عن نشأته والبيئة التي أنبتته والمشكلات التي اعترضته ليبين كيف تسنى له أن يستجيب لهذه العوامل وكيف تحقق له أن يتلمس أسباب العلاج فكان يصيب أحياناً ويخطئ أحياناً شأن كل راغب في الاستطلاع، تواق إلى تحصيل معارف كونية موسوعية.

وناحية ذات شأن تعرض لها الكاتب في كتابه هي الحديث عن تاريخ الكفاح المصري ف سبيل الاستقلال، والجهاد لنفض غبار الاستعمار عن أديم الوادي، وتصويره لهذه الأحداث تصوير انفعالي قوي. ألا ترى كيف بكى يوم قال له فرنسي وقح (الانجليز أسيادكم) وعاد إلى فندقه يتبرز دماً ومخاطاً. ألا ترى كيف أن حادث دنشواي الفاجع جعله في حالة غثيان وذهول لا يستطيع الطعام أياماً. أو لا ترى أن الشيء الوحيد الذي أعرب الأستاذ سلامه عن أسفه عليه في كتابه هذا هو أن الرقابة قيدة حرية كتابته خمسة عشر عاماً في الحربين العالميتين الأولى والثانية. ولم يأسف على فقد أمه ولا على فقد شقيقاته ولا على السجن الذي زج به فيه قدر أسفه على تكبيل حرية قلمه في هذه الفترة الطويلة.

والأستاذ سلامه يعيش للمستقبل لا للماضي فيقول إن الطاقة الذرية أنشأت عنده مركب نقض ما فتئ يعانيه منذ ما انفجرت قنبلة نيومكسيكو ثم قنبلة هيروشيما. ويقول إنه في السنوات العشر القادمة - إذا جاز له أن يرجو مد عمره فيها - سيدرس الذرة درساً مستفيضاً ولو اقتضاه ذلك استئجار مدرس خاص لأن خطورتها أكبر من أن يهملها رجل مثقف. وأمنيته في هذه السنوات التي لما تجيء هو أن يزور أوربا ويطوف في أرجائها، ولكنه يخشى إن فعل أن تعمد السلطات المصرية إلى تجريده من جنسيته كما فعلت من قبل بالأستاذ محمود حسني العرابي حين انتهزت فرصة سفره إلى ألمانيا وجردته من جنسيته لا لسبب إلا لدعوته التحررية الفكرية. وهو يريد أن يختم حياته في الريف المصري لأنه يرى فيه جمالا لا يراه في المدن، يريد أن يصادق الخراف والحمير والبقر والشجر، يريد أن يتحدث إلى النجوم ويحيي الشمس في الصباح ويضحك مع الماء يجري بين النبات ويأكل الخس والفجل على حرف القناة.

وبعد، فهذا كتاب تلونه مرتين وأرجو أن أتلوه مرتين أخريين على القليل فقد شغل تفكيري ونشط حواسي وأنهض عزيمتي وأرشدني إلى آفاق كان حرياً أن لا أقف عليها. كتاب بدل عندي قيم الأشياء وجعلني أستعير من الطفل رغبته الدائمة في الاستطلاع وإلحاحه المستمر في الاستفهام والسؤال.

وكأني بالأستاذ سلامه موسى يريد أن يقول لقرائه: كونوا كونيين. . . إفتحوا أذهانكم لكل جديد. . . لا تعيشوا بعيداً عن الواقع. . . انهلوا من موارد المعرفة غزيراً،. . . قاوموا السلفية والتأخرية والجمود. . . تعصبوا للبشرية عامة. . . آمنوا فبغير الإيمان لا يكون للحياة معنى. . . أطلبوا مزيداً من الحياة لتزدادوا ثقافة واتساع فكر.

وديع فلسطين

(المحرر بالمقطم - القاهرة)