مجلة الرسالة/العدد 778/طرائف من العصر المملوكي:

مجلة الرسالة/العدد 778/طرائف من العصر المملوكي:

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 05 - 1948



أساليب العامة في الشعر الفصيح

للأستاذ محمود رزق سليم

نشأ الشعر العربي أول ما نشأ فصيحاً. وعاش فصيحاً زمناً طويلا بعد نشأته. لم تزايله فصاحته ولم تتحول عنه عربيته، حتى اختلط العرب بالعجم وبخاصة في عصر بني العباس. فأدى هذا الاختلاط إلى فساد السليقة العربية وانحراف اللسان الفصيح. وتكونت اللغة العامية، وتغايرت طرق أداء المعاني فيها عن مأثور العربية. وألف العرب التخاطب بها، وتناقل المعنى بأساليبها.

ومنذ ذلك الحين أخذ كثيرون من أهل الغيرة على لسان القرآن والحديث يكافحون سيلها ويدرءون خطرها. ولكن جرت الحوادث دون غايتهم، وتتابعت الأيام دون ما أملوا. وعاشت العامية، ولا تزال تعيش، طاغية بين جماهير الأمم العربية. إلا أن لغة العلم والأدب والشعر، ظلت بمنأى عن العامية إلى حدما؛ غير أنها لم تسلم جملة من رذاذ منها يصيبها، ومن رشاش ينتثر عليه.

ونعني بالأساليب العامية، الطرق الكلامية والعبارات التي يؤدي بها العامة مضمون أفكارهم ومتبادر معانيهم بدون حرص منهم على تحري قواعد العربية في نحوها وصرفها.

والأساليب العامية بهذا، تفترق افتراقا ما، عن أساليب العامة. ولبيان ذلك نقول: إن في كل أمة من أمم الأرض غابرها وحاضرها، طبقتين متميزتين، كما تجمع بينهما جوامع عدة، تفرق بينهما فوارق شتى، وهما العامة والخاصة.

أما الخاصة فهي الطبقة النابهة، التي سلكت إلى الثقافة مسالكها، وبلغت من التعليم حظاً موفوراً، وأوتيت بجانب ذلك ذكاء في القريحة، ورهافة في الحس، وطلاقة في اللسان، وقوة على التعبير. فيقع خاطرها على الفريد من المعنى، والجديد من الرأي، أو يسمو إلى الرائع من الصور، والبديع من الأخيلة، فيسجل الشوارد، ويقيد الأوابد. وهي بذلك وبعد ذلك، تنشر نوازعها على العامة، فتؤثر أثرها الجليل في حياتهم وحياة الأمة جمعاء. فتعتقد الخاصة بذلك، منها مقعد القيادة والتوجيه.

والخاصة لها أساليبها وطرق أدائها للمعاني، بل لها مفرداتها بل ومصطلحاتها، ولغتها هذه أوسع من لغة العامة نطاقاً وأبعد آفاقاً، وأقدر على إحكام النظرة وتحديد الفكرة، وهذه أوصافها في جملتها لا في تفصيلها.

أما العامة فهي من عدا الخاصة، من عمال وصناع وزراع وتجار ومحترفين حرفاً لا تنزع إلى إنتاج فكري أو أدبي. بل هي حرف آلية تجري على سَنن من التقليد.

وللعامة كذلك أساليبها وطرق أدائها للمعاني، بل ولها مفرداتها ومصطلحاتها. غير أن لفّها هذه أضيق أفقاً من لغة الخاصة، وأضعف منها قدرة - في جملتها - على التعبير عن رقيق المعاني وعميق الأفكار. ولا تخلو من كلمة جامعة، وحكمة بارعة، ومثل مضروب، وقوله مأثورة، وطرفة نادرة. ونستطيع أن نحدد (لغة العامة) بأنها اللغة الشعبية الدائرة على الألسن، التي ابتذلت عباراتها ومفرداتها - في نظر الخواص - بكثرة الاستعمال.

وفي الأوساط العربية، كانت لغة الخاصة ولغة العامة فصحتين معبرتين، قبل أن تنحرف العربية في التخاطب وقبل أن تتولد العامية. فلما انحرف لسان التخاطب - كما ذكرنا - وتولدت العامية. زادت الفرقة بين لغة الخاصة ولغة العامة. وزادت الألفة بين العامة والأساليب العامية.

والآن نرى أن لغة العامة تطفي عليها الأساليب العامية والمفردات العامية، المشوهة بالتحرف واللحن وترك الإعراب وبالدخيل، ونحو ذلك. غير أنها في جوهرها عربية. وفي جعبتها كما أشرنا - كثير من الأمثال والحكم والكلمات الجامعة والعبارات الرائعة والتشبيهات السائغة والكنايات اللطيفة ونحو ذلك.

والخاصة لا تقيم دائماً على لغتها بل كثيراً ما تصطنع لغة العامة في حديثها كلما عاشت كما يعيش سائر الناس وكلما استراحت من أداء رسالتها في علم أو أدب.

وإزاء هذا يحرص العلماء والأدباء حينما يتصدون للتأليف والنظم، على أن يهجروا لغة العامة، ويتناسوا مبتذلاتها، ليسلم للغتهم رونقها وبهاؤها، ويبقى لها سموها ومقدرتها وجلالها. غير أنهم - وهم من الشعب وإلى الشعب - لا يستطيعون مهما حرصوا، أن يزيحوا عن كاهلهم نِيرها جملة. بل تبقى منها في لسانهم لوثة، تترد نفثاتها بين الآن والآن، بوعي أو بغير وعي.

هكذا كان حال شعراء العصر المملوكي حينما يتصدون لنظم الشعر. كانت أساليب العامة يتردد صداها بين الفينة والفينة فيما ينظمون. وفي العصر المذكور كان سيل العجمة طاغيا على البيئات العربية، بسبب شدة اختلاط العرب بغيرهم من الأجناس، وبخاصة الجنس التركي الذي كان له حينذاك الحكم والسلطان. فكان لذلك أثره في سيادة العامية، فلا غرابة أن رأينا منها لوثة في ألسنة الشعراء. بل الغرابة في ألا تكون. والشعراء أقرب أنواع الأدباء إلى الشعب، وأدقهم حسَّابه، وأعمقهم إدراكا لما في بيئاته وأشدهم تأثراً بما في محيطاته.

غير أن بعض النقاد في العصر الحديث ينعى على هؤلاء الشعراء ما تهاووا إليه من أساليب العامة، ويتخذ ذلك ذريعة إلى وصفهم بضعف ثقافتهم وقلة بضاعتهم من العربية. وهذا - في رأينا - حكم جائر. فاصطناع الأديب للغة العامة، قد يغض من أدبه باعتباره أديباً عربياً، ولكنه لا ينبغي أن يتخذ دليلا على ضعف ثقافته أو قلة بضاعته. والشاعر المثقف تنسل إلى شعره أساليب العامة دون وعي منه ولو كان حريصاً. وذلك لألفتها وجريانها على لسانه في حياته العادية؛ والأدلة كثيرة في كافة عصور الأدب.

وصحيح أن بعض شعراء العصر المملوكي كان أمياً، ولكنه نظم بالعربية الفصيحة وهذه مفخرة للعصر، وصحيح كذلك - بجانب هذا - أن كثيراً من شعرائه، وممن اندست أساليب العامة إلى شعرهم، كانوا على جانب عظيم من الثقافة، ومؤلفاتهم خير شاهد على ذلك، كابن عبد الظاهر وابن فضل الله والعسقلاني وابن نباتة وابن الوردي والصفدي وابن حجة.

وإذا كانت أساليب العامة قد أخذت سبيلها إلى ألسنتهم، وظهرت أطيافها في أبياتهم بدافع الاختلاط والتأثر بحياة العامة ولغتهم، فهناك دوافع أخرى لا نستطيع أن نتجاهلها أو ننساها ومنها الرغبة في الإيضاح، وحب الدعابة والتفكه، والاستجابة لداعي البديع، فقد تحلو التورية أو يجمل الجناس، إذا روعي الاستعمال العامي. ومن هنا نفهم أن بعض الشعراء تعمد هذا الاستعمال لغاية من الغايات.

وليس معنى استعمال الأساليب العامية أن تظل عامية محرفة أو غير معربة، بل كثيراً ما تجري مجرى الفصيحة. وقد ينقذها اصطناع الشاعر لها مما تردت فيه من الابتذال.

ونحن نعرض هنا على أنظار القارئين نماذج من شعر العصر المملوكي، ذاكرين أن دراسة ما فيها من أساليب العامة تعمل على ربط لغتنا بلغة أسلافنا، وتعين على فهم مدى تطور أساليبنا العامية فضلا عما تقدمه من الأدلة على سمو الروح الأدبية وأصالتها لدى شعراء العصر المذكور؛ فمن ذلك ما يلي:

نعلم أن بائعي (الكتاكيت) ينادون فيقولون: (يا ملاح الملاح). ويبدو أن هذا النداء كان معروفاً في عصر المماليك ومستعملا في نفس المعنى. وقد كان أحد نواب الشافعية، وهو بدر الدين الدميري محمد بن يوسف المتوفي عام 887هـ، معروفاً بين الناس بِ (كتكوت) فاتخذ بعضهم ذلك وسيلة إلى مداعبته فقال فيه الشاعر علي بن برد بك مورياً بملاح الملاح وفيه دلالة على ما ذكرنا قال.

إن الدميري صديقي فلا ... أسمع فيه قول واش ولاح

ولا أرى كالغير تقبيحه ... بل هو عندي من ملاح الملاح

وقال محيي الدين بن عبد الظاهر:

يا رب كأس صرت من شربها ... من بعد رشفي ريق معشوقي

ملتهب الأحشاء ناراً لأن ... شربتها منه على الريق

وفي الشطر الأخير تعبير عامي، ويتضمن تورية لطيفة. فقد ورى بعبارته عن المعنى المقصود، وهو أنه شرب الكأس بعد رشف ريق معشوقه، وكان الريق أحلى وأجمل إطفاء لنار أحشائه من الكأس.

وقال جمال الدين بن نباتة في الشكوى:

قل عوني على الزمان فأصبح ... ت صبوراً على مراد الزمان

حابس اللفظ واليراع عن النا ... س فلا من يدي ولا من لساني

وفي الشطر الأخير عبارة عامية تدل على ضعف الحيلة، وفي البيت كله لف ونشر. وفيه اكتفاء.

وقال شمس الدين بن دانيال الموصلي يشكو حظه كذلك، ويذكر أنه باع حماره وعبده معا، فأصبح بذلك فقيراً لا يملك شروى نقير ولا قطمير. وفي بيته الثاني - مع الاكتفاء ومع اللف والنشر المرتب - مجانة يفطن لها الأديب. قال:

ما عاينت عيناي في عطلتي ... أقل من حظي ومن بختي قد بعت عبدي وحماري وقد ... أصبحت لا فوقي ولا تحتي

وقال زين الدين عمر بن الوردي متفزلا في تاجر مليح:

وتاجر شاهدت عشاقه ... والحرب فيما بينهم سائر

قال: علام اقتتلوا هكذا ... قلت: على عينك يا تاجر

والمعنى العامي للعبارة الأخيرة (بصراحة وعلى المكشوف) فوري به عن المعنى الذي يريده وهو أنهم اقتتلوا بسبب ما في عينه من فتنة وسحر. ولا تزال العبارة مستعملة في عاميتنا بنفس المعنى الأول.

وقال صلاح الدين الصفدي يصف جرة خمر:

وجرة أظهروها ... والراح فيها كمينة

شممت طينة فيها ... فرحت سكران طينة

وقال ابن الوردي في لاميته المشهورة:

واهجر الخمرة إن كنت فتى ... كيف يسعى في جنون من عقل

وشاهدنا في عبارة (إن كنت فتى) وهي ترادف الاستعمال الشائع الآن وهو (إن كنت جدع) أي إن كنت شهما. وبديهي أن معنى فتى لا يفيد لغة معنى شهم. وقال ناصر الدين بن النقيب يشكو نحول جسده:

يقول جسمي لنحولي وقد ... أفرط بي فرط ضني واكتئاب

فعلت بي يا سقم ما لم يكن ... يلبس والله عليه الثياب

وتفيد العبارة الأخيرة بمعناها العامي الذي لا يزال شائعاً حتى اليوم، (أنه لا يطاق)، وورى بها عن شدة نحول جسمه حتى إنه لم يعد يصلح لثياب يرتديها.

ومن لطيف توريات ابن نباتة بالأسلوب العامي، قوله متغزلا.

سألت النقا والغصن يحكي لناظري ... روادف أو أعطاف من زاد صدها

فقال كثيب الرمل ما أنا حملها ... وقال قضيب البان ما أنا قدها

وشاهدنا في العبارتين (ما أنا حملها)، (ما أنا قدها).

وقال صفي الدين الحلي في معرض الغزل واصفا الصباح:

والصبح قد أخلقت ثوب الدجى يده ... وليته جاء للعشاق بالخلق وهجا ابن أبي حجلة المغربي، الصلاح الصفدي فقال:

إن ابن أيبك لم تزل سرقاته ... تأتي بكل قبيحة وقبيح

نسب المعاني في النسيم لنفسه ... جهلا فراح كلامه في الريح

وقال سراج الدين الوراق يتغزل موريا:

ومهفهف عني يميل ولم يمل ... يوماً إليَّ فقلت من ألم الجوى

لم لا تميل إليَّ يا غصن النقا ... فأجاب كيف وأنت من جهة الهوا

وقال برهان الدين القيراطي:

يا هاجرا أوقعني هجره ... وصده في حالة صعبة

أخذت قلبي بالتجني وما ... تركت لي منه ولا حبة

وفي البيتين عبارات عامية، وفي الثاني تورية في (حبه).

وقال ناصر الدين بن النقيب:

ودعتهم ثم أنثنيت بحسرة ... تركت معالم معهدي كالبلقع

ورجعت لا أدري الطريق ولا تسل ... رجعت عداك المبغضون كمرجعي

وشاهدنا في الشطر الأخير، وترادف عبارته العبارة العامية (رجع رجعة الأعادي).

وبعد فهذا باب يتطلب المزيد من البحث، وفي دراسته - بلا ريب - نفع للأدب والتاريخ.

(حلوان)

محمود رزق سليم

مدرس الأدب بكلية اللغة العربية