مجلة الرسالة/العدد 78/أدب الحرب

مجلة الرسالة/العدد 78/أدب الحرب

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 12 - 1934



كبتن كونان

للقصصي الفرنسي روجيه فرسل

(صاحب جائزة جنكور لعام 1934)

كان لهذا الشهر في عالم الأدب الفرنسي أهمية كبرى تميزه من سائر شهور العام. فقد سطعت في النصف الأول منه أسماء أربعة من الكتاب بعد أن فاز كل منهم بإحدى الجوائز الأدبية الكبرى التي تمنح في فرنسا في مثل هذا الشهر من كل عام إلى خير قصة يقع عليها اختيار لجنة تحكيم كل جائزة من هذه الجوائز. ولقد ذكرنا أكثر من مرة أن اهتمام الغرب بالإكثار من الجوائز الأدبية، يرتفع عن المكافأة المادية التي تصيب الكاتب الفائز، وأن الغرض الأساسي هو شحذ همم الكتاب والاحتفاظ بعاطفة المنافسة حارة في قلوبهم. وكل من تصفح الجرائد الأدبية الفرنسية الكبرى خلال الشهر الفائت استطاع أن يعرف مقدار اهتمام الفرنسيين - وهم كغيرهم من أمم الغرب - بأمر هذه الجوائز الأدبية. واستطاع أن يحس بما تخلقه هذه المباريات في نفوس الأدباء حين يقرأ أحاديثهم قبل ظهور قرار المحكمين. تلك الأحاديث الممتلئة بالعبارات المتحمسة، القلقة على مصاير أعمالهم وعصارة عقولهم. وعندئذ يشعر بحاجة كل أمة متمدنة تبغي النهوض لفنونها وآدابها إلى مثل هذه الجوائز

وروجيه فرسل الفائز بجائزة جنكور أستاذ للآداب بكلية دينان وهو الآن في الأربعين من عمره ولد في بلدة نانر، ولما شب تعلم في (فليش) ثم انتقل إلى (كان) ليدرس الأدب، ولكن لم يكد ينقضي عام حتى شبت الحرب الكبرى فانتزعته من أحضان كتبه وأساتذته الذين كان يجلهم أعظم إجلال مثل بييرفي الأستاذ الضرير الذي لا يزال يذكره روجيه فرسل بالخير، ويرجع إليه أكبر الفضل في نجاحه في الحياة العامة، ومثل موريس سوربو الذي أصلح له فيما بعد رسالته عن كورني، فنال بها ليسانس الآداب

حارب فرسل في كثير من الميادين الحربية في فرنسا مثل: ايبر وشمباني وسم وأرجون، ثم أوفدته السلطات العليا إلى عدد من بلدان أوروبا الشرقية للقيام ببعض المهام، فرأى اليونان وصربيا وبلغاريا ورومانيا، واستفاد من ذلك أجل الفائدة، إذ عرف أمما تختلف عن وطنه في كثير من النواحي، وفهم نفسيات شعوبها، وأخلاق أهلها، وكان ذلك أكبر عون له على رسم كثير من شخصيات قصصه. وفكرة قصته التي نال عليها الجائزة إنما انبعثت في نفسه حين كان يعمل مقرراً لمجلس الحرب في صوفيا

ابتدأ فرسيل يخوض غمار الأدب برسالته القيمة ' ' التي نال بها ليسانس الآداب. وبعد ذلك نشر كتابه وبعد هذا الكتاب ظهرت قصته الأولى وتليتها قصة ثم ' ثم ثم ظهرت له هذا العام وقد ابتدأت مجلة (جرانجوار) الأدبية تنشر له منذ بضعة أسابيع آخر قصصه

ولفرسل ترجمة شيقة عن (دوجسكلان) وهو يراسل عدداً كبيراً من المجلات الفرنسية الكبرى، وعلى الأخص (ريفودوفرانس) و (ماريان) و (جرنجوار)

وروجيه فرسل يهيم بالقوة، والإرادة الجبارة، والشجاعة الخارقة التي يراها واضحة جلية في كثير من رجال الجيش وبحارة السفن والصيادين المخاطرين. وهو يرى أن غرائزنا الوراثية الأولى التي تدفعنا إلى احتقار الحياة والاستهانة بالموت، والغرام بالنزال والقتال، تلك الغرائز التي يظن الكثير أنها ماتت بتطور الإنسان لا تزال كامنة فينا، وسرعان ما تطغى على شخصيات الكثير منا عندما تمهد الفرصة المناسبة لظهورها كالحرب مثلاً التي هي أكبر عامل في إظهار هذه الغرائز الأولى. وفي قصة (كبتن كونان) يرسم لنا فرسل صوراً من أولئك الأبطال الذين يحملون أرواحهم على أكفهم مستهدفين للمهالك غير عابثين بالموت، وإليهم يرجع كل فضل في الفوز والانتصار

و (كونان) بطل القصة رجل صغير الجسم، هادئ الطبع، لين الجانب كان يشتغل بائعاً صغيراً في سان مالو. ولم تكد تشب الحرب عام 1914 ويتطوع فيها في جيش الشرق حتى تستيقظ في بطولة كانت خامدة تسوقه إلى مراتب الرقي السريع، فنراه على رأس فصيلة صغيرة في الجيش نفخ فيها من روحه وبسالته، حتى استيقظت في أفرادها نفس الغرائز التي استيقظت فيه، غرائز الإنسان الأول الذي لا يعرف للحياة قيمة ولا للموت رهبة، فينساقون وراء رئيسهم (كونان) إلى شتى ضروب المهالك دون خوف ولا وجل

لقد تجردوا من كل صفات الجنود النظاميين، وأصبحوا أشبه ما يكون برؤساء العصابات، لا يعرفون لهم قانوناً إلا الشجاعة الخارقة التي يجب أن تذوب أمامها كل عقبة تحول بينهم وبين تحقيق ما يرغبون. فبينما نرى في كثير من الأحيان أن سائر فصائل الجيش ينقصها الزاد والماء، نرى ذلك عند فصيلة الكبتن كونان دائماً كاملاً موفوراً بل زائداً عن حاجتهم. وبينما نرى سائر الجنود يرهبون النزال مع العدو وجهاً لوجه حيث يمزق بعضهم أجسام بعض بالسيوف أو بأسنة الحراب، ويعتبرون ذلك أشد ضروب القتال هولاً. نرى الكبتن كونان وأتباعه لا يترددون لحظة في الهجوم على خنادق العدو، وقد تسلحوا بالقنابل اليدوية والخناجر معلقة إلى جوانبهم يغرسونها في أحشاء أعدائهم دون شفقة ولا رحمة حتى أطلق عليهم أسم (منظفي الخنادق). ذلك أن كلاً منهم كما يقول رئيسهم (كونان) لا يعرف إلا أنه (محارب) فحسب، وليس جندياً يخلص للنظم العسكرية وتقاليدها كما يفعل سائر الجنود الآخرين. بل هم ينظرون إلى هذه النظم والتقاليد العسكرية نظر الاستهتار بها والاحتقار لأثرها في الانتصار. وإنك لتستطيع أن تفسر جيداً نفسية أولئك (المحاربين) حين تقرأ كلام (كونان) إلى أحد رفاقه الذي يلومه على تصرفاته هو وزملاؤه ويقول: (حاول قليلاً أيها العجوز المسكين أن تفهم) فيجيبه كونان:

(أفهم؟ أتظن أنني لا أفهم لأنني أتكلم بصوت عال؟ إنني أعرف جيداً منذ بعيد أنهم كانوا يخجلون من أعمالنا، وكانوا لا يعرفون جيداً كيف يتخلصون منا! إنني أنا وشباني الذين خضنا حقيقة غمار الحرب، ونحن الذين يرجع إلينا كل فضل في الانتصار! أنا ومن يماثلني من الأعوان الذين أرعبنا الجيوش. أسامع أنت؟ الجيوش التي كانت ترانا في كل مكان، وكانت لا تحسب لغيرنا حساباً، ولا ترهب سوانا منذ اندلعت أول شرارة! إن قتل جندي أمر في استطاعة كل فرد أن يقوم به، أما مهمتنا نحن فكانت قتل ذلك الجندي بطريقة تلقي الفزع في أدمغة عشرة آلاف آخرين! لذا كان من اللازم الذهاب للقاء العدو بالخناجر. أفاهم أنت؟ إن الخنجر هو الذي كسب الحرب، وليس المدفع! إن ذلك النوع من الرجال الذي أحدثك عنه لا يزيد على ثلاثة آلاف في كل جبهات القتال. على أن هؤلاء هم المنتصرون وحدهم. هم المنتصرون الحقيقيون!)

والقارئ لا يستطيع أن يتمالك نفسه من الأسى والتأثر أمام الخاتمة المحزنة التي تنتهي بها مأساة تلك الشخصيات الغريبة. فقد مضت سنو الحرب الأربع، وإذا (كونان) بطل مقدام فائز بوسام الشرف، تحلي صدره نياشين المجد والفخار. على أنه لا تكاد تعقد الهدنة العامة وينطفئ جحيم المجزرة البشرية الكبرى، وتوزن الأعمال بميزان أقرب إلى العدل والمنطق حتى نرى الذين كانوا يعتبرون بالأمس أبطالاً صناديد، والذين ببسالتهم النادرة وإراقة دمائهم دون حساب ضمنوا لجيشهم الفوز مراراً في ساحة الوغى، نراهم اليوم وقد أضحى الجميع يعتبرون عملهم جريمة لا تغتفر. وينظر إليهم مجلس الحرب نفسه نظرة الخارجين على القانون، المنتهكين لحرمة الشرف العسكري!

وبانتهاء الحرب ينصرف الجنود جميعاً إلى بلادهم وذويهم متنفسين الصعداء بعد أعوام مريرة من العذاب والشقاء. إلا أن هذه الظاهرة العادية لا نجدها عند الكبتن كونان ورفاقه. إذ يصور لنا روجيه فرسل كيف عاد كونان إلى مسقط رأسه يعمل كما كان تاجراً بسيطاً كسير القلب محطم النفس، غير راض عن حالة السلم والهدوء، غير مرتاح إلى العيش في مجتمع لا يناسب ميوله وغرائزه التي بعثتها الحرب من مرقدها، وأصبح لا يجد إلى التخلص منها سبيلاً

ويتزوج كونان. ثم تمضي الأيام فإذا الحياة الهادئة الوادعة لا تناسبه فيترهل جسده وتنتفخ أوداجه، ويضنيه مرض الكبد وكلما تقدمت به السن شعر بأنه فقد كل شئ. وضاق بالحياة كلها ذرعاً

إن روجيه فرسل يجمع في قصته فكرتين: أولاهما الإعجاب بأولئك الأبطال والرثاء لهم، وثانيتهما الدعوة ضد الحرب، فهو لا يبرر الحرب التي توقظ في هذا النوع من الناس بطولتهم الراقدة تحت وعيهم. بل هو العكس يريد أن يبين لنا أن (الحرب هي الشر الأعظم) كما يقول. أليست هذه الشخصيات التي يصورها لنا خير تصوير كأبطال الحرب الحقيقيين هي كذلك أولى ضحاياها؟ أليست شجاعتهم الخارقة تجعلهم أول وقود لسعيرها الجهنمي؟ ثم أيضاً ذلك النقر مبهم الذي ينقده الحط الحسن من الموت في ميدان القتال، ألم تتحطم سعادته، وتشقى حياته كما رأينا في كونان، ذلك التاجر البسيط الوديع الهادئ العيش الذي أصبح بعد أربعة أعوام من المذابح البشرية رجلاً أجدر به أن يوضع في عداد المرضى حين لا يستطيع الحياة في مجتمع خلو من القتل وسفك الدماء؟!

تلك هي ميزة قصة (كبتن كونان) الكبرى، فلقد كتب عن الحرب منذ بدئها إلى الآن عدد كبير من الكتب الرائعة ربما كان أعظمها كتابا جورج دوهامل وكتاب رولان دور جيليه وكتاب هنري باربوس الذي نال جائزة جنكور عام 1917، وقد تفوق هذه القصص قصة (كبتن كونان) في كثير من النواحي، إلا أن روجيه فرسل يمتاز في قصته بأنه عالج موضوعاً ورسم نوعاً من الشخصيات الإنسانية بطريقة لم يسبقه إليها أحد من الكتاب

علي كامل