مجلة الرسالة/العدد 78/الراديو و (الشاعر). . .

مجلة الرسالة/العدد 78/الراديو و (الشاعر). . .

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 12 - 1934


ألفت منذ سنين أن أزور رمضان في ربوعه الأصيلة، ومغانيه الباقية. ومن لم يشهد رمضان في حي الحسين، أو في حي الحسينية، أو في أمثالهما من الأحياء القديمة لم يشهد قداسته المهيبة وجلالته الباهرة!

كنت في إحدى الليالي الزّهر أخرج متى استيقظت المشاعر من فترة الصيام، وسكرة الطعام، فأعبر القرون العشرة التي تفصل بين قاهرة الملك فؤاد وقاهرة الخليفة المعز، فأجد رمضان العظيم قد نشر بنوده، وأعلن وجوده، في كل شارع وفي كل منزل! فهو خير يتدفق في البيوت، وبشر يتهلل في الوجوه، وأنس يتطلق في المجالس، وذكر يتضوع في المساجد، ونور يتألق في المآذن، وسمر ينتقل في الأندية، ونفحات من الفردوس ترطب القلوب، وتلين الأكباد، وترف على ما ذوى من العواطف

فالحوانيت سامرة وإن لم تبع، والمصانع ساهرة وإن لم تنتج، والأبهاء عاطرة بحديث الأحبة حتى نصف الليل، والأفنية عامرة بذكر الله حتى أول السحر. أما كثرة الناس فقد أخذوا مجالسهم من قهوات الحي وباتوا ينضحون (مزاجهم) الظامئ بالفناجيل الرويّة، ويشققون أحاديثهم الطلية بالنكات المصرية، ثم يستمعون في خشوع العابد وسكون العاشق ولهفة الطفل إلى القصاص أو الشاعر، وقد طوفت به أشباح القرون، وغمغمت في صوته أصداء الزمن. يتربع في صدر المكان على منصة عالية من الخشب العتيق، وهو في سمته وهندامه ولهجة كلامه وطريقة سلامه نموذج العامي الأديب، ومثال الحضري المثقف: حفظ كثيراً من الأشعار فاكتسب ظرف الأدب، وروى صدراً من الأمثال فاكتسى وقار الحكمة، ووعى طائفة من الأخبار فاتسم برقة المنادمة. وهو إلى ذلك بارع النادرة، دقيق الفطنة، عذب المفاكهة، حاضر الجواب، يؤدي هذا إلى الجمهور الغرير الساذج دعوة الواعظ، وأمانة المعلم، ورسالة الأديب

هاهو ذا قد فرغ من احتساء القهوة، وجباية النقوط ومبادلة السامع المعتاد جميل التحية، ومسارقة الزائر الممتاز رغيب المنظر؛ ثم أخذ يحتفل للقصص أو الإنشاد، فاحتسبت قهقهة (النكتة)، وانقطعت قرقرة (الجوزة)، وانتشرت سكينة الجد في القهوة، واتجهت عيون الجميع إلى المنصة، ثم رن في سكون القوم ذلك الصوت العريض المتزن يرسل الكلام والأنغام في ترجيع مؤثر، وتقطيع معبر، وتنويع مطرب؛ فهو يفخم ويرقق، ويقسو ويلين، ويأنف ويستكين، ويثور ويهدأ، ويسخط ويرضى، ويتدلل ويتذلل، ويتحمس ويتغزل، كأنه في تعاقب ذلك كله عليه الأوتار الطيعة تحت الأنامل اللينة البارعة، فيملأ الآذان بالنغم، والأذهان بالفكر، والقلوب بالشوق، والمشاعر باللذة

ذهبت ليلة الأمس على عادتي أرود المعاهد، وأجوس الديار، وأستنشي ما بقي على أطراف الزمن من عبير الفاطميين، فوجدت القاهرة الشرقية لا تزال تتحدى القاهرة الغربية بمساجدها ومدارسها ومستشفياتها وخاناتها وحماماتها وأسواقها، وتعلن بشهادة هذه الآثار أن حضارتها العربية الخالصة إنما كانت تقوم على الدين والعلم والمدنية والإنسانية والعمل، وتزعم بأدلة الاختبار أن هذا المظهر الحسي القوي الرائع الذي يميز حضارة الغرب من حضارة الشرق إنما يرجع إلى أن هذه تقوم على الروح، وتلك تقوم على الآلة، وهذه تصدر عن العاطفة والإيثار، وتلك تصدر عن المنفعة والأثرة؛ والميزة التي ينبغي أن تكون لحضارة على حضارة إنما هي ضمانة السعادة للناس، وتحقيق السلام للعالم

ولكن أين صديقي الشاعر، وأين أخوه القصاص! هذا هو الحي، وهذه هي القهوة، وهؤلاء هم الناس، ولكني وجدت في مكان الأريكة المنجدة، والحلة المفوفة، والعمامة الفردة، صندوقاً من الخشب، دقيق الصنع، أنيق الشكل، قد علق بالحائط، فأغنى غناء القصاص، وأبلى بلاء الشاعر!!

تركت هذه القهوة ومضيت أتحسس في زوايا الحي وحنايا السوامر ذلك الصوت الذي كان ينبعث من جوف الماضي السحيق شادياً بالمجد والنبل والبطولة، فلم أجد له - وا أسفاه - جرساً ولا صدى!!

لقد هزم الراديو الشاعر في كل قهوة، كما هزمت الآلة الإنسان في كل عمل! ففي كل مقهى من هذه المقاهي (البلدية) آلة من هذا الاختراع العجيب تغري الأذواق العامية بالفن، وتروض الآذان العصية على الموسيقى، وتنبه العقول الغافلة إلى العلم، وتحبب النفوس المستهترة في الأدب؛ فهي تقرأ القرآن، وترسل الألحان، وتذيع العلم، وتشيع اللهو، وتنشر البهجة! ولكني مع ذلك عظيم الأسف على موت القصاص، شديد الأسى على فقد الشاعر!

فإن مخاطر الشهامة (لأبي زيد)، ومواقع البطولة (لعنترة)، ومواقف النبل (لسيف بن ذي يزن)، أصلح لتهذيب العامة فيما أظن مما يبثه المذياع كل يوم من النوادر الوضيعة، والأناشيد الخليعة، والألحان الرخوة!

أحمد حسن الزيات