مجلة الرسالة/العدد 780/أساتذة الجيل:

مجلة الرسالة/العدد 780/أساتذة الجيل:

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 06 - 1948



أحمد تيمور باشا

للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف

(إلى الصديق الكريم، والباحث المحقق، الدكتور محمد سامي

الدهان، وفاء بما وعدته من الإفاضة في الحديث عن أولئك

الأساتذة الأماثل الذين مهدوا الطريق أمام هذا الجيل. . .)

تيمور، بفتح التاء، ويحققها بعض العلماء بالكسر، كلمة تركية ينطقها الأتراك في لغتهم دمير أو دمور، ومعناها عندهم الحديد، وكانت تستعمل لقب تمجيد في المملكة العثمانية، والولايات التابعة لها، وبها لقب السيد محمد كاشف جد الأسرة التيمورية، وأول من وفد منهم إلى مصر. . .

وأصل السيد محمد هذا من بلاد كردستان بولاية الموصل، ويذهب آل تيمور في إثبات نسبهم إلى أنهم من أصل عربي اعتماداً على ما ذكره ابن الكلبي وابن خلكان، من أن نسب الأكراد ينتهي إلى عمر مزيقياء بن عامر بن ماء السماء، أو ينتهي إلى عدنان كما ذكر بعض العلماء. على أن آل تيمور يذهبون من ناحية أخرى إلى أن جدتهم زوجة السيد محمد كاشف، وهي السيدة عائشة الصديقية، كانت كريمة السيد عبد الرحمن الاستانبولي، وهو كما يقولون شريف النسب، صريح العروبة، كان يتولى الكتابة في الديوان السلطاني للسلطان سليم الثالث، وكان السلطان يحبه ويقربه ويثق به، فلما قتل السلطان فرّ إلى مصر، وعاش في رعاية عزيزها محمد علي باشا مكرماً إلى آخر حياته. . .

ولقد كان السيد كاشف جد الأسرة التيمورية من رجال السيف، وقد جاء إلى مصر في رفقة محمد علي مع الجند الذين أرسلهم السلطان لتثبيت سلطة الخلافة العثمانية على مصر بعد خروج الفرنسيين منها واضطراب الأحوال فيها، وقد كانت بينه وبين محمد علي في أول أمرهما صداقة ومودة. فلما تم الأمر لمحمد علي باشا في الولاية على مصر، فرب إليه صاحبه القديم، وأخذ يعتمد عليه في تنفيذ خططه وتدبيراته، وقد كان ساعده في حادثة الفتك بالمماليك في مأدبة القلعة، كما كان عضده في إخماد ما كان من فتن وما قام من ثورات، وكما أرسل محمد علي ابنه طوسون على رأس الحملة المصرية لحرب الوهابيين أرسل برفقته السيد محمد، فأبلى في هذه الحرب بلاء حسناً، وكان أن عينه محمد علي كاشفاً على الشرقية، وهو مثل منصب المدير في هذه الأيام، ومن ثمّ لزمه لقب كاشف وعرف به، حتى إذا ما استقرت الأمور في الحجاز عينه والياً للروضة الشريفة، فبقى هناك خمس سنوات، ثم عاد إلى مصر، وتخلى عن الأعمال الرسمية، ولكنه بقى مع محمد علي على حسن الصلة والمودة. وفي أواخر حياته انقطع للعبادة، وعكف على الأخذ بأسباب الصلاح والتقوى حتى توفى عام 1848م وهو في حدود الثمانين من العمر ولم يترك من الخلف إلا ابنه إسماعيل.

لم ينشأ إسماعيل على غرار والده، ولم يكن له مثل غرامه بالجندية وأساليب النضال، ولكنه نشأ من صغره وفي طبعه الميل إلى العلم والأدب، وقد عنى والده بإشباع رغبته، فأحضر له المعلمين في العلوم العربية والدينية، وعهد إلى أحد رجال الترك الأفذاذ بتعليمه اللغة التركية وآدابها، ولقد كان هذا التعليم المنزلي للعلوم الإسلامية والآداب التركية هي المظهر السائد بين الأسر الكبيرة في مصر يوم ذاك، إذ كانت روح الدولة إسلامية خالصة، وكانت الصلة بين مصر وتركيا صلة خلطة ونسب ودين أكثر مما هي صلة حكم، وكان رجال الحكومة كلهم أو جلهم من الأتراك، وكانت الطبقة العالية تتكون من الأسر التركية التي وفدت على مصر فملكت الضياع والثروات والمناصب، ومن ثم كانت اللغة التركية والآداب التركية لها مكانة كبيرة في نفوس الخاصة، وكانت الأسرات الكبيرة تحرص عليها وتراها غاية الكمال في تثقيف أبنائهم وإعدادهم لمناصب الحكومة ودواوينها، كما هو الشأن اليوم في الحرص على تعليم الإنجليزية والفرنسية.

برع إسماعيل في الإنشاء التركي، وأخذ بحفظ وافر من الثقافة التركية، لهذا ولما كان من متانة الصلة بين والده وبين محمد علي باشا، فقد شمله محمد علي بعطفه، واتخذه كاتباً خاصاً له، ثم عينه وكيلا لمديرية الشرقية التي كان والده كاشفاً عليها من قبل، ثم زاد في العطف عليه فعينه مديراً، وظل إسماعيل في هذا المنصب ينتقل من مديرية إلى أخرى. ولكن يظهر أن حياة الإدارة وما تقتضيه من الصرامة لم توافق طبعه الأدبي وإحساسه المرهف، ولهذا سعى بنفسه عند محمد علي في التخلي عن هذا المنصب والعودة إلى الديوان فحقق له رغبته. . . ولما تولى عباس باشا الأول عينه وكيلا لديوان كتخدا، وكان أكبر ديوان في الحكومة المصرية، وكان وكيله يعتبر أكبر رجال الدولة بعد الوالي، فله الإشراف على جميع شئون الدولة مثل ما لرئيس الوزراء في هذه الأيام، ومنصب كهذا يقتضي لا شك من صاحبه كثيراً من اليقظة والحذر، ولكن إسماعيل كما قلنا كان صاحب طبع أدبي لا يسنده في مثل هذا المركز السياسي، ولهذا لم يلبث أن عزل من هذا المنصب بوشاية كاشح، غير أن عباس باشا تبين حقيقة الأمر فأعاده ناظراً لخاصته. ولما تولى سعيد باشا أرجعه إلى الديوان كما كان من قبل، ولكنه لم يلبث أن استقال لإهانة لحقته من الوالي، وكأن الرجل كان قد عاف الحياة الحكومية وشبع منها، أو كأن ما أحاط به من ظروف اضطرته إلى الخروج من الديوان الخديوي مرتين قد بغضه في تلك الحياة فظل بقية عهد سعيد وشطراً كبيراً من عهد إسماعيل منعزلا عن الناس، عاكفاً على كتبه وتدبير الأمور في أملاكه، وجعل من داره نادياً للسمر والمذاكرة مع أهل العلم والأدب. وفي آخر حياته أنعم عليه إسماعيل باشا برتبة الباشوية، واختاره ناظراً لخاصة ولي عهده توفيق باشا، ولكنه توفى بعد ستة شهور من تولي هذه النظارة سنة 1872م ولم ينجب إلا ابنتين كبراهما السيدة عائشة عصمت تيمور الشاعرة المعروفة، وابنا هو المغفور له أحمد تيمور باشا، كما ترك خزانة كتب تضم كثيراً من النوادر، وخاصة في اللغة التركية وآدابها، ولكنها ضاعت وبعثرت، ولم يبق منها إلا فهرسها. . .

نشأ المغفور له أحمد تيمور يتيما، لم ير والده، ولم يتمتع بحنان الأبوة، فقد ولد عام 1871م، أي قبل وفاة والده بعام واحد، فتعهدته شقيقته الكبرى السيدة عائشة تيمور بالرعاية، وتولته بالتثقيف، والتعليم، وكان الابن صورة ممتدة للأب في هدوء الطبع، والميل إلى العلم، والشغف بالثقافة، فدرس العلوم الأولية على مدرسين خصوصيين بالمنزل، ثم أخذ يدرس اللغة العربية على الشيخ رضوان محمد أحد العلماء المشهورين في ذلك العهد واللغة الفرنسية في مدرسة كليبر ثم على الأستاذ عبيد بك، كما أخذ في دراسة التركية والفارسية. وكان بطبعه ميالا إلى الإفادة والتحصيل، فنبغ في دراسة اللغات الأربع. وإذا كان أحمد تيمور لم يحضر عهد والده ولم يتمتع بتلك الندوة العامرة التي كان يقيمها في بيته لمذاكرة العلماء ومسامرة الأدباء، فإن الله قد هيأ له من ذلك ندوة أحفل في دار ابن أخته محمود توفيق بك، فكان يتردد عليها للإفادة. ويحدثنا تيمور باشا بطرف من أخبار هذه الندوة في الترجمة التي كتبها لصديقه محمد أفندي أكمل فيقول: (وكان أول التقائي بالمترجم في دار ابن أختي محمود توفيق بك، وهي إذ ذاك مجمع الأدباء ومحط رجال الفضلاء، فلما رأيته استغربت شكله واستملحت محاضرته، ثم رأيته يناقش الأدباء ويطارحهم الشعر، فدنوت منه وكنت صغيراً في أول الطلب، وقد تعذر على فهم باب أفعل التفضيل، وأجهدت نفسي في درسين متواليين على تفهمه، فلم يفتح عليَّ بشيء فيه، فسألته عنه فأوضحه لي بعبارة سهلت على فهمه، فكان بعد ذلك كثيراً ما يقول لي ممازحاً: إذا ذكرت شيوخك فاذكرني معهم ولا تنسني. . .)

وهناك شيخان جليلان تتلمذ عليهما أحمد تيمور، وكان لهما أبعد الأثر في توجيه وفي ثقافته، وكان رحمه الله يذكرهما دائماً بالإجلال والتبجيل، أولهما العلامة اللغوي الشيخ محمد محمود الشنقيطي، وثانيهما العلامة المنطقي الشيخ حسن الطويل.

أما الشنقيطي فقد كان تيمور باشا يقصد إليه في داره، ويجلس أمامه لتلقي الدرس، وكان الوقت يطول به وهو متربع على الأرض، فكان حينما يشعر بألم ويريد أن يبدل رجلا بأخرى يقول الشنقيطي له: لا تتألم يا أحمد، فقد كنا نقطع بالراحلة شهوراً وراء البحث والاستقصاء عن مسألة علمية. ويحكي تيمور باشا عن نفسه فيقول: وأشار عليَّ مرة أستاذنا العلامة الشنقيطي أن أطالع آمالي أبي علي القالي مطالعة إمعان وتدبر، ولم تكن طبعت بعد، فاستنسخت منها كراريس عكفت على مطالعتها، واحتجبت عن الناس بضعة أيام، حتى استوفيت ما بهذه الكراريس. . .

وأما الشيخ حسن الطويل فيظهر أنه كان أشد خلطة وأعلق بنفس أحمد تيمور، وهو يعتبره أستاذه الذي قومه وثقفه وأخذ بيده إلى الطريق المستقيم، وقد كتب تيمور باشا ترجمة مطولة لهذا الأستاذ الفاضل أورد فيها سبب اجتماعه به وتحدث عن مدى انتفاعه بعمله وفضله فقال: (أما سبب اجتماعي به وقراءتي عليه فإني كنت خرجت من المدارس بعد تلقي ما يلقى بها من العلوم المعروفة وأنا في سن العشرين، وقد علق بالعقيدة شيء من آثار التربية بهذه المدارس، إلا أني كنت مولعاً من الصغر بالإسلام ومحاسنه والمطالعة في السيرة النبوية، ومناقب الأصحاب والخلفاء الراشدين، فكان ينشرح صدري لأشياء وينقبض من أشياء تعرض لي فيها شبهات، ثم كنت أعرض ما يظهر لي من مكارم الشريعة ومقاصدها على ما عليه الناس من البدع والمحدثات التي تمسكوا بها وجعلوها من الأصول الدينية، فأجد التصادم والتناقض فصرت أتردد على كثير من كبار علماء الأزهر وغيرهم لعلي أجد عندهم مفرجاً، فأراهم أحرص من العامة على هذه الخزعبلات حتى كدت أحكم بأنها من الدين، وأن الأمر دائر بين شيئين: فإما أن يكون الدين دين خرافات وخزعبلات تنفر منها الطباع السليمة، وإما أن يكون ما نراه حقاً، ولكن يمنعنا من قبوله إلحاد تأصل في النفس، حتى أرشدني بعض الأصحاب للمترجم، فأخذت في السؤال عنه من أهل العلم، فكانوا ينفرونني منه حتى بالغ بعضهم ورماه بالزندقة، فقلت: إذا كنت لم أجد طلبتي عند من تسمونهم بالصلاح والورع فلعلي أصيبها عند الزنادقة. ثم سعيت في الاجتماع به، وسألته القراءة عليه والاهتداء بهديه، فقرأت عليه العلوم العربية والمنطق، وأعدت عليه الصرف وعلوم البلاغة بتوسع، ثم قرأت طرفاً من الحكمة. ولما رآني مجداً في التحصيل قرر لي درساً ثانياً بعد العشاء كنا نقرأ فيه كتب الأدب ونحوها. وكان من عاداته الخروج إلى الريف كل خميس ترويحاً للنفس، فكان يسافر إلى ضيعتنا التي بقويسنا أو إلى حلوان حينما نسكن بها شتاء، فكنت أقضي معه هذين اليومين في مطالعة واشتغال، حتى في حالة المشي والتنزه كنت أحمل الكتاب معي وأسمعه فيه، فيقرر لي المسائل ونحن سائران. . . فكان اجتماعي به ومصاحبتي إياه من أكبر نعم الله عليَّ في ديني، ولو لم يكن له عليَّ سوى تصحيح العقيدة وتأديبي بآداب الحنيفة السمحة لكفي

(للحديث بقية)

محمد فهمي عبد اللطيف