مجلة الرسالة/العدد 780/منادمة الماضي:

مجلة الرسالة/العدد 780/منادمة الماضي:

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 06 - 1948



زيارة لحصن الأكراد

أدب وحرب

للأستاذ أحمد رمزي بك

(تتمة ما نشر في العددين السابقين)

39 - ويرجع الفضل إلى إحراز هذا النصر إلى عقيدة القضاء على الفرنج وإنهاء الجروب الصليبية إنهاء تاماً، تلك العقيدة التي تملكت عقول الجنود والقواد وملوك مصر منذ بدأ بيبرس حملاته والتي تتلخص في الاستيلاء على الحصون والقلاع وعدم ترك الفرصة حتى تسترد الولايات اللاتينية استعدادها مرة أخرى، وعليه أفرغ كتاب الفرنج جعبة شتائمهم على هؤلاء الأبطال، وكتب جبون يرثى الحروب الصليبية يقول: (ساد سكون محزن غريب مظلم على طول ذلك الشاطئ الذي ظل زماناً طويلا تترد فيه أصداء النزاع العالمي وتمر عليها كتائب المقاتلة)

40 - أنشأ الصليبيون معاقل وأبراجاً في الحصون التي احتلوها تشهد لهم بطول الباع والأناة وللعرب والبيزنطيين، بل وللفرس وغيرهم آثار تشهد لهم أيضاً:

وهذا فن يهم أربابه، وقد أخرجت البعثة الفرنسية حجارة نحتها العرب وأخرى نحتها الفرنج من أسوار حصن الأكراد، وفي أسوار قلعة القاهرة من الحجارة ما نحته أسرى الفرنج، فقد كانت الطريقة المتبعة استعمال الأسرى في هذه الأعمال.

41 - وقد استعمل حصن الأكراد وغيره من الحصون في فترات الهدوء التي دامت بين هجومين عظيمين: استعمل كرأس حربه مدة احتلاله بالصليبيين لإدخال الرعب في قلوب المسلمين، ثم كملجأ يلجأ إليه المقاتلة والفرسان بعد عودتهم من حملة موفقة ليستجموا ويستعيدوا قوتهم ليعودوا مرة أخرى إلى الغزو.

42 - وقد بقى حصن الأكراد 130 عاماً وهو رأس حربة كما قلنا يهددون بها حمص وما حولها، ويحولون دون المسلمين والاتصال بالجهات التي تحت حكمهم في بعلبك والبلاد الأخرى. المجاورة لها.

43 - ولما شعر المسلمون بأهمية هذا الموقع العسكري وأذاه في صفوفهم لجأوا إلى نور الدين الشهيد صاحب دمشق الذي جمع جنوده في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ونزل تحت حصن الأكراد، فبينما هو في معسكره وفي وسط النهار، دهمته كتائب الفرنج من خلف الجبل القائم عليه الحصن، وأحاطت بالجيش الإسلامي وهو على غير أهبة فأعملت فيه السيف، وقد الإفرنج خيمة العادل نور الدين، فكاد أن يقع أسيراً لولا رباطة جأشه وسرعة خاطره إذ خرج من الباب الخلفي وركب فرساً للنوية، وكانت بقيدها الخلفي فنزل أحد أتباعه من الأكراد فحلها وقتل لساعته، ولولاه لوقع نور الدين في الأسر.

44 - وفي هذه الحادثة بالذات يقول أبو الفرج عبيد الله ابن سعد الموصلي من قصيدة فائقة:

بنى الأصافر ما نلتم بمكركم ... والمكر في كل إنسان أخو الفشل

وما رجعتم بأسرى خاب سعيكم ... غير الأراذل والأتباع والسفل

هل آخذ الخيل قد أردى فوارسها ... مثال آخذها في الشكل والطول

أم سالب الرمح مركوزاً كسالبه ... والحرب دائرة من كف معتمل

وفيها يخاطب نور الدين:

لانكبت هتك الأقدار عن غرض ... ولاتنت يدك الأيام عن أمل

45 - وبرغم ما في القصيدة من محاولة الاعتذار أمام الهزيمة والفرار، فإن العملية الحربية الصليبية كانت ناجحة إذ تجلى فيها عنصر المفاجأة وظاهرة السرعة بدليل تتبع المنهزمين حتى حمص. والفضل للموقع الممتاز لحصن الأكراد، ذلك الموقع الذي أتعب المسلمين أكثر من قرن من الزمن كما قلنا.

46 - ولدينا من قبيل هذا المقال الكثير من الهجمات والمتاعب التي سببتها حامية حصن الأكراد الصليبية لمدينتي حمص وحماة وغيرهما من بلاد المسلمين.

ففي عام 599 زحف الفرنج من حصن الأكراد إلى مدينة حماة فركب صاحبها وحاربهم في رمضان. وجاء في السلوك ضمن حوادث سنة 603 أن الملك العادل الأيوبي صاحب مصر خرج من مصر إلى العباسة ومنها إلى دمشق ثم برز إلى حمص، وذلك عقب الحملات المتتالية التي شنتها حامية حصن الأكراد وتعدد الغارات على كل من حمص وحماة، ونازل الحصن وأسر خمسمائة رجل من أطرافه. ولقد نازله قبله صلاح الدين وغيره من ملوك المسلمين ولكنها كانت جميعاً حملات تعرضيه استكشافية، أو إذا شئت تأديبية ضد المقاتلين من جماعة الصليبيين المستحكمين في هذه القلعة ولم يعقبها حصار كامل الأهبة والاستعداد كما حدث بعد ذلك.

47 - وقد بقى هذا الحصن قذى في أعين المسلمين يهدد بلادهم حتى تم فتحه في عام 668 هجرية على يد الملك الظاهر بيبرس سلطان مصر وصاحب الفتوحات وهو ما سنفرد له فقرة خاصة تأتي بعد ذلك.

48 - وقبل أن يتم الفتح على يديه اتبع طريقة أسلافه، وهي الهجماب التعرضية السريعة لجس نبض الحامية واستنفارها للخروج من وراء الخنادق والأبراج؛ ففي هذا العام أي في 3 جمادس سنة 668 ركب الملك في مائتي فارس وأغار على أطراف الحصن ثم صعد إلى الرابية ومعه قدر أربعين من الفرسان فخرج عليه عدة من الفرنج ملبسين بالدروع فحمل عليهم وقاتلهم وتتبعهم حتى دخلوا الحصن. وتقول الراوية إنه صاح بهم ليدعوا رفقاءهم إلى الخروج، وأشار إلى عدد من معه وأنهم جميعاً بأقبية بيض أي غير مدرعين بالزرد والحديد.

وتشير الراوية إلى أنه عاد إلى مخيمه وأطلق الخيول في المروج الخضراء والمزارع التي كانت حول الحصن.

49 - وكانت هذه آخر الحملات التأديبية إذ سقط الحصن بعدها في أيدي الملك الظاهر الذي بادر إلى ترميمه وإعادة إصلاح أبراجه وخنادقه واتخاذه نقطة ارتكاز لجيوشه في عملياته الحربية ضد الفرنج المحتلين لمقاطعة طرابلس، فأصبح حصن الأكراد رأس حربة موجها إلى الغرب بعد أن كان موجها إلى الشرق أي إلى قلب الأراضي الإسلامية.

50 - ولهذا الوضع أمثلة في الحروب الحديثة فإن الزائرين لمنطقة جبال الكارسو في شمال إيطاليا لابد عاينوا الحصون الكائنة في جهة سان ميشيل وسابوتينو حيث لا تزال أماكن المدفعية التي استعملها النمسيون وأماكن تلك التي استعملها الإيطاليون بعدهم ظاهرة.

51 - وتحدثنا الراوية بالتفصيل عن بعض ما قام به الملك الظاهر فقد أمضى أياماً في الصيد، وكان يصنع السهام بيده وبريش النشاب، وكان يحضر العمارة بنفسه ويشحذ همم العمال ويشجعهم بل كان يشمر وينقل الحجارة على كتفيه، وكان ينزل في الخندق ويحفر بيديه. ولما أتم العمارة وأعاد تركيب المنجنيقات أمر بتجربتها أمامه ليعرف أماكن سقوط حجارتها ومدى إصابتها للأهداف.

52 - وتنتظم الحياة مرة أخرى بحصن الأكراد إذ تولى القيادة فيه الامير حسام الدين قيماز الذي مر ذكره: وأطلق عليه اسم نائب حصن الأكراد والسواحل والفتوحات على رأس حامية مؤلفة من 500 جندي وعشرة امراء طبلخانة و 15 أمير عشرة

53 - وبمقارنة هذه الحامية تظهر أنها أقل مما كان يحتل الحصن من جنود الصليبيين إذ كانت تتراوح بين 2000 و 3 آلاف وهؤلاء يدخل بينهم الخدم والزراع وطوائف من أهل البلاد.

54 - وبعد حسام الدين قيماز تعين سيف الدين بلبنان الطباخي ثم الأمير علم الدين سنجر الداواداري. ويوسع المهتمون بالتاريخ المصري استكمال هذا الكشف حتى يكون مكملا للكشف الذي ضم أسماء من تولوا القيادة بالحصن أيام الاحتلال الصليبي.

55 - انتهى الحصن في عهد المنصور قلاوون إلى أن أصبح مركز تجمع الجيوش التي حشدت هناك للزحف على مقاطعة طرابلس، وكان الطباخي يقود الحامية من البرج الذي كان يحتله عميد الاستبار، ويبعث بطلائعه لاكتشاف الأماكن التي نزلها الجنود قبل حصار طرابلس.

56 - وفي عهد الملك الأشرف خليل بن قلاوون اشتركت الحامية في أعمال الحصار الرائعة حول مدينة عكا وقد قامت ومعها المجانيق التي ركبها الملك الظاهر ومن بينها منجنيق هائل أطلق عليه اسم المنصوري.

57 - أتينا بصورة من الحياة والقتال في الحصن في العهدين الصليبي والإسلامي لكي تسهل المقارنة وتركنا فتح الحصن على أيدي المسلمين جانباً حتى لا يكون فاصلا يضيع المقارنة بين العملين.

58 - فقد أشرنا إلى عملية قام بها الملك الظاهر تشبه الهجمات التي اعتادها ملوك المسلمين وأمراؤهم ولم يكن يرمي من ورائها إلى هدف معين. وسنرى في حملته على حصن الأكراد كيف يلجأ إلى أساليب المفاجأة والسرعة وتضليل الخصم.

59 - ففي السنة التي أتم فيها الملك الظاهر إنشاء الجسر والقناطر القائمة بقرب شبرا، قرر فتح حصن الأكراد الذي استعصى على غيره من الملوك والأمراء.

60 - وإليك برنامج السفر: غادر القاهرة في 18 جمادي الآخرة، وصل دمشق الخميس 18 رجب، وفي المدة السابقة لوصوله أي بين 18 جمادي و 18 رجب أشغل العدو إذ ابتدأت الحملات الخاطفة ضد قلاع الصليبيين في:

جبلة. وسقطت حصون اللاذقية. صافيتا. المرقب. المجدل. القليعات. طرطوس:

61 - في يوم 19 رجب الموافق 3 مارس سنة 1267 تجمعت قوات الملك الظاهر أمام حصن الأكراد.

ونلاحظ في هذه الأعمال اختفاء الهدف الرئيسي حتى اللحظة الأخيرة.

62 - جاء إليه ابنه الملك السعيد والأمير بيليك الخازندار وبمجرد وصولهما بدأت أعمال الحصار: إذ أخذت الجنود في نصب المجانيق وعمل الستائر لحماية الرماة.

63 - اقتحمت الأسوار الثلاثة على التوالي عنوة ما عدا البرج الأخير الذي استحكم فيه فرسان الاسبتار حتى آخر مراحل الحصار.

64 - في 7 شعبان سقطت الباشورة الثانية التي تؤدي إلى الحصن الداخلي، ودخلت العساكر البلد بالسيف وأسروا من فيه الجبلية والمزارعين ثم أطلقوهم.

65 - وفي يوم الاثنين الثالث والعشرين من شعبان طلبت الحامية الأمان فأمنهم الظاهر وتسلم البرج الأخير فدخله وكتبت البشائر وترتب أرباب الوظائف بالحصن من جهة المملكة المصرية أي النواب والقضاة وبقى بيد مصر حتى دخول السلطان سليم ديار الشام، فزال ملك مصر عنها كما زال عن غيرها من البلاد.

66 - هذا هو حصن الأكراد الذي توجهنا لزيارته ومررنا بأقسامه، ووقفنا أمام أبراجه، وفيها أبراج بناها المنصور قلاوون، ولا تزال الأسماء والآيات القرآنية كما كانت.

67 - ودخلنا أماكن الخيول، وقد كشفت عنها البعثة الفرنسية فرأينا ما أدهشنا: أثر حوافر الخيل ومواضع ربطها والحديد الذي كانت تشكل به. لقد كان الردم يغطي كل هذا، ولما أخرجته يد الإنسان من تحت التراب إذا به كما كان يوم تركه أصحابه منذ مئات السنين.

68 - وكان للحصن آبار ومجار للمياه حينما كشف عنها وجدت أواني من النحاس من عصر الملك الناصر محمد ورؤوس النبال والرماح.

وعدت من الحصن وقد غمرتني نفحة من تلك النفحات التي تؤذن بخروج الإنسان من طور ودخوله إلى طور جديد من أطوار الحياة: فقد تغيرت نظرتي إلى بعض الأشياء، وأخذت طريقاً لإشباع نفسي بتقليب صفحات الماضي الذي بدأت أحس بأننا قطعة منه.

69 - وإذا بي أؤمن بأن تاريخ مصر والشام وحدة لا تتجزأ، وأن أية محاولة للفصل بينهما تؤدي بنا إلى نتائج معكوسة أي تقرير مبادئ سلبية يقصد أصحابها توزيع القوى والعزائم وتجريح الأمم وإنقاص الدور الذي ألقته علينا الأقدار وحمله لنا التاريخ كقوة مقاتلة منشئة منتصرة.

70 - وها نحن نعيش في عصر طابعه السرعة والإقدام، والبناء والخلق والتجديد ومع هذا لا نزال نسير على خطوات وئيدة والزمن يعدو أمامنا: ذلك لأن عوامل التفكك والانحلال والسلبية لا تزال تعمل في صفوفنا وتعوقنا عن الأهداف الكبرى.

71 - هل كان الذين انتصروا في هذه الحروب وقادوا الحملات وتغلبوا على الحوادث لهم نظرة خاصة ومنطق خاص حتى تغلبوا على قوات تفوقهم: وأحرزوا النصر، وأننا لا نستطيع أن تكون لنا مثل نظرتهم ومنطقهم ومثلهم العليا؟

إن الذين خاضوا هذه المعارك أظهروا نهاية ما يمكن من الإقدام حينما وجدوا القيادة الصالحة، فهل يجدها معاصرونا الآن؟ إن استمرار الكفاح والجهاد لمدة تقرب من قرنين لهو أظهر دليل على أن صفات الاستمرار والمداومة ثابتة في الصفوف بين الأمم الإسلامية، ولا نحتاج إلا لمن يظهرها ويحسن قيادتها وتوجيهها.

72 - نحن لا نعيد الحروب الصليبية بمآسيها ومتاعبها وإن كانت تتكرر على مقربة منا في فلسطين ولكننا نقول: إننا في حاجة وقت السلم إلى صفات لا تقل عن الصفات التي تحتاجها الأمة وقت الحرب بل قد تزيد.

73 - إننا في عصر يتطلب انتزاع النصر في السلم كما انتزعه أسلافنا في الحرب؛ وتحضير هذا يتطلب جمع القوى المشتتة وتنظيمها وتعبئتها، وهذا التنظيم نوع من الكفاح الدائم المستمر

74 - إنه يتطلب نوعاً من الهدوء والثبات والتركيز، والأقدام وهي من قبيل الصفات التي تمكن بها أسلافنا من انتزاع النصر في المعارك التي ذكرتها أو أشرت إليها في الكلام عن حصن الأكراد ولا أشك في أن هذه الصفات كامنة فينا وأؤمن أنها ستخرج من القريب كلي نحقق في السلم ما يرى الكثيرون أنه بعيد التحقيق وليس في طاقة شعوب الشرق أن تقوم به، ولكن وثبتها نحو تحقيق مثلها العليا ستجعل هذا الرأي حقيقة ماثلة للعالم أجمع.

أحمد رمزي