مجلة الرسالة/العدد 781/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 781/الكُتبُ

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 06 - 1948



صور من التاريخ الإسلامي

العصر العربي

تأليف الأستاذ عبد الحميد العبادي بك

تقدم الجمعية التاريخية هذا الكتاب لعبد الحميد العبادي بك عميد كلية الآداب. والكتاب يقع في أكثر من مائتي صفحة ويحوي دراسات قيمة مبتكرة في العصر الأموي: أنشأها صاحبها صوراً، وارتفع بها عما في أسلوب الدراسة العلمية من إملال أحياناً، وأخرجها في ثوب أدبي ممتاز فذ. والعبادي بك جيد الطريقة، جامع في أسلوبه التاريخي بين بلاغة الروايات القديمة، وبين الأسلوب العلمي الدقيق في العصر الحديث.

ولاشك أن الجمعية التاريخية وفقت التوفيق كله في تقديم هذا الكتاب إلى العالم العربي؛ لأنه كتاب المؤرخ المصري الأول في العصر الحديث، ولأنه على الأخص يصور أمجد العصور في تاريخ المسلمين. ولعل الجمعية حين اختارته أحست بحاجة العالم العربي في نهضته الحديثة إلى احتذاء ساسته الأقدمين في سعة آفاقهم، وشمول نظراتهم، وجلال فعالهم، وحرصهم على الإصلاح، وسعيهم إلى الصدارة بين الأمم.

والواقع أن القارئ يحس توثب المؤرخ العميد في حماسته للعصر الأموي، ويحس حرصه على أن ينتفع الجيل الحديث بالتراث العربي القديم. فانظر مثلا مقاله عن بحر الروم، تر كيف كان البحر جزءاً من نفسه، ومجالا لمجد العرب، ومعقد آمال الجيل الحديث. ثم اقرأ: (أيها المصريون. . . لقد استرهنكم المستعمر الأرض، ووضع في أعناقكم أغلالا وفي أقدامكم قيوداً ولا خلاص لكم في ذلك الرق المضروب عليكم إلا بركوب متن البحار؛ هنالك تنشقون فوق ثبج الماء ريح الحرية الصحيحة، وتبرأون من علل أورثكموها لزوم البر أحقاباً طوالا؛ هنالك تنبعث مصر الحرة حقاً، مصر الحديثة حقاً، مصر العظيمة حقاص). ثم شيء آخر تحس أن المؤلف يدعو إليه دعوة صادقة: تلك هي الدعوة إلى استلهام الطبيعة لأنها أصفى من يهدي إلى صالح التقاليد. وكأن المؤرخ إنما ردد بعض أفكار روسو حين قال: (الصحراء تبعث في نفوس أهلها وعشاقها الرجولة الكاملة، والإيمان الصادق، والعبقرية التامة). فالكتاب حي الأسلوب صادر عن نفس يهزها الأمل في المستقبل، فتنقل إلى القارئ ما تحس في صدق وصراحة وتردد أحياناً، كما ترى في هذه العبارة: ترى هل أما الله الأمم الإسلامية، أو ألقى عليها نوماً ثقيلا حقبة من الدهر، ثم تأذن بحياتها عندما غيرت ما بأنفسها من صفات الشر، وأنشأت تتحلى بصفات الخير؟ أكبر ما نأمل أن يكون الأمر كذلك). . .

فإذا أمتعت النفس بهذه الخلجات التاريخية الممتزجة بالوطنية في توثب وحماسة فارجع إلى دراساته التاريخية البحتة التي تزيد على العشرين. وانظر كيف يصور العصر العربي الأول قبيل الدعوة وبعيدها، فيبرز لك تقاليده في الشورى، وحرصه على المساواة والبساطة في الدعوة للحق ودين الإسلام، ثم يعود المؤرخ فيحمل إليك صوت الخلفاء مرتفعاً بالدعوة إلى الإصلاح بعد أن امتد الزمن، وعدا على كل شيء، وابتدأ قرن جديد

أما الشورى فقد صورها في دراستين: إحداهما عن دار الندوة، والأخرى عنوانها (كيف كان النبي يسوس أصحابه) أما المساواة فقد مثل لها بشخصية عمر بن الخطاب، وهي ناحية أهملها الكتاب على كثرة ما كتبوا عن ابن الخطاب، وهي ناحية أهملها الكتاب على كثرة ما كتبوا عن ابن الخطاب. وقد تمثل المؤرخ الإسلامي الجليل بأسلوبه العلمي الفني المساواة في شخصية أبي ذر الغفاري، وهو الصحابي الذي أرسل من منفاه بالصحراء صوتاً من الحق لا يزال يدوي في آذان الأجيال جيلا بعد جيل، ولا يزال المصلحون يرددون أصداءه في بقاع الأرض المتحضرة أما الدعوة أيام النبي فقد صوَّر مؤرخنا المصري مهدها في ورع صادق وخشوع جليل، فصور لنا كيف بدأت الدعوة إيماناً راسخاً في دار بسيطة، هي دار الأرقم المخزومي ثم يدور الزمان وتجري المقادير بما شاء الله ويتم للإسلام السلطان على ملك واسع ويقبل على الإسلام أقوام من كل صنف فتحتاج الأمور إلى دعوة جديدة للاصلاح، وتتطلع الأبصار إلى مصلح يعيد البساطة الأولى ويرد صالح التقاليد. فكان عمر بن عبد العزيز ذلك المصلح الذي أعاد بساطة دار الأرقم، وأقام خلافته على أصلح التقاليد القديمة. وكان مبدؤه في ذلك أن سبيل الإصلاح واحدة في أساسها رغم اختلاف الأجيال والعصور والبيئات، ولله در العرب حين قالوا (إن الأمور إنما تصلح بما صلحت به أوائلها) وقال المؤرخ العميد عن عمر بن عبد العزيز نظرية جديدة وكتاب وحده، لأنه أثبت له شخصية المصلح. وقد يعرف الناس جميعاً وخاصة المسلمين أن عمر كان خامس الراشدين، وأن المؤرخين القدماء جمعوا مناقبه. فأي جدة فيما يقول الأستاذ العبادي؟ الجدة في تدعيم ما جاء في كتب المناقب بالأدلة التاريخية المبينة على التحقيق العلمي السليم. وشتان بين أقوال أصحاب المناقب وجماع الروايات وبين تحقيقات المؤرخين المحدثين المؤسسة على المنهج العلمي الحديث. فإذا أردنا تصوير هذا الفارق طالعتنا شخصية الرشيد كما تبدو في القصص التاريخي وشخصيته التاريخية الحقة؛ وشخصية الحاكم الخليفة الفاطمي بين القصص والتاريخ، وشخصيات أخرى كثيرة تنازعها الخيال الشعبي وخيال القصاص وتصوير المؤرخين.

ولم يقتصر المؤرخ العميد على تصوير الخلفاء، وإنما تجاوزهم إلى الولاة والقواد. فكتب مثلا عن زياد صاحب الخطبة البتراء التي تغني عن النسب، وأخ معاوية بالمؤاخاة، وعامل الإمام علي من قبل وصاحب ابنه الحسين من بعده. فهو شخصية تحتاج إلى بحث محكم لما تثير في النفس من معان متضادة، فيتلطف الأستاذ ثم يتلطف، ويهدأ ثم يهدأ، فإذا هو يخرج صورة لزياد تاريخية، فيها ما فيها من شر، وفيها ما فيها من خير. وكذلك كتب الأستاذ مثلا عن محمد بن القاسم الثقفي فاتح الهند، فجعله رمزاً للمجاهدين.

وهكذا لا تكاد تقرأ مقالة إلا وجدتها تخطيطاً تاريخياً متيناً، وبحثاً عميقاً، ونظراً مبتكراً، يثير في نفسك خلجات شتى ويترك لك مجال تفكير وتعليق. وذلك أن الصور التي يسوقها العبادي تفيض خصباً وحياة قوية نابضة.

والمؤلف قبل كل شيء أستاذ أجيال من المؤرخين مد الله في عمره

محمد عبد الهادي شعيره

أستاذ مساعد كلية الآداب - إسكندرية