مجلة الرسالة/العدد 781/خطرات في الأدب المعاصر:

مجلة الرسالة/العدد 781/خطرات في الأدب المعاصر:

مجلة الرسالة - العدد 781
خطرات في الأدب المعاصر:
ملاحظات: بتاريخ: 21 - 06 - 1948


1 - حالة أدبنا

أدبنا عكر لا لون له ولا طابع ولا شرعة ولا منهاج ولا هدف. أدبنا أكسح تنقصه الحيوية وتعوزه الروح ويغتفر إلى التوجيه الصحيح.

ونحن نريد أدباً يدفع إلى المجد؛ يغذي الفكر ويهذب المشاعر ويروض النشء على تذوق كل جميل وفي هذه الصدور اليائسة ينفح هزة الحياة لتشرع وتفكر ثم تعمل لتحي سعيداً.

أدبنا عكر لأن فيه من كل مذهب بدعة، ولكل طائفة شرعة، ولكل أديب أو متأدب دعوة، وكل ثائر ناقم يمجد نهجه ويعيب غيره. فمن مشرق يتمسك بالقديم البالي؛ يركب نهج القديم باسم الاصالة، ويفتعل في الأدب باسم القومية، وعلى المعنى يجني باسم التعمق، وعلى اللفظ باسم الجزالة بل وعلى الأدب باسم الأدب. هذا القديم ضال في غوايته، تائه في ضلالته، ناس أو متناس أن الأدب فن رفيع من فنون الحياة يتجدد بتجددها ويتأثر بكل ما فيها من مؤثرات اجتماعية كانت أو فلسفية أو علمية، وأن أدب أية أمة مهما تعالي وتسامي متأثر بالآداب الأخرى مؤثر فيها.

وأسانيد المدرسة القديمة وتلاميذها من أدبائنا كثيرون، ومعظم أدب هؤلاء دوار في مجالات القديم، وأكثر موضوعاته لا تعدو اجتراراً لمآثر الماضي، ومناهل هذا الأدب فلي المعاجم ونبش وريقات الماضي.

ولهذا الطراز من الأدب أسلوبه الخاص، فلغته عربية سليمة، وألفاظ جزلة ومعان عميقة وتراكيب مرصوفة لها منسقة النفوس. وهي لغة القرآن فلها قدسيتها ورفعتها وإذن فهي أسمى من أن تؤنس بغريب، وأوسع من أن تقصر عن أداء معنى، وأرفع من أن تنالها يد التحوير والتغير. . . أما خيالاته فصافية هادئة إلا أن أجواءها ساجية حزينة قل أن تجد فيها تصويراً حركياً أو وضعاً نابضاً بالحياة.

ومن مغرب قدر له أن يطلع على شيء من أدب الغرب فبهره التجديد وانغمس فيه ثم عاد يحمل رزماً من الطرائق والمناهج وجهر يدعو لتطبيقها كاملة غير منقوصة. وليته دري أن لكل بيئة خصائصها وفي كل مجتمع ميزات ينفرد بها ولكل قوم أمزجتهم وأهواءهم، فما يصلح في بيئة قد لا يصلح كله في الأخرى، وما يستساغ عند قوم يمجه آخرون.

هذا بالإضافة إلى أن أسس الخبرات الشائعة في أي مجتمع من المجتمعات تختلف باختلاف طعومه الفنية ومراتب حضارته وأن أي عزم لبناء صرح جديد لابد وأن يسند بهذه الأسس.

وابتلى الأدب العربي بحملة المشاعل المستعارة، فهذا داعية جديد أمه فرنسا رشف لبنها واستطعم آدابها فملكته رقتها وأَسرته طرائق تصويرها وبهرته مناهج البحث الفرنسية فعاد يدعو لتطبيقها وافية كاملة. وهذا آخر لقف العلم في إنكلترا أو اتصل بعلومها وآدابها فانغمس في رومانتيكية الإنكليز وماع معها وهام في دنا أريافا ثم عاد يدعو إلى البساطة والتحلل من القيود قيود الشعر وتعقيدات النثر. . . وثالث ألماني الثقافة واقعي النزعة جاء يحمل على هذا الأدب الضعيف اللين المائع لأن القوة - في نظره - هي المظهر السامي للكائن الحي والأدب مظهر من مظاهر الحياة يصورها ويمثلها ويعالجها فلابد وأن يكون قوياً.

وأدب هؤلاء المجددين متلون وفق أهواء كل منهم، مصطبغ بنهج من درس عليه، متأثر بطرائق من أخذ عنه وتكاد أساليبه تمتاز بأنها أسلس قياداً للقارئ فلغته عذبة ألفها في حياته العامة، ليس فيها الغريب الشاذ ولا العميق المعقد. ولئن كان جرس الكلمة ورنين العبارة ومنسقة السبك هي أنصار الأسلوب القديم في إثارة مشاعر القاري فلا شك أن وضوح الفكرة وبساطة التركيب وطرافة الموضوع هي أهم ما يعتمد عليها الأسلوب الجديد في استهوائه نفوس قرائه.

وموضوعات هذا الأدب بنت الواقع تصوره وتعالجه فهي منه وإليه، ومعظمها إما من صميم حياتنا أو منقول مترجم. وفي الأولى ملح كوميدية عذبة وفي الثانية روائع رومانتيكية مزيدة.

وبين هاتين الفئتين المجددين ودعاه القديم تأرجح الأدب العربي، وبين الاثنتين تاه السبيل وطال عليه الأمد.

وفي الأجواء الجديدة تعالت صيحات حق صارخة من (الشاعرين بأنفسهم) الذين يؤمنون أن على الإنسان أن يستغل جميع خبراته ومواهبه في سبيل شيء واحد هو أن يعيش واعياً نافعاً متعاوناً؛ وهدف هؤلاء (أن يكون درس الأدب وتاريخه على منهج تصححه الخبرة الإنسانية بالحياة والنفس والجماعة ويمثل التقدم الإنساني والرقي العقلي)، وعلى رأس هؤلاء أستاذنا الجليل أمين الخولي وتحرص هذه الفئة على (ألا يكون درس الأدب وتأريخه تناولاً سطحياً وترديداً تقليدياً لما لا يساير تقدم الإنسانية ورقي الحياة العقليه).

هذه الفئات الثلاث أهل الأدب الحي والثوار المجددون ودعاة القديم قد التفت جميعها في حلبة واحدة هي هذا الشرق العربي واستمر التصادم وطال التنافس فطالت على أدبنا نقاد الانتقال. واشتد التزاحم فكثر النتاج لكنه ظل كدراً، وتأرجح أدباؤنا بين مذاهب هذه الفئات يميلون إلى التجديد باسم المرونة والواقعية ومع القديم باسم الأصالة والقومية فجاءوا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وتذبذب نتاجهم فجاء ضخما كبيراً لكنه ظل كدرا لا لون له ولا طابع ولا شرعة ولا منهاج. بل ولا هدف.

ونحن إذ نقدر للقديم أصالته نؤمن أن الاستعانة به في السبك الجديد ضرورة وأن الاعتداء به مفخرة، ولكننا ندعو ألا يلهينا هذا القديم عن خلق أدب حي يصور مسراتنا وآلامنا ومشاكلنا فتستطيبه أنفسنا وتأنس به، كما أننا نأمل أن تنظم هذه الاندفاعات التجديدية تنظيما أساسه التبصر ورائده الإصلاح لأنا نريد أن يكون لنا أدب حي دفاع يخلق من ناشئتنا جيلا يتذوق الجمال ويقدر الفن ويملأ صدورهم بسمات.

وفي هذه النفوس الذابلة ينفتح هذه الحياة لتنطلق راضية مطمئنة تستقبل عالم الغد. . .

(القاهرة)