مجلة الرسالة/العدد 782/العلم والفن. . . هل يلتقيان؟

مجلة الرسالة/العدد 782/العلم والفن. . . هل يلتقيان؟

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 06 - 1948


للأستاذ محمود تيمور بك

ما أوسع الهوة بين العلم والفن! العلم حقائق مسلمة، وتجارب محكمة، ونظريات تمخض عنها جهد المعامل ووسائل الاختبار، وأوضاع تقوم على أسس هندسية ورياضية رائدها العقل الواعي وحده خالصا من كل شوب.

أما الفن بمعناه الأدبي فهو التماع الخاطر، وبث النفس، ووهج المشاعر، واستجابة المنازع لما يصادفها في الحياة من أحداث ومشاهد ومؤثرات. والكثير من ذلك كله رائده العقل الباطن يستيقظ فيبعث ومضاته في غفلة من العقل الواعي، وتسلل من رقابته الصارمة. . .

ومما يعين على جلاء هذه الفكرة تصور موقفين للأديب والعالم من التاريخ:

يقف العالم أمام الحادث التاريخي وقفة فاحص ممحص، يستكشف الأسانيد ويتثبت من السنين، ويقتنص القرائن، وينتخل الشواهد والأشهاد، وما يزال معانيا ذلك في يقظة وترصد وتحفظ، حتى يطمئن إلى تحرير ما وقع على حقيقته جهد إمكانه. . .

ويقف الأديب أمام ذلك الحادث التاريخي بعينه، فلا يعينه منه إلا روحه وجوهره؟ يجاهد ليعيش فيه، ويترك لأجنحة مخيلته أن تحلق به في سمائه ليستنزل الوحي ويستمطر الإلهام، فإذا هو يظفر بموضوع إن أنكره التاريخ في صومعهة حقائقه وأعلامه، وفي متحف أحجاره وآثاره، لم ينكره الفن حين يطالع فيه صورة إنسانية يحيا داخل إطارها ذلك الحادث التاريخي بشخوصه وما يعتلج في نفوسهم من مشاعر ورغائب واستجابات

ولذلك كان كثيرا ما تتشابه الأحداث والشخصيات التاريخية أقوى التشابه على اختلاف المؤرخين، وتغاير درجاتهم في التأليف؛ ولكن الأدباء الفنانين إزاء تلك الأحداث والشخصيات يختلفون في تصويرهم لها اختلافا يقل أو يكثر، فلكلمنهم جانب استيحاء وقبلة استلهام، وكل منهم يسبغ بصبغة نفسه علمه الفني، ويستمد من ذاته الوقود، وكل منهم يودع قصته ذخيرة من جوهر الإنسانية والحقائق البشرية، على قدر ما يستطيع أن ينفذ إلى ما يتدسس في العقل الباطن، فيواتيه الوحي والإلهام.

ومثل آخر يساق في هذا المقام؛ فقد يقع القارئ في لبس واستراية حين يقرأ تراجم الأشخاص، فيرى بعضها قد اتخذ مسحة دقيقة من النسق التاريخي، والتحقيق العلمي، واستنباط النتائج من أسبابها الصحيحة طوعا لقضايا المنطق؛ ويرى بعضها الآخر ليس إلا صوراً تستند أكثر ما تستند إلى الاستلهام الفني فتطالعه بملامح إنسانية ناطقة تحمل طابع عصرها وجوه.

وإنما يتعرض القارئ لذلك اللبس والاستاربة؛ لأنه لم يفرق بين نوعين متباينين أشد التباين؛ أحدهما: نوع الترجمة التاريخية التي تحتشد فيها الحقائق والإسناد، والآخر نوع الصورة الوصفية التي تتضوأ فيها ألوان من شخصية الكاتب، وقوة تخيله واستلهامه في الوصف والتصوير.

فالمترجم التاريخي عدته أمانة النقل، ودقة التمحيص، والمصور الوصفي عدته إطلاق المخيلة وصدق الإلهام.

فلو تمثلنا أن خمسة من المصورين في مرسم فنان يصورون نموذجا واحدا من النماذج، ولكل منهم موضع أمام النموذج خاص؛ فإننا حين نعرض ما صوره هؤلاء الفنانون الخمسة نجد فروقا بينها جميعا؛ لأن كل مصور رسم صورته على وفق الوضع الذي نظر إليه، واستمد إلهامه فيه، فأسبغ على الصورة من ذات نفسه ما سمحت به، والنموذج واحد ولكن الصور تختلف لأنها صورة فنية لا بد أن تظهر على سماتها أثاره من اختلاف المصورين. . .

وإذا كنا نشير إلى سعة الهوة بين العلم والفن، وتباين منعيهما: العقل والواعي، والعقل الباطن، فإننا لا نعني بذلك أن لا تواصل بينهما على نحو من الأنحاء، فلسنا نغفل أن الحدود القائمة بين الأديب والعالم قد تتداخل فيكون منها مزاج لا هو بالأدب المحض، ولا هو بالعلم الصراح.

ولقد يتجرد مؤرخ لكتابة التاريخ، فتراوحه نسمات من فن البيان تجعل صفحات تاريخية موشاة بالأدب، ولقد يخلص أديب لبعض فصوله في تصوير الحياة ونقد المجتمع فتحضره قواعد مقررة، وأوضاع سائدة، تصل فصوله بمناهج البحث العلمي. . .

وربما توافرت إجادة المزج لذلك المؤرخ أو هذا الأديب فيما يعالجانه حتى ليتعذر على القارئ أن يرد كلا منهما إلى العلم وحده أو الفن وحده. . .

على أن الذي لا نزاع فيه: هو أن الدقة العلمية، والحقيقة التاريخية، لا تشتغل بال الفنان قدر ما تشغله خصائص النفس الإنسانية، وتأثرها بما يساورها من ملابسات الحياة.

فالفن لا طاقة له بالاحتباس داخل أسوار معمل تتحدد فيه الأقيسة وتتعين الأرقام، وإنما يتطلب الفن جوا أسوار معمل تتحدد فيه ويمرح، لا سلطان عليه إلا سلطان الإحساس والشعور.

ذلك لأن الفن الإنساني الخالص ليس مجرد تسجيل مرئيات عابرة، ولا التقاط ظواهر عائضة: وإنما هو انتزاع لأقصى ما في أعماق النفس، واستشفاف لما ينطوي بين الألفاف، وتعرف لأشتات المؤثرات ما يدق منها أو يجل، وما هو قريب أو بعيد.

محمود تيمور