مجلة الرسالة/العدد 784/طريق تحقيق الذات عند طاغور
مجلة الرسالة/العدد 784/طريق تحقيق الذات عند طاغور
للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي
إن تعاليم الديانة الهندوكية تسلم بوحدة الكون، وتفرض على كل هندوكي أن يعمل على إدراك هذه الحقيقة بحيوية حتى يؤمن بها عن صدق شعور. ولذلك كانت أسمى غايات الديانة الهندوكية أن يجد كل هندوكي في تحرير روحه من نواقص الحياة، وتنقية نفسه من شوائب الشهوة، وتطهير عقله من أدران الكفر، وتخليص أفعاله من دناءة الشر، حتى يتسنى له أن يظهر الله الكامن في قرار النفس، ويحس بوحدة الكون الشاملة، فيرتقي إلى أعلى درجات الكمال الروحي ويحقق ذاته.
وتختلف المذاهب الهندوكية القديمة في نوع الطريق التي تحقق الذات، فمنها من يرى أن مجرد حفظ القيدا وإتقان تلاوتها، وأداء الشعائر الدينية يكفل الوصول إلى الكمال الروحي، بينما لا يكتفي مذهب آخر بالأخذ بظاهر الفيدا، ويطلب التعمق في نصوصها، إذ هذا التعمق يساعد على معرفة حقيقة اتحاد الله بالنفس، ويقود إلى تحقيق الذات. ويرى مذهب ثالث الكمال الروحي في التمييز بين الروح والجسد، وإدراك أن مطالب الروح مطالب حقيقية، وأنبل وأرفع من مطالب الجسد الخادعة، ثم تغليب سيادة الروح على الجسد. ولا يعترف مذهب رابع إلا بالطرق العملية، فلا يتخذ إلا المجاهدات من تعذيب النفس وإيلام الجسم وسائل لتحرير الروح من الرغبات والشهوات. ويعتقد مذهب خامس أن تحقيق الذات يكون عن طريق تفسير مظاهر الكون وأحداث الطبيعة ومعرفة العلاقة التي تربطها بالله. ويعتبر مذهب أخيرا التأمل في الوجود وإدراك وحدته هي الغاية القصوى التي يجب أن يقصدها كل فرد.
إن كل هذه المذاهب بوسائلها المختلفة لتحقيق الذات تدلنا على أن الديانة الهندوكية تسمح لكل هندوكي أن يبرز الله الكامن في نفسه بالطريقة التي تتفق مع ميوله سواء أكانت دينية خالصة أم أخلاقية تهذيبية أو عقلية تأملية. ولقد بعث طاغور هذه الطرق في صورة تلائم الحياة العصرية، وتجعل تحقيق الذات متاحاً لكل فرد عن طريق العمل أو المهنة أو الفن الذي يزاوله. كما جعل من العلم والفن والعمل - وهي الأسس التي نهضت بالمدينة الحديثة - الطرق الحية التي تتولى تحقيق الذات. ويمكن أن تلخص طاغور في أربع طرق وهي:
أولاً: الزهد والتقوى والورع والمجاهدة.
ثانياً: البحث العلمي والكشف عن القوانين.
ثالثاً: الفن باختلاف فروعه.
رابعاً: العمل بتنوع مجالاته الخيرة والنافعة.
أولاً: أما عن الزهد والتقوى والورع والمجاهدة، فإنها تطهر الروح، وتصفي القلب، وتنقي النفس من همجية الغرائز وبهيمية الشهوات. إلا أن طاغور لم يعد يستسيغ اعتزال الزهاد الحياة العامة، واحتقارهم الأعمال الدنيوية، لأنه يرى أن المجاهدات القاسية، وتعذيب النفس التي تحرر الروح من عوائق المادة، وتخلصها من أدران الحياة، وتهيئ النفس لمعرفة حقيقة وحدة الكون، لا تتعارض مع قيام الزاهد بعمل ما يعود على البشر بالخير والنفع. فضلا عن أن الزاهد لا يستطيع أن يعيش حر الروح في عالم مجهول من الاحساسات الغامضة، والمشاعر المبهمة، والأفكار المظلمة المحبوسة جميعاً داخل النفس لا يسمح لها بأية فرصة للظهور في عالم الأعمال الجلي الواضح. فكان الزاهد من دون جميع البشر لا عمل له يسعى به لتقدم الحياة الأرضية، بينما يقوم كل إنسان ممتاز بعمل ممتاز. فالعالم يعبر عن أفكاره بالقوانين العلمية التي لها فضل كبير على المدنية. ويشغل الفنان احساساته ومشاعره بالموسيقى أو الغناء أو الأدب أو الرسم فيشيع في النفوس لذات روحية وسروراً طاهراً، ويبذل كل رجل صالح جهوداً عظيمة لكي يخدم أهله أو وطنه أو الإنسانية، فلم يشذ الزاهد عن أفذاذ القوم ولا يقوم بعهل إنساني يطلق به ما يحبسه في نفسه من أفكار واحساسات ومشاعر، ويقنع بأن يحقق ذاته وهو بعيد عن الحياة، كارهاً أن يخوض مشاكلها، نافراً من أن يساهم بنصيبه في خدمة ركب الحضارة الإنسانية!
ثانياً: يؤكد طاغور أن العالم الذي يعمل على كشف القوانين الطبيعية يمكنه أن يحقق ذاته، وذلك إذا تحررت بواعث البحث العلمي من أي فضول ثقافي يطلب مجرد معرفة سير حوادث الطبيعة وتطورها معرفة منطقية، أو إذا خلصت من كل مأرب استقلالي يرمي إلى استخدام ما يتوصل إليه من قواني في المنافع الشخصية أو الفوائد المادية، إذ مثل هذه البواعث تحجب عن العالم حقيقة الظواهر الطبيعية، فيغيب عنه ما وراء قوانين هذه الظواهر من حقائق، ولا يتوصل إلى معرفة علاقة قوانين الطبيعة بحقيقة اتحاد الوجود، فيجهل أنها ملامح مختلفة لقانون واحد، أو أنها حقائق صغرى متعددة لحقيقة كبرى واحدة هي قانون اتحاد الكون بكامل محتوياته بالله. أما إذا خلصت بواعث البحث العلمي من كل غرض ما عدا طلب معرفة الحقيقة الكبرى، فإن بحث العالم وراء قوانين الطبيعة يقوده حتما إلى كشف الوحدة التي تربط هذه القوانين بقانون الحياة الأول، ويعلم باتحاد شتى مضمونات الطبيعة المتنوعة، ويحس بأن هناك جسما عالمياً واحداً يشمل كل ما في الطبيعة بما فيها جسمه، ويشعر بأن جسمه ما هو إلا امتداد لجسم الطبيعة، وليس هناك إلا حقيقة واحدة. وبذلك يحقق البحث العلمي ذات العالم، كما أنه يهدي كل من يلم من عامة الناس بالقوانين الطبيعية إلى إدراك وحدة الوجود ويساعده على تحقيق ذاته.
ثالثاً: إن موضوعي الفن عند طاغورهما جمال الطبيعة وجمال الروح. أما عن جمال الطبيعة فلا ينعم به إلا من صفت بصيرته، وتحررت روحه من سيطرة الرغبات المادية وإلحاح الشهوات الاستقلالية التي لا ترى في الأشياء غير النفع والفائدة فَتحرم الروح من التمتع بالجمال البادي في الكون، وتخفي عنها حقيقة ذلك الجمال الذي بعثه الله في الأشياء ليكون رسوله للناس في الأرض، وعلامة على اتحاده بالطبيعة، حتى إذا ما تأمل بشر وهو طليق الروح طاهر النفس أي شيء في الوجود أحس بما فيه من جمال، وما بين أجزائه من انسجام، فيشعر بجمال توافق الكون، وبروعة حقيقة وحدة الوجود. وكلما قوى شعور فرد بهذه الوحدة في عالم الطبيعة عظم إحساسه بسرور يلهب عواطفه الطاهرة ويثير وجدانه النقي، فيعبر عنه بالموسيقى إذا كان يؤلف الألحان، وبالشعر إذا كان شاعراً، وبالرسم إذا كان رساماً، ويترجم الناس موسيقاه أو شعره أو رسمه إلى ما يحسه الفنان من سرور سرمدي، ثم إلى ما يدركه من حقيقة وحدة الكون، فسيرى السرور في نفوس الناس، ويحسون بدورهم حقيقة اتحاد الخليقة بالله.
كما أن الفنان لا يستطيع أن يدرك جمال الطبيعة على حقيقته إلا إذا سمت نظرته إلى الأشياء، فإنه لا يستطيع أن يدرك جمال الروح إلا إذا سيطر قانون طبيعته الأخلاقية على نفسه، وخلصت من طغيان كل غريزة وشهوة، وصفت من شوائب كل نقص وضعف، حتى يمكن أن تظهر له مزايا الروح في ثوب خلاب بديع ينسجه الخير والحب، وينجلي في ثناياه روح الله الكبرى التي تربط كل روح بأخرى وتشملها جميعاً. ومن يتم له ذلك يشعر بسعادة تغمره بالسلام والأمن، وتحثه على أن يعبر بفنه عما يشعر به من غبطة وحبور، فيكشف عن جمال الفضائل الروحية ويشجع الناس على تثقيف الروح، ويدعوهم إلى فعل الخير وتجنب الشر، ويصف لهم سمو استقامة الخلق ونبل تشبث المرء بالمثل الإنسانية، ويرفع من قيمة تضحية الفرد في سبيل المجموع، ويشيد بذكر الحب الذي يجمع بين القلوب ويفيض على الإنسانية بالطمأنينة والهدوء، وذلك كله يطهر روح المحبين للفنون ويهيئ لهم سبل تحقيق اتحادهم الصادق بالله. فالفن إذا مدرسة معلموها قوم توصلوا إلى تحقيق ذاتهم، ويعلمون الناس كيف يفوزون بوحدتهم مع الله.
رابعاً: يلزم طاغور كل فرد بأن يقوم بعمل مفيد أو خير، إذا أراد أن يحقق ذاته. ولا يغني عن أداء ذلك العمل طهارة روحية أو سيادة القوانين الأخلاقية على النفس، لأن الطهارة الروحية والتمسك بالأخلاق والتمثل بالفضائل، وإن كانت ضرورية لتحقيق الذات، ليست كافية، وتتطلب عملا يؤكد وجودها، ويصدق على صحتها. ولذلك وجب على كل هندوكي أن يؤدي عملا مفيداً في سبيل الله، ويعود بالخير على أهله أو وطنه أو الإنسانية جمعاء بدون أن ينتظر من ورائه نفعاً شخصياً، ولا يقبل على فعله خوفاً من تهديد جوع أو قوة الفقر أو بضغط أي دافع مادي آخر، وإلا أصبح علما باعثه رغبات نفعية وشهوات غريزية تفوق تحقيق الذات.
فكل من يطلب الله يجب أن يعمل عملا باعثه شريف يفيد به الناس لأن العمل الشريف المفيد يخرج الفرد من دائرة أنانيته ويدفعه لخوض معترك المجتمع الإنساني، فيعرف ما يربطه به من علاقات وثيقة، فتنمو فيه غيرية روحية تشعره بأن له جسما يضم المجتمع البشري بأكمله، يجب أن يسعى لإسعاده مهما تحمل من كفاح متعب قد يعرضه لمختلف الآلام، وينزل به أفدح الخسائر كما تشعره بأن له نفساً تشمل الحياة الإنسانية من جميع نواحيها يجب أن يبذل حياته رخيصة من أجل مصلحتها، ويرحب بالاضطهاد والسجن والحرمان والعذاب حباً في خيرها.
ومن يؤد مثل هذه الأعمال العظيمة، فقد صار في الطريق القويم الذي يظهر له حقيقته الكبرى المقيمة داخل نفسه، فتأخذ روحه في الارتقاء في سلم الكمال الروحي، وتعلوا إلى أرفع درجات الحياة التي تنتمي فيها الحقائق المتناقضة فتستعذب النفس الألم في سبيل الإنسانية، وتسعد بالحرمان في سبيل الخير، وهكذا يتعادل السرور والألم، ويصبحان حقيقة واحدة في حب الإنسانية، كما تتساوى المتعة والحرمان في فعل الخير. وحين تبلغ النفس هذه المرتبة من السمو تكون قد تحررت تحريراً تاماً من كل ما يتصل بالحياة الدنيوية، ووعت أن هناك وجوداً أكبر خارجاً عن وجودها، فتعرف الحقيقة الخالدة، حقيقة وحدة الكون الشامل الذي يتجلى الله في جميع أجزائه.
فالدين والعلم والفن والعمل الخير كلها وسائل طيبة تحقق الذات، وعلى الهندوكي أن يختار منها الطريق التي تلائم مزاجه ويسلكها، فإنه حتما سيصل إلى غايته الدينية إذا كانت بواعث سلوكه فاضلة، لا تفسد على النفس سعيها إلى الكمال، أو تحجب عنها معرفة الله الموجود في أعماقها. وإذا حاولنا أن نبحث عن الشخصيات التي سلكت هذه الطرق وحققت ذاتها، فإنه من الصعب أن نجدها خارج مواطن طاغور نفسه. إن زهاد الهند القدماء يمثلون لنا بلا شك تلك الشخصية التقية الورعة الصالحة الخيرة، التي تتحمل طواعية آلام الجسم وعذاب النفس تطهيراً للنفس، وإعداداً لإفنائها في الله الذي يوجد في قرارها وفي جميع المخلوقات. أما عن شخصية العالم الباحث عن القوانين الذي نجح في تحقيق ذاته فليس له وجود. وأحسب أن طاغور قد تصور العلم على ما يجب أن يكون عليه، لا كما يوجد بيننا الآن، لأنه يرى أن سبب كلف العلماء بكشف قوانين الطبيعة، إما أن يرجع لمجرد فضول علمي يرغب في معرفة سير أحداث الطبيعة وتطورها والوقوف عند حد هذه المعرفة بدون محاولة التدرج منها إلى حقيقة اتحاد الوجود الشامل، وإما أن يرجع لشغفهم بفرض سيادتهم على الطبيعة، فيسيئون الاستفادة من القوانين الطبيعية، ويسخرونها في اختراع آلات الحرب والتدمير والتخريب التي تنشر الخوف والقلق في النفوس، بينما تتمثل لنا شخصية الفنان في طاغور نفسه، لأن كتاباته لا تتناول غير ما يبدو في الكون من جمال، أو ما تتصف به الروح من طهارة الخصال، فتغرق قارئها في عالم روحي يحوطه الجمال من كل جانب، وتنشر في نفسه الأمن والسلام، وتحثه على قصد الخير وبلوغ الكمال. وإذا بحثنا أخيراً عن شخص حقق ذاته عن طريق العمل الصالح، فإننا لا نجد مشقة في تعيينه، فلقد اغتيل غدراً منذ مدة على أثر صوم أراد به حسم النزاع بين الهندوكيين والمسلمين. ولا أحسب أن هناك من يجهله، فهو (غاندي) زعيم الهند الروحي وبطلها السياسي الذي ناضل من أجل حريتها واستقلالها فاستحق أن يطلق عليه قومه (المهاتما)، أي صاحب الروح الكبرى التي طهرها الجهاد الطويل الشاق من أجل الهند، ونقتها الأخطار والمحن التي صمد أمامها بعزم وشجاعة، فاستطاعت روحه البشرية أن تندمج في روح الله الكبرى، وتحقق ذاتها في أكمل المراتب
عبد العزيز محمد الزكي
مدرس الأدب بمدرسة صلاح الدين الابتدائية بكفر الزيات