مجلة الرسالة/العدد 785/القصص

مجلة الرسالة/العدد 785/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 07 - 1948



اليوميات

قصة للكاتب الألماني أرثر شنتزلر

بقلم الأديب محمد فتحي عبد الوهاب

كنت عائداً إلى منزلي ليلة أمس عندما جلست فترة من الوقت على مقعد بحديقة المدينة، فلاحظت فجأة سيداً جالساً على الطرف الآخر من المقعد لم أشعر بوجوده من قبل. وأثار ظهره الفجائي دهشتي وشكوكي لأنه لم يكن في حاجة إلى الجلوس على نفس مقعدي، لخلو المقاعد من رواد الحديقة في ذلك الوقت المتأخر من الليل.

وهممت بالرحيل عندما خاطبني ذلك الغريب. كان يرتدي معطفاً رمادياً طويلاً وزوجاً من القفازات أصفر اللون. وناداني باسمي بعد أن رفع قبعته يحييني. وعندئذ أدركت في دهشة من هو. إنه الدكتور جوتفريد فيفالد، ذلك الشاب المهدب ذو المقام الممتاز. وكان قد نقل منذ أربع سنوات من الخدمة المدنية في (فينا) إلى ضاحية بالنمسا. لذلك لم أر موجباً للتعبير عن دهشتي من رؤيتي إياه في ذلك الظرف من الزمان والمكان، على الرغم من أني لم أكن قد شاهدته منذ عيد الميلاد الأخير.

ورددت تحيته بابتسامة فاترة، ثم هممت أسأله عن سبب جلوسه هنا عندما قال لي فجأة وهو يبدي بيده حركة اعتذارية.

- أرجو المعذرة يا سيدي العزيز، ولكن وقتي محدود. ما أتيت إلى هنا إلا لكي أسرد عليك قصة غريبة. ذلك إذا لم يكن لديك مانع من الاستماع إلي.

فسارعت إلى التصريح باستعدادي لسماع ما سيقوله وأنا في دهشة ما تفوه به. ولم أتمالك من سؤاله لماذا لم يقابلني بالمقهى، وكيف استطاع أن يجدني هنا، ولماذا وقع اختياره علي بالذات لأستمع إلى قصته؟

فأجاب في صوت أجش غير عادي - أما عن السؤالين الأولين فسأجيب عليهما أثناء سردي القصة، وأما اختياري لك يا سيدي العزيز (ولم يلقبني بأي لقب خلاف ذلك) فهو لأني أعرف فيك الكاتب الأديب الذي أستطيع الاعتماد عليه في نشر قصتي العجيبة بالطريقة التي تلائمه.

وبدون أن ينتظر تعليقي على ما فاء به، انشأ يقص قصته دون تمهيد، قال:

تدعى بطلة قصتي رديجوندا. وكانت زوجة البارون ت. الكابتن في فرقة س. إحدى فرق (الدراغون)، وكان مقرها بلدتنا الصغيرة. (ولم يذكر في الواقع من الأسماء سوى الأحرف الأولى ومع ذلك عرفت البلدة واسم الضابط الفارس ورقم فرقته).

واستمر الدكتور فيفالد يقول (كانت رديجوندا ذات جمال باهر، وقعت في حبها من النظرة الأولى - كما يقول الناس - ولسوء الحظ لم تسنح لي الفرصة التي تتيح لي التعرف بها، فضباط الفرقة وعائلاتهم قليلو التعارف بالمدنيين، ولذلك كنت أقنع بالنظر إليها عن بعد، أراها وحيدة أو بجانب زوجها أو بصحبة الضابط الآخرين وزوجاتهم وهم يسيرون في شارع البلدة.

وكنت أحياناً أحظى برؤيتها تطل من إحدى نوافذ دارها، أو ألمحها داخل عربة تتأرجح بها قاصدة إلى المسرح الصغير في المساء وهناك أشاهدها جالسة في مقصورة من مقعدي بأعلى المسرح، فيخيل إلي إنها تعطف علي فترميني بنظرة عابرة لا أجرؤ أن استنتج منها ما يشف عن الغزل أو التعارف. وبدأت أيأس من استطاعتي وضع قلبي تحت قدميها عندما قابلتها فجأة وعلى غير انتظار في صباح يوم من أيام الربيع الجميلة بالحديقة الصغيرة الممتدة من باب البلدة الشرقي إلى الريف. مرت أمامي وعلى شفتيها شبه ابتسامة دون أن تلحظ وجودي. وسرعان ما اختفت بين الأشجار دون أن يمر على خاطري أن أحييها أو أتحدث إليها. ولا أدري لماذا لم أشعر بالأسف بعد ما توارت عن أنظاري في أني لم أقم بمثل هذه المحاولة، ولكن كل ما أدريه أنه حدث لي شيء غريب. لقد شعرت بنفسي فجأة أندفع وراء الخيال وأتصور ما الذي يحدث إذا ما كانت قد تمالكت شجاعتي واعترضت طرقها أخاطبها. وجعل خيالي يصور لي كيف لم تخف سرورها بجرأتي هذه، وكيف طفقت تحدثني وتشكو وحدتها وحاجتها إلى من تبثه لواعج نفسها وقلبها، وكيف شعرت بالبهجة عندما وجدت في ذلك الرفيق الذي تنشده. وكانت نظرتها إلي عندما ودعتها نظرة تحوي كل معاني الود والتفاهم حتى لخلت - على الرغم من يقيني بأن كل هذا كان مجرد خيال - بأني عندما أراها مرة ثانية بمقصورتها بالمسرح في المساء سأشعر بأن في صدري كنزاً مدخراً من العواطف لا يشاركني فيه أحد سواها.

لعلك لا تعجب يا سيدي العزيز إذا ما قلت لك بأني وجدت نفسي منساقاً وراء ذلك الخيال الذي لا أدري كيف بعث، ولعل منشأة قوة خفية في نفسي لا أدري كنهها. فسرعان ما أعقبت أولى مقابلات غيرها، وازداد شغفي برد بجوندا، حتى أقبل اليوم الذي وجدتها بين ذراعي وتقدم بي خيالي، وابتدأت تزورني في شقتي الصغيرة بأقصى البلدة، وعندئذ تذوقت كل أنواع البهجة التي لم أتذوقها في حياتي الواقعية والتي لا أعرف طعمها إلا في خيالي الرائع.

وأقبل علينا الخريف عندما علمت أن فرقة (الدراغون) الذي ينتمي إليها زوجها قد أمرت بالرحيل إلى جاليشيا. فشعرت باليأس القاتل يملأ نفسي - بل يملأ نفسينا - ولم نترك شيئاً مما يقوله العشاق في مثل هذه المناسبة إلا تحدثنا عنه. تكلمنا عن الهرب معاً، والموت معاً، وعذاب الخضوع لحكم القدر. وأقبلت الليلة الأخيرة ولما نصل إلى قرار بعد. وانتظمت رديجوندا في غرفتي المزدانة بالزهور وكنت قد حزمت أمتعتي وحشوت مسدسي وكتبت رسائل الوداع استعداداً لما قد يحدث. كل هذا يا سيدي العزيز كان حقيقة نتجت عن خيال غريب. إن وقوعي التام تحت سحر ذلك الخيال جعلني أعتقد تمام الاعتقاد توقع ظهور محبوبتي أمامي في آخر أمسية قبل أن ترحل الفرقة. كنت أشعر بقوة خفية لم أحسب لها حساباً تدفعني إلى البقاء بالدار. وكنت أتوجه مئات المرات إلى الباب الخارجي فأنصت علني أسمع وقع خطواتها، ثم أنظر خلال النافذة آملاً أن أراها مقبلة نحوي. ثم شعرت بالقلق واليأس ينتابان نفسي حتى أوشكت على الاندفاع خارجاً، لأبحث عن رديجوندا وأختطفها من زوجها مطالباً بحقي في الاستحواذ عليها، حق حبنا المتبادل.

وأخيراً تهالكت على مقعدي وأنا أرتجف رجفة من أصابته بالحمى. وفجأة - قرب منتصف الليل دق الجرس الخارجي، فشعرت حينئذ بأن قلبي يكاد يكف عن الخفقان. إن دق الجرس - كما تعلم - لم يكن وليد الخيال. واستمعت إلى صوته وأنا مذهول، وشعرت برنينه يطرق أذني، فأيقظ في الإحساس الكامل بالحقيقة. كنت أدرك أنه حتى هذا المساء لم تكن مغامرتي سوى سلسلة من الأحلام العجيبة؛ ولكني شعرت عندما سمعت ذلك الرنين بأمل جريء يستيقظ في ذات نفسي، ذلك الأمل في أن رديجوندا وقد أثر في أعماق قلبها تلك القوى الخفية التي أحيت خيالي، واستجابت إلى دعوتي بقوة رغبتي فيها، سوف أراها واقفة أمامي بلحمها ودمها على عتبة داري، وأنه في اللحظة القادمة سأتناولها حقاً بين ذراعي.

وذهبت إلى الباب وفتحته، ولكن. . . لم تكن رديجوندا هي الواقفة أمامي، بل كان. . . زوجها! كل ذلك كان حقيقة كحقيقة وجودك بجانبي على هذا المقعد.

وقف الضابط لحظة يتأمل وجهي، ووقفت أمامه مذهولاً، ثم دعوته إلى الدخول والجلوس. ولكنه ظل واقفاً وقال في ازدراء أنت تتوقع قدوم رديجوندا. من سوء الحظ أنها لا تستطيع الحضور. لقد ماتت! فرددت قائلاً: ماتت!

وخيل إلي حينئذ أن العالم قد توقف عن الحركة.

وطفق ضابط (الدراغون) يقول في هدوء - لقد وجدتها منذ ساعة بمكتبها وأمامها هذا الكتاب، وها أنذا قد أحضرته ليسهل علينا وضع الأمور في نصابها. لقد قتلها الرعب على ما أعتقد عندما دخلتن عليها في حجرتها بغتة. هذا هو آخر ما سطرته. اقرأه من فضلك.

وناولني كتاباً مغلفاً بجلد بنفسجي اللون، فقرأت الكلمات الآتية (. . . والآن سأترك منزلي إلى الأبد. إن حبيبي في انتظاري).

وأطرقت إطراقه من يدرك ما الذي تعنيه هذه الكلمات.

واستمر الضابط يقول - لا شك أنك أدركت أن ما تحمله في يدك هو يوميات زوجتي. من الأصوب أن تلقي عليها بنظرة، حتى تدرك أنه لا يجديك الإنكار.

وقلبت الصفحات وطفقت اقرأ وأقرأ حوالي الساعة، وأنا مرتكن على مكتبي وهو جالس على المقعد دون حراك. قرأت قصة حبنا كاملة؛ تلك القصة الغريبة بكافة تفاصيلها منذ التقائي بها في ذلك الصباح من يوم الربيع، وتحدثي إليها في الحديقة. ثم قرأت عن أولى قبلاتنا، وسيرنا معاً، وذهابنا إلى الريف، وساعات نشوتنا في غرفتي المزدانة بالزهور، وخططنا التي وضعناها للهرب أو الموت، وسعادتنا وبأسنا. كان كل ذلك مسطراً في هذه الصفحات؛ هذا الذي لم يكن فيه مسحة من الواقع ولكنه كل ما اتفق لي وقوعه في الخيال، وشعرت بعجزي عن تفسير أمر هذه اليوميات. ولكن تبلج في نفسي ضوء نمن الحقيقة هو أن رديجوندا قد أحبتني كما أحببتها، وأنها قد حصلت على تلك القوة الغامضة فمنحتها موهبة الخيال وبذلك شاركتني كل حوادث مغامراتي تلك.

ثم ظهر لي شيء آخر. . إن هذه اليوميات لم تكن سوى وسيلة للانتقام مني بسبب ترددي الذي منع أحلامي - أحلامنا - من جعلها حقيقة واقعة، وحتى موتها الفجائي كان من صنع إرادتها. بل كان في نيتها أن تضع هذه اليوميات في يد زوجها بهذه الطريقة، ولم يكن لدي من الوقت ما أستطيع فيه أن أستعرض كل هذه المعضلات وأحاول تفسيرها، ولكن وجود زوجها هنا كان إحدى التفسيرات، بل التفسير الطبيعي لكل ما حدث، ولذلك عملت بما تتطلبه الظروف، ووضعت نفسي تحت تصرف الضابط في كلمات تناسب الموقف).

فصحت قائلاً - دون أن تحاول.

فقاطعني الدكتور فيفالد في خشونة قائلاً - حتى لو كان هناك أدنى نوع من النجاح لمثل هذه المحاولة فإنها لتظهر لي شيئاً مشيناً. أني أشعر نفسي بأني مسؤول عن كل هذه النتائج التي أوجدتها مغامرتي الخيالية هذه - تلك المغامرة التي كنت جباناً لأني لم أحققها.

(وقال الكابتن - إني أحب أن أضع الأمور في نصابها قبل أن يعلم الناس عن موت رديجوندا إننا الآن في الساعة الأولى صباحاً. ففي الساعة الثالثة سيتقابل شهودنا. وفي الخامسة سنسوي أمورنا.

وأومأت بالإيجاب في برود، ثم غادرني: ورتبت أوراقي، ثم تركت الدار أبحث عن صديقين فوجدتهما في فراشيهما، وأطلعتهما على الشيء الضروري حتى يدركا المهمة الملقاة على عاتقيهما ثم جعلت أذرع الطريق أمام نوافذ دارها، دار رديجوندا المسجاة الآن على فراش الموت، وتملكني حينئذ شعور اليقين بأني أسير نحو نهاية مصيري المحتوم.

وفي الساعة الخامسة صباحاً واجهت الكابتن وواجهني والمسدس في يد كل منا في الحديقة الصغيرة بالقرب من المكان الذي خاطبت فيه رديجوندا للمرة الأولى.

فقلت - وهل قتلته؟

قال - لا. . إن رصاصتي مست صدغه، ولكنه أصابني في قلبي، وسقطت ميتاً في التو واللحظة كما يقولون.

فالتفت إلي جاري العجيب وكلي دهشة واستغراب، فإذا به قد اختفى من ركن المقعد فذهلت. . . وأخيراً سألت نفسي ألا يجوز أنه لم يكن موجوداً على الإطلاق، وأن كل ما حدث لم يكن إلا وليد خيالي؟ ولكني تذكرت أني سمعت بعضهم كان يتحدث بالمقهى في الليلة السابقة عن مبارزة سقط فيها الدكتور فيفالد ميتاً وعن اختفاء السيدة رديجوندا في نفس اليوم، والاعتقاد إنها هربت مع ملازم شاب من الفرقة دون أن تترك وراءها أثراً.

وتوالت علي الأفكار والأسئلة. أكان ما حدث وما سمعته حقيقة واقعة؟ ولكني تراجعت أمام التفكير الذي يخالف المنطق. فقد أجشم نفسي مشقة تأييد نظريات لا قبل لي على تصورها، كالتصوف وعلم الروح.

إنه لا يمكنني إثبات حقيقة مثل هذه القصة، إذ تنقصني الأدلة المادية على صحتها. ووجدت لو أني اعترفت بها لواجهت مشكلات لا تعد ولا تحصى، ولاعتقد الناس أني إما ساحر أو دجال. ومن ثم قررت في النهاية أن أقص تلك الزيارة الليلية كما حدثت دون تعليق عليها، وأنا واثق من اعتراض الكثيرين على صحتها، فإن شعور الثقة عند الناس عن الكتاب وما يكتبونه أقل بكثير من شعورهم نحو غيرهم.

(الإسكندرية)

محمد فتحي عبد الوهاب