مجلة الرسالة/العدد 789/آلام بيتهوفن

مجلة الرسالة/العدد 789/آلام بيتهوفن

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 08 - 1948



للدكتور فضل أبو بكر

ولد بيتهوفن بمدينة (بون) التابعة لمقاطعة (بروسيا) الشرقية بألمانيا في السابع عشر من ديسمبر سنة 1770 وهو - كما يعلم القارئ - ثالث الثلاثة - (موزار) و (باك) - الذين تفاخر بهم ألمانيا كما أدهشوا العالم في فن الموسيقى وكان أبوه - كوالد (موزار) موسيقياً بارعاً ولكنه على العكس من زميله نشا نشأة تعسة في طفولة بائسة مشردة لقسوة والده عليه ولمعاقرة ذلك الوالد للخمر وإدمانه عليها وهو ما طبع حياة الطفل وسرعة الغضب رغما عن نفسه وطيبة قلبه. وقد حكى عنه أنه بينما كان يعزف على عودة قطعة موسيقية وإذا بعنكبوت خرجت من مكمنها وتدلت من نسجها كأنما أطربتها ألحانه الشجية فضربتها أمه ضربة أماتتها مما أثار نفس الابن وجعله يحطم عوده من شدة الغضب.

بدأ نبوغ بيتهوفن في سن مبكرة كما بدأ يؤلف وينتج في فن الموسيقى في الثالث عشر من عمره وهو ما أثار دهشة مواطنيه.

كان (موزار) في ذلك الحين قد بلغ الذروة في عالم الفن وقد تعلق به بيتهوفن وأعجب بنبوغه وتفوقه في عالم الموسيقى فلحق به في مدينة (فينا) في ربيع سنة 1878 يحمل توصية من أحد الكبراء لكي يحظى بمقابلة (موزار) فكان له ما أراد ورحب الفنان الكبير بزميله الشاب الصغير واكرم مثواه وأراد موزار أن يمتحن بيتهوفن ويتحقق بنفسه عما يذاع عنه من بوادر النبوغ فأعطاه قطعة موسيقية صعبة معقدة ورجاه أن يعزفها على البيان فأبدى الشاب من الكفاءة والنبوغ ما حير (موزار) الذي لم يملك نفسه من فرط الإعجاب فصاح فيمن حوله (تأملوا) هذا الشاب الصغير! إنه سوف يترك في الدنيا دويا وسوف يتكلم عنه العالم أجمع) على حد قوله المتنبي:

وأستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صغر الخبر الخبر

أما من حيث تكونيه الجسمي فقد كان قصير القامة واسع الصدر ضخم الرأس والعنق قصيرها مما يزيد من قماءته غليظ الشفتين بارز الجبهة والحنك قصير الأنف وفي عينيه قوة معبرة وشعاع نافذ وإذا ما غضب وحدج بهما إنسانا فكأنما يتطاير منهما الشرر ويكسو رأسه شعر كثيف أسود كدجى الليل يتعذر على المشط أن يجوس خلاله أو يقوم ما أعوج من تجاعيد خصلاتهالمتدلية على أكتافه كأنما هي عرف الأسد.

إن ملامحه - كما يقول بعض الكتاب - إن لم تنم عن وسامة وجمال فهي تعبر عن هيبة وجلال وكأنما الشاعر يعينه بقوله:

فإن لم تك المرآة أبدت وسامة ... فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم

بدأ الوقر يطرق سمعه وهو في السادس والعشرين من عمره وهو في فجر الشباب وأوج المجد وبدأ الداء بأذنه اليسرى وبعد عامين لحق باليمين فضعفت حواسه السمعية وكانت عنيفة على نفسه الحساسة وجرحا لكبريائه الشامخ وكبرياء النفس صفة تميز بها الألمانيون أكثر من غيرهم ولا سيما البروسيين وكان في بادئ الأمر شديد الحرص على كتمان مصيبته ولم يبح بها حتى إلى أقرب الناس إليه لهذا بدا يمعن النظر ويتفرس في وجه محدثه مراعيا باهتمام حركات الشفاه وملامح الوجه المعبرة حتى يلم بأطراف الحديث ولكيلا يفوته حاسته فقدنا تاما وهي ما يسمونها في الطب (بالقراءة على الشفاه) - ولكن هيهات!! فما كان مجهوده يكلل بالنجاح في كل الأوقات، إذ كانت تفوته بعض الكلمات فتبدو على سيماه الحيرة والارتباك، مما يضطره محدثه لإعادة ما يقول أو الإجهار بالصوت فيزداد ارتباك ويحمر وجهه غضبا لأن في ذلك ما يذكره بمعصيته ويشعره بأنها لم تعد سراً على أحد.

وفي عام سنة 1800 اشتد داءه وظهرت عليه بعض المضاعفات - دوى في الاثنين لا ينقطع ليل نهار وضوضاء أشبه بأزير النحل مع شعور بالدوار وآلام في الأذنين عند سماع الأصوات الحادة وهي عارضة مرضية يسمونها بال

بيتهوفن والأطباء:

لجأ بيتهوفن إلى استشارة الأطباء بعد تردد كبير لأنه - كما أسلفنا - كان يأنف أن يعترف للناس أو حتى للأطباء بمرضه فضلا عن ضعف ثقته بالطب والأطباء وفي هذا يشبه المؤلف المسرحي الشاعر (موليير) الملقب بشكسبير فرنسا والذي كان يسخر من الأطباء ويهزأ بهم في مسرحياته لعجز الطب عن مداواته. غير أن إلحاح أخواته جعله يقبل العلاج فاستدعى أهله الأستاذ الدكتور (شمد) وهو صديق للعائلة ومن المعجبين إلى حد كبير بفن بيتهوفن وقد بذل الأستاذ كل ما في وسعه واستمر في علاجه أكثر من ثلاثة أعوام ولكن جهوده ذهبت أدراج الرياح واستمر الداء يتطور ويستفحل، ثم تولى علاجه طبيب ثان هو (ملفاتي) وثالث هو (برتوليني) وأخيرا الأستاذ (استاندنهايم) وهو طبيب الإمبراطور بتضخيم الأصوات فاستعمل منها مجموعة مازالت محفوظة في المتحف الخاص به والذي يؤمه الزوار من عشاق فن الموسيقى من كل حدب وصوب ولكن الفائدة كانت ضئيلة ولم يطق بيتهوفن صبرا على احتمالها فنبذها جميعها إلى جنب وظل سمعه يضعف رويداً رويداً.

وأخيراً نصحه أطباؤه بمغادرة فينا - فينا الجميلة عروس الدانوب والتي أحبها كثيرا فغادرها مرغما إلى قرية مجاورة وانقطع لقنه انقطاع العابد في محرابه والراهب في صومعته بتحف العالم من حين لآخر بأروع ما عرف في فن الموسيقى.

ولكن العزلة وحرمانه من مجالس الأنس وسمر الأحباب في فينا كل ذلك زاد من أحزانه وشقاء نفسه حتى ضاق ذرعا بالعيش واستعجل الموت وقد كتب في ذلك عدة مذكرات منها وصيته التي تركها لشقيقتيه (كارل) و (جوهان) نقتطف منها:

(ما أقسى المجتمع في حكمه على الفرد!! إن الناس كالقاضي المستهتر الذي ليس له من ضميره رقيب ولا حسيب فهو يدين المتهم البريء ويوقع العقاب من غير أن يكلفه نفسه مؤونة البحث والدراسة لقضيته! إن الناس يرموني بالصلف والترفع عن مجالسهم كما ينعتني البعض الآخر بالشذوذ وما دروا أن قلبي منذ نعومة أظفاري مفعم بالحب وتفيض في نفسي عاطفة البر والرفق بالضعفاء والمحرومين. وما ألحاني إلا تعبير صادق لما يختلج في نفسي من احساسات.

لقد مضى على أكثر من ستة أعوام وأنا أعاني من عاهتي الأمرين وتزداد حالتي المعنوية سوءا يوما بعد يوم كما فقدت الأمل في استرداد سمعي رغما عن الوعود الكاذبة التي يتمشدق بها الدجالون من الأطباء. لقد جفوت - كرها - مجالس الأحباب لأن كبريائي لا يسمح لي أن أقول لأحد من الناس أرفع صوتك وأجهربما تقول لأني ضعيف السمع أو عديمة!! إن العزلة تميتني حقا ولكن أين المفر؟! إن سخرية الناس وشماتتهم هما لا على نفسي أدهى وأمر.

يا أخوي التمسا من صديقي الأستاذ (شمد) أن يطالع الناس بحقيقة عاهتي بعد موتي حتى يقفوا الأمر وسبب نفوري منهم وليكن لي ذلك مبرر وشفيع وأني لآمل إلا تعاجله المنية قبلي لأني لا أثق بغيره من الأطباء.

إني أترك لكما الثروة المتواضعة التي جمعتها بعرق جبيني فاقتسمها بينكما بالعدل كما آمل أن يسود بينكما الحب والوفاق وأما أنت يا شقيقي (كارل) فأشكر لك حسن صنيعك وعطفك على كما أسألك أن تنشئ أبناءك نشأة طيبة متمسكين بالفضيلة ففي ذلك وحده النجاة كما أنها الطريق المفضي إلى السعادة، والسعادة ليست في الثراء لأنه عرض زائل وإنما هي معنوية وليست مادية.

أشكر جميع أصدقائي ولا سيما سمو الأمير (شنوسكي) والأستاذ (شمد) كما التمس منكما أن تحتفظا بالآلاتالموسيقية التي أتحفني بها سمو الأمير كذكرى نفيسة (اللهم إلا إذا أعوز كما المال ففي هذه الحالة فقط أسمح لكما ببيعها).

أسباب مرضه:

اختلف الأطباء في تعليل الأسباب التي أدت بسمعه فبعضهم يعزوها إلى مرض الزهري كالدكتور (جاكوبصن) مثلا ولكن تشريح جثته بعد موته في السادس والعشرين من شهر مارس سنة 1827 لم يظهر أي أعراض للزهري وبعضهم يقول إن حمى التيفويد التي أصيب بها في حداثته سببت له التهابا في الأذن الداخلية غير أن هذه الدعوى ليس لها مكان من الصحة إذ أن مثل هذا الالتهاب له عوارض لم تظهر على بيتهوفن والمتفق عليه الآن أن مرض أذنيه الذي أودى بسمعه هو ما يسمونه بال - لأن كل ما كان يشكومنه من عوارض وما دلت عليه نتيجة التشريح بعد الموت ولا سيما تشريح الأذن نفسها يدل على أن بيتهوفن كان مصابا بالمرض الأذني المذكور يضاف إلى ذلك أن والده كان ضعيف السمع والوراثة تلعب دورا هاما في هذا النوع من الأمراض السمعية.

أثر الصمم في فن بيتهوفن:

يظن الكثير من الناس بأن حاسة السمع شيء لا عوض عنه للفنان الموسيقى وذلك أن يعزف بنفسه أو يعزف له أحد غيره ما يؤلف من قطع موسيقية فيتذوق ما بها من فن ويصلح ما بها من ضعف وهو ما حرم منه بيتهوفن مدة طويلة ولكن الواقع ينفي ذلك إلى حد كبير ولا سيما لدى فنان ملهم موهوب مثل بيتهوفنوحاسة السمع لا تلعب إلا دورا ثانويا وهذا الصدد وإنما العامل الأول في الإنتاج هما ذكاء القريحة وقوة الخيال وقد وهبه الله منهما قسطا وافرا. والموسيقى فن فوق الاحساسات المادية وهي لغة الوجدان وترجمان العواطف.

إن عاهته لم تعقه عن النبوغ والوصول إلى درجة الكمال في فنه كما أن أحزانه قد صهرت نفسه وطهرته من أدران المادة كما أرغمته أن ينزوي وينقطع لفنه ويعيش من أجله كما خلقت في نفسه (مركب نقص) دفعه إلى طلب الكمال كما تفعل مركبات النقص والعاهات في النفوس الكبيرة التي تغالط ف حقائق الواقع وتتحدى الأقدار.

وقد وصف ذلك الكاتب الألماني بيوش وصفا بليغا قال فيه:

(أيها الساري إذا ما مررت بالقرب من داربيتهوفن في دجى الليل فلا ألتمس منك أن تسير رويدا وتقبض أنفاسك كما تهمس في أذن عشيقتك مخافة أن تزعجه ولكن سر ما بدلك وأملا الدنيا ضجيجا وغناء بصوتك الآدمي الخشن لأن (موجات) ما تحدثه من ضوضاء لا تجد طريقها إلى أذن بيتهوفن رب الألحان وإله الفن وقد ترفعت أدناه عن سماع همس النسيم يداعب ما جف من أعشاب الحقول وهديل الحمائم وتغريد البلابل وسجع الهزار فكيف الحال بصوتك الأجش المنكر؟! إن في نفسه تتفجر ينابيع الفن وتجري أنهر من اللحن العذب تروى عطاش ما جف من زرع أنفسنا فيأتي بالثمر الشهي وتجنبه جنبا هو البر والحب والجمال).

فضل أبو بكر

عضو بعثة فاروق الأول السودانية بفرنسا