مجلة الرسالة/العدد 789/القصص

مجلة الرسالة/العدد 789/القصص

ملاحظات: الخجول أو غلاف الألبوم Feuille d'Album هي قصة قصيرة بقلم كاثرين مانسفيلد نشرت عام 1917. نشرت هذه الترجمة في العدد 789 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 16 أغسطس 1948



الخجول!!

للكاتبة الإنجليزية كاثرين مانسفيلد

للأديب محمد فتحي عبد الوهاب

كان في الواقع شخصا خجولا بكل معاني الخجل، ولا يملك مطلقا ما يقوله عن نفسه. وياله من حمل! إذا كان في غرفتك فإنك لا تدري أين تذهب، ولكنه يظل جالسا حتى يخيل إليك أنك ستتفجر حتما صارخا، وتتحرق شوقا لقذف أي شيء وراءه، عندما يندفع أخيرا إلى الخارج.

وهو يسترعي اهتمامك عند أول نظرة. وقد تذهب إلى المقهى ذا مساء فتراه جالسا في ركن منها، قدح القهوة موضوعاً أمامه. أنه فتى أسمر البشر، رفيع القامة يرتدي صدرة صوفية زرقاء وسترة رمادية ذات أكمام قصيرة تظهره كصبي عازم على الهروب إلى البحر، صبي هارب فعلا وها هو ذا يقوم في لحظة وقد حمل على طرف عصاه منديله المعقود الذي يحوى رداء نومه وصورة والدته. . وها هو ذا يتعثر ليلاً على حافة الجسر الخشبي في طريقة إلى السفينة.

كان له شعر قصير، وعينان رماديتان بأهداب طويلة ووجنات بيض، وفم متجهم كأنه على وشك البكاء، وكيف تقاوم النساء غراءه؟ أن قلوبهن لتلتوي عندما ينظرون إليه. وكان خجله يزيد جاذبية حتى أن وجهه كن يتحول قرمزيا في كل مرة يقترب منه خادم المقهى، كأنه سجين هارب يعلم ذلك الخادم ماضيه.

وقالت إحدى السيدات (من هو يا عزيزتي. . أتعرفينه؟)

فقالت الأخرى! نعم أعرفه. أنه أيان فرنش، وهو رسام ماهر. أن أول من تعرفت به وهبته حنان المرأة وعنايتها. وكانت تسأله عن أهله، وما يكفيه من الأغطية على فراشه، وكمية اللين التي يشربها يوميا. ولكنها عندما ذهبت إلى داره لتلقى نظرة على جواربه، جعلت تطرق الباب دون مجيب، مع أنها تقسم أنها كانت تسمع تردد أنفاسه داخل الغرفة. ووقفت تنتظر وتنتظر. . . دون جدوى.

وقررت الثانية أن توقعه في شراك الحب. فقربته منها، ودعته بالصبي، وانحنت فوقه لينتشي العطر الفاخر الذي يفوح من شعرها، وأخذته بين ذراعيها، وحدثته عن مباهج الحياة التي لا يتذوقها إلا كل مقدام جرئ. ثم ذهبت إلى غرفته ذات مساء، وقرعت الباب ثم قرعت. . . دون جدوى.

وقالت الثالثة أن التسلية هي ما يحتاجه هذا الصبي. فذهبت به إلى المقهى والملاهي وأماكن الرقص وطفقت تذيقه الخمر. ولكن كل ذلك لم يحرك شعرة من رأسه. وثمل مرة، ولكنه جلس صامتا جامدا، كالحجر الأصم، وقد علت وجنتيه بقعتان قرمزيتان. وعندما عادت به إلى غرفته كان قد استرد وعيه، فحياها في الشارع كأنهما قادمان من كنيسة. . . وحاولت ثم حاولت. . دون جدوى.!!

وبعد محاولات عديدة يأسن منه النساء - لأن روح العطف لا تموت عندهن إلا بصعوبة - ومع ذلك فكن لطيفات معه، يدعونه في معارضهن، ويحادثنه في المقهى. وكان هذا هو كل ما يستطعن الحصول عليه منه.

واعتقد تمام الاعتقاد أنه يوجد شيء مريب مستخفياً في طيات نفسه. أنه لا يمكن أن يكون بريئا كما يظهر لهن. ولماذا تجئ إلى باريس إذا كنت تريد أن زنبقة في الحقول؟ أنهن لا يشتهين ولكن.

كان يعيش في أعلى بناء شامخ بجانب النهر، من تلك المباني التي تخالها خيالية في الليالي الممطرة والقمرية، وإذا بك لا تشتم في داخلها رائحة الخيال طوال السنة. وكانت غرفته تطل على منظر ساحر والنافذتان الكبيرتان تشرفان على الماء حيث الزورق تتأرجح وتتمايل. وكان أمام النافذة الجانبية منزل صغير يطل على سوق لبيع الزهور تظللها مظلات عديدة انسابت من شقوقها الأزهار حقا أنه لا يحتاج إلى الخروج، فهو يجدما يجتذبه إذا ما جلس بجانب النافذة، وما يجعله يمكث في غرفته إلى م شاء الله حتى لو ابيضت لحيته واستطالت.

كم تكون دهشة هؤلاء السيدات اللاتي تحدثن عنه إذا ما تمكن من اغتصاب باب غرفته؟ لقد كانت غرفته مثالا للعناية والنظافة وحسن الترتيب، فالأواني معلقة على الحائط خلف الموقد الغازي، وطبق البيض وقدح اللبن وإبريق الشاي على الأرفف، والكتب والمصباح على المائدة، والستارة الهندية المزركشة بالرسومات منسدلة على فرشه، واللوحة الصغيرة المنمقة أمام عينيه بجانب الفراش وقدكتب عليها بخط واضح (استيقظ بسرعة)

كان كل يوم عنده مثل سابقه. فعندمايغمر الضوء غرفته يستميت في عمله، ثم يطهى طعامه وينظف حجرته. ويذهب في المساء إلى المقهى، أو يجلس يقرأ ويكتب عائمة معقدة يبدأها (ما الذي يمكن عمله؟) ويختمها بقسم (اقسم ألا أزيد عن صرف هذا المبلغ في الشهر القادم. الإمضاء - أيان فرنش).

لم يكن هناك ما يدعو إلى الريبة في كل هذا، كما يدعين، ومع ذلك فقد كن على حق، لأن ذلك لم يكن كل شئ.

ففي ذات مساء كان جالسا بجانب النافذة يأكل البرقوق ويرمي بالنواة على قمة المظلات في سوق الأزهار الخالية. وكانت السماء تجود مصرا، أول مطر للخريف في ذلك العام. والبرق يلمع في كل مكان. والهواء يحمل في جوانحه شذى البراعم، وقد خفتت الأصوات التي ما زال صداها يرن في الجو القائم، واقترب الناس من نوافذهم يتطلعون إلى فعل الطبيعة، ويشاهدون الأشجار وقد بدأت تورق وتزدهر. وساءل نفسه أي نوع من الأشجار تلك التي يشاهدها؟ وأقبل العامل المكلف بإنارة مصابيح الشارع، وابتدأ في إضاءة المصباح القائم بجانب المنزل أمامه، ذلك البيت المتداعي، وفجأة كاستجابة لنظراته، فتح مصراعا نافذة وأقبلت فتاة إلى الشرفة تحمل أصيصا من الأقحوان، كانت نحيفة نحافة ملفتة للأنظار، وترتدي مئزرا قاتما، وقد عقدت على شعرها منديلا وهي مشمرة الأكمام وذراعاها يلمعان في الظلام.

وسمتها تقول (نعم، إن الجو حار وذلك. يساعد الزهور على النمو) ثم وضعت الأصيص على الأرض والتفتت إلى من تحدثه داخل الغرفة. ثم استدارت ووضعت يديها على المنديل وجعلت تنظم خصلات شعرها، وألقت نظرة على السوق الخاليةثم إلى السماء، ولكنها لم تلتفت إليه كأن المكان الموجود فيه ليس إلا خلاء وكأنه لا يوجد أمامها منزل مقام. ثم اختفت داخل الغرفة.

وسقط قلبه من نافذة غرفته إلى شرفة المنزل المقابل، واستقر داخل أصيص الأقحوان تحت البراعم التي كانت على وشك التفتح. وسمع أصوات الأطباق وهي تغسلها بعد العشاء، ثم أقبلت إلى النافذة، ونفضت ممسحة صغيرة في الهواء ثم علقتها على مسمار حتى تجف.

. . . لم يسمعها مرة تغني أو ترفع ذراعيها إلى القمر كما تفعل الفتيات. كانت ترتدي دائما نفس المئزر القاتم وعلى شعرها ذلك المنديل الأحمر. من يعيش معها؟ إنه لم يشاهدسواها بالقرب من هاتين النافذتين. ومع ذلك فكانت كثيرا ما تتحدث إلى من بالغرفة. لعلها والدتها العاجزة. ولعل والدها توفى. ولعله كان صحفيا شاحب اللون طويل الشارب أسود الشعر.

أنهما يعملان طوال اليوم ما يكفي لمدهما بالقوت الضروري ولكنهما لا يخرجان من منزلهما قط، ولم يشاهد لهما أصدقاء.

وعندما جلس على مائدته، كان عليه أن يكتب إقرارا جديداً وقسما جديداً بألا يذهب إلى النافذة إلا في ساعات معينه، وألا يفكر فيها حتى ينتهي من عمله اليومي.

كان ذلك بسيط جدا. لقد كانت المخلوقة الوحيدة التي يود أن يتعرف بها. أنه لا يحتمل الفتيات الضاحكات ولا يجديه أن يتعرف بالنساء الناضجات. لقد كانت في مثل سنه وعلى شاكلته.

وجلس في غرفته متعبا مسند ذراعية خلف رأسه، محدقا ناحية نافذتها. وتخيل نفسه موجودا معها وجعل يصفها لنفسه كما يصورها له خياله. كانت ذات طابع حاد. وكثيرا ما كانا يتشاجران في حرارة. وكانت لها طريقتها في الوقوف أمامه في عناد وغضب. ولم يشاهدها تبتسم إلا نادرا عندما كانت تخيره عن الهرة الصغيرة التي تربيها، والتي كانت تزأر كأنها الأسد عندما تقدم لها الطعام. واعتاد الجلوس بجانبها في هدوء كما يجلس الآن وقد أطبقت يديها على حجرها ووضعت قدميها تحت المقعد الجالسة عليه، وهي تتحدث في صوت خفيض أو تظل صامته، مجهدة من عناء عمل اليوم. ولم تسأله بالطبع عن عمله. وكان يرسمها في أوضاع جميلة. ولكنها كانت تكره كل هذه الرسومات، وتدعي أنها لا تمثلها مطلقا. ولكنه معذور. . . . إنه لم يتعرف بها حتى الآن. ومن يدري؟ فلعل ذلك يستغرق منه سنين طويلة.

ثم وجد أنها تخرج مساء كل خميس لتشتر حاجيات المنزل. ولاحظها خميسين متتالين وهي واقفة أمام النافذة، وقد ارتدت معطفا قديما حملت سلة في يدها. كان لا يمكنه مشاهدة باب منزلها وهو جالس في غرفته. ولكن في مساء الخميس التالي وفي نفس الوقت، اختطف معطفه وهرول خارجا.

وارتكن بجانب منزله منظرا قدومها. لم يكن لديه أية فكرة عما سيفعله أو سيقوله. ثم أقبلت مسرعة في خطوات قصيرة خفيفة. ما الذي سيفعله معها؟ إن كل ما يستطيعه هو أن يقتفي أثرها. . . ذهبت إلى البقال وأمضت هناك وقتا طويلا، ثم توجهت إلى القصاب، وجلست تنتظر دورها، ثم مكثت دهراً عند الخائط. وأخيرا قصدت إلى الفاكهي. أنه يشعر أكثر من ذي قبل بأنه يحب أن يتعرف بها لقد أحب فيها هدوءها ورزانتها ووحدتها وطريقة مشيها، ووجد فيها كل ما ينشده في امرأة.

كانت سائرة في طريقها إلى المنزل عندما رجع يلاحقها. وتوجهت فجأة إلى اللبان، ورآها من خلال النافذة وهي تشتري بيضة أمسكت بها في عناية، بيضة كتلك التي يختارها لنفسه دائما. وخرجت من الحانوت وتابعت سيرها. وجاءته فكرة. فلم يتردد في دخول الحانوت ومكث هناك لحظة. ثم حث الخطى حتى وجد نفسه يسير وراءها. وخلفت منزله عابرة سوق الأزهار مخترقة المظلات الكبيرة وهي تطأ بأقدامها الزهور المتساقطة على الأرض وزحف داخل منزلها، وصعد السلم محاولا أن يكون وقع أقدامه ملائما لوقع خطواتها حتى لا تلاحظ وجوده. وعندما وقفت بجانب الباب وضعت المفتاح في الثقب، أسرع وواجهها فالتفت إليه في تساؤل.

. . . وأحمر وجهه أكثر من المعتاد، ولكنه نظر إليها في جرأة، وقال في صوت تلوح عليه رنات الغضب المكبوت وقد علت وجهه حمرة الخجل (أرجو المعذرة يا آنسة لقد سقطت منك هذا وقدم لها. . . بيضة!!

(إسكندرية)

محمد فتحي عبد الوهاب