مجلة الرسالة/العدد 791/فلسفة التاريخ:

مجلة الرسالة/العدد 791/فلسفة التاريخ:

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 08 - 1948



وحدة الإنسانية

للأستاذ عطية الشيخ

التاريخ الإنساني ككل شئ في الوجود، يبدو لأول وهلة قطعاً متميزة، ومجموعات متباينة، مختلفاً باختلاف الأعصر والدول والحضارات والشعوب؛ ولكنه يظهر للمدقق جسماً واحداً متناسق الأجزاء، وشخصية واحدة متعاونة الأعضاء، وبنياناً يشد بعضه بعضا، ونهراً متصل المنبع بالمصب وإن اختفت أجزاؤه وأسماؤه باختلاف بحيراته وروافده. وكما أن البيت صورة مكبرة لأفراد الأسرة، والدولة وصورة كبيرة لمجموع بيوتها وأسرها، فكذلك الأرض منزل واحد لأسرة الإنسانية الكبرى، التي يؤدي فيها كل فرد من البشر ما تؤديه الخلية الواحدة في جسم الإنسان، وبتعبير آخر يقوم الإنسان في حياته بدورين. أحدهما باعتباره فرداً مستقلاً ووحدة قائمة بذاتها، وإرادة ظاهرة الاختيار. والدور الثاني يؤديه مجبراً ودون أن يشعر، باعتباره خلية من خلايا جسم الإنسانية العام، وإرادته الخفية في هذا الدور تسيرها الغرائز المركبة في طبه بالوراثة، والمتحكمة في حياته تحكماً لا يمكن الخلاص منه مهما بذل من العلاج كما يقول علماء النفس، وما أقصر أجل الإنسان باعتباره مستقلاً، وما أطول حياته باعتباره خلية في جسم الإنسانية العام المبتدئ بآدم والمنتهي فناء هذا الإنسان. وما أضعف الإنسان، وما أضيق أفقه إذا قيس بمجهوده الفردي، ومسارحه ومغانيه كفرد. وما أقواه وما أوسع منزله إذا نظر إليه في شخصيته الإنسانية الكبيرة التي منزلها الأرض كلها.

وهناك حقيقة مقررة في علم الأحياء، وهي أن كل خلية في الجسم الحي، تحمل خصائص الجسم كله ومميزاته وتحكي في حياتها وفنائها، حياته وفناءه. وأن النابتة الجديدة لجنس من الأجناس، تمثل في عمرها من وقت اللقاح إلى ما بعد الفناء، الأطوار والأدوار التي يمثلها الجنس كله من حين نشأته على الأرض، إلى وقت هذه النابتة.

ومثال ذلك: أن تاريخ الجنس البشري على وجه الأرض من نشأته إلى وقتنا هذا، تمثله في أطواره حياة فرد من وقت إخصاب البويضة في رحم أمه، إلى ان يفنى بعد شيخوخته.

ويمكن بناء على هذه القاعدة العلمية - والإنسان كائن حي - يمكن تطبيق هذه النظ عليه. فكل ما يصيب الفرد الواحد من أحداث، ينتاب الدول والجماعات، والبشرية عامة. فميلاد، وشباب، وهرم، وشيخوخة، ويسر وعسر، وشدة ورخاء. والعوامل التي تؤثر في الفرد الواحد بالغنى والفقر، والبداوة والحضارة، والضعف والقوة، هي التي تؤثر في الدول وفي البشرية عامة، هذا التأثير. وكل حادثة في شرق الأرض، لها أثر وصدى في غربها، وكل واقعة غائبة في جذور التاريخ السحيقة تتفرع وتورق وتزهر فيما يليها من العصور. ويجب على الإنسان ألا يحكم على ما يصيب عضواً من أعضائه إلا بمقدار أثر هذه الإصابة في الجسم كله من خير أو شر. فقد يبتر عضو ليسلم الجسم كله، وتتعب أجزاء لراحة البدن جميعه، وكذلك لا يصح أن يوصف ما يصيب شعوباً أو جماعات من أحداث إلا بالنظر إلى أثر هذه الأحداث في جسم الإنسان العام. وبهذه النظرة، نشعر براحة وتطامن نفس عند قراءة ما يصفه المؤرخون للدول بأنه نكبات وكوارث.

فتهدم بغداد على يد التتار، وتخرب روما على أيدي القوط، جدد شباب العرب واللاتين بإدخال دماء فتية قوية جديدة في عروق هاتين الأمتين.

والحروب المتصلة الجارفة التي لا يخبو أوارها على وجه الأرض، هي من أكبر أسباب التقدم البشري، وهي الوسيلة الفطرية للانتخاب الطبيعي بعد تنازع البقاء وبقاء الأصلح، ليضل الجنس البشري سائراً في مدارج العلا.

والنواميس الطبيعية في عدالتها وسلامة فطرتها، تأبى أن يتحرك جسم الإنسانية جميعه حركة قوية عامة، فيدركه الكلال والتعب والاضمحلال مرة واحدة. وهي كذلك تداول النشاط بين وحداتها لتقوم بدورها، ثم تستريح، ويقوم غيرها. فتضمن بذلك استمرار التقدم والرقي والاستفادة بكل ما في أعضائها من قوى، ومطارح أجزائها من خيرات. فمرة يكون العمل والقيادة لأمم زراعية في أخصب الوديان في الشرق الأدنى والأوسط، وأخرى يكلف بالدر سكان سهوب آسيا وصحاريها، وطوراً يقوم بالعمل سكان أقاصي الشرق في اليابان والصين، حتى إذا كلت الدنيا القديمة ومن عليها، كشفت الدنيا الجديدة في أمريكا، وتولت زعامة الإنسانية والسير بها للأمام.

فانظر - رعاك الله - إلى هذا التوزيع الحكيم للقيادة بالنسبة لأجزاء الأرض وأجناسها. فمرة في شرق الأرض، وأخرى في غربها، وطوراً في باردها وتارة في ساخنها، مع تبادل الزعامة بين البيض والسمر والصفر، كأنما الناس في تحركهم التاريخي شخص واحد، يشتغل باليسرى إذا كلت اليمنى، ويعتمد على اليمين إذا تعبت الشمال.

وهناك ناموس آخر يسري على الجماد، يمكن تطبيقه على الجنس البشري، وهو قانون التجميع والتفرق.

فالسديم الشمسي يتفرق بالانفجار ويرتبط بالجاذبية. والبخر يرفع الماء سحاباً، والبرد والجاذبية يسقطانه أمطاراً، والحياة تؤلف بين العناصر، والفناء يفرق بينها.

أقول إن ناموس التجميع والتفريق، يجب ألا يغيب عن بحاث علم الاجتماع. ففي الإنسان دوافع انفصال واستقلال تنبع منها الأنانية والتعصب للأسرة، والوطن، والقبيلة، والدولة: وهي أدواراً يمثلها كلها باعتباره فرداً مستقلا، ووحدة قائمة بذاتها، وفكراً مختاراً. وفيه دوافع خفية للترابط والامتزاج والتكتل والاتحاد يؤديها رغم أنفه بما ركب فيه من غرائز باعتباره خلية في جسم الإنسانية العام. فهو بحسب فكره حين يفتح قطراً من الأقطار، يخدم نفسه أو وطنه أو شعبه بتوسع الملك والتسلط على الغير. ولكنه في الواقع، وبالنسبة لسير الإنسانية العام، يسد فراغاً، وينهض نياماً، ويجدد شباباً، ويصل منقطعاً في جزء من أجزاء البشرية.

عطية الشيخ