مجلة الرسالة/العدد 792/القصص

مجلة الرسالة/العدد 792/القَصَصُ

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 09 - 1948



الانتظار

للكاتبة الأمريكية سنزي أورموند

لقد أخبرها بأنه سيعود إلى الديار بعد انتهاء الحفلة قبيل منتصف الليل. ولكن الساعة الصغيرة القائمة على المنضدة كانت تشير إلى الواحدة صباحاً. إنه لم يسبق له أن تأخر مثل هذا التأخير تأخر وحيداً وبدونها.

ورقدت تحت الأغطية في فراشها قلقة مضطربة. كانت مجهدة من العمل. وكانت كل حاسة فيها تصيح بها أن استريحي ولا تقلقي كل هذا القلق على ولدك لقد بلغ السادسة عشرة. إنه الآن ليس طفلاً.

وتذكرت. . . لقد ذهبت مرة في صباها إلى النزهة ولم تحضر إلا ليلا. وعندما عادت ورأت الستار القاتم على نافذة غرفة الجلوس ينسدل ارتبكت واضطربت. إن والدتها كانت تتطلع خلال النافذة تترقب عودتها في قلق ولهفة. إنها لا تزال تذكر كلمات أمها وهي تقول لها (انتظري يا عزيزتي وستشريني في يوم ما على شدتي نحوك). ولكنها كانت في سن السادسة عشرة ولم تكن لتعي معنى لهذه الكلمات، ولا لما قالته والدتها بعد ذلك (أنها ليست كمسألة عدم الثقة بك، ولكن كثيراً ما تقع الحوادث بين أطيب العائلات في هذه الأيام).

ولا تدري لماذا كانت تهيجها هذه النصائح عند بلوغها هذا السن الذي أدركت فيه الشعور بالحرية الشخصية. ذلك الوقت التي بدأت تخفي فيه بعض أسرارها، وتشعر بأنها تخصها وحدها، تخص عالمها التي تعتقد أنه ملك لها.

ولكن. . . كانت والدتها تتدخل في كل شؤونها، فتفتح رسائلها قبل أن تعود من المدرسة. إنها لا تلومها على رقابتها، ولكنها ليس لها حق فض رسائلها، إن التدخل فيما يخصك في هذا السن هو إهانة لا تغتفر، ولا يصح أن يحدث ذلك لأولادك كل ما تستطيع عمله هو أن تراقب فقط، وعندما يكبرون ويقبلون على الزواج.

نعم، لقد اكتمل نضجها وتزوجت، ثم ترملت بعد عامين، وها هو ذا ولدها قد نما عوده ووصل إلى أول مرحلة الشباب. إنها لم تفكر قط في الاطلاع على رسائله كلا، إنها لن تتهم بذلك الفعل، ولكنها الآن راقدة في فراشها مغمضة العينين، وقد انسابت روحها تختر ستار النافذة وتتساءل: لماذا لم يحضر؟ وما الذي حدث له؟ وعزمت على أن تسأل عنه في المستشفيات وفي أقسام البوليس إذا لم يعد بعد نصف ساعة. . . من يدري؟ فلعله راقد الآن في غيبوبة، أو ملقى في حفرة وقد سلبت منه ساعته اليدوية التي أهدتها له في عيد ميلاده الأخير والخمسة دولارات التي في جيبه، إن الكثير من الحوادث أحياناً ما يقع بين أطيب العائلات! وطاف بفكرها خاطر مزعج، إن على ولدها أن يعبر تلك الشوارع التي يجتازها سائقو السيارات، بعرباتهم غير مبالين بنظام المرور في ذلك الوقت المتأخر من الليل، وودت في تلك اللحظة لو أنها كانت تعيش في الريف بعيداً عن هذه السيارات. . .

وهبت واقفة وأقبلت على النافذة تتطلع إلى الشارع. يا إلهي ما هذا الضباب المخيم في الخارج؟ كان يتكاثف واستقر في صمت وسكون. وتركت طرفي الستارة، ثم زحفت داخل الأغطية في عصبية. وحاولت أن تسيطر على أعصابها، وأغمضت عينيها. ولكن. . سرعان ما فتحتهما عند سماعها صوت أقدام تدب خفيفاً على إفريز الشارع. حمدا لله ها هو ذا قد قدم.

وترددت الخطوات، ثم سمعت بابا يفتح. لم يكن باب شقتها بل كان باب جارها الكهل. ثم سمعت صوت سيارة الإسعاف فهبت من فراشها بقلب واجف، كانت تسمع رنين جرس السيارة كأنه العويل، وسرعان ما تلاشى الصوت تدريجياً واختفت السيارة.

وأقبلت على النافذة مرة أخرى وتطلعت، وإذا بولدها قادم صوب المنزل، يسير وقد انعكست عليه أنوار الشارع. نعم إنه هو ولا يمكنها أن تخطئ مشيته وحركاته. كانت ساقاه الطويلتان تخطران في خطوات متسعة نحو الدار، وكان يصفر لحناً شائعاً، وكتفاه يتمايلان في حرية وكأنه يقول: (إن هذا هو عالمي. . . أنني رجل وهذه دنياي). وشعرت بالغضب يعصف بها، ثم بالحزن ينتابها، كانت تود أن تشاركه ذلك الشعور بالحرية، ولكن قلقها عليه حال بينها وبين ذلك. وتبين لها حقه في السير، لا في هذا الشارع الذي تحفه الأشجار فحسب، بل في الأزقة المظلمة والأماكن الأخرى، بل حتى في الأركان المظلمة من عقله. إن وجوده معها تحت سقف واحد لا يعطيها الحق في امتلاكه امتلاكا كاملا. وليس لها حق مشاركته أفكاره إلا إذا اضطرتها الظروف اضطراراً. إن الرجل له حق العيش في عالمه الخاص. وإذا سمت أفكاره حتى وصلت إلى الأشجار التي يسير تحتها وإذا ما جعلته يصفر مسروراً، إذاً لوجب عليها أن تكون سعيدة من أجله. ومع ذلك. . . كان في استطاعته أن يخبرها تليفونياً. وعادت إلى فراشها وتنفست في هدوء عندما أقبل ولدها، وحياها في مرح وهو واقف على عتبة غرفتها وقال (لقد ظننتك نائمة إن الساعة الآن حوالي الثانية). كان يشوب صوته نبرات من الحماس. وتمطت ثم مسحت عينيها وتمتمت قائلة.

- يغلب على ظني أنى نمت وتركت النور مضاءاً دون أن أطفأه. مساء الخير يا عزيزي. ثم مدت يدها لتطفئ النور. ولكن ولدها تقدم في الغرفة ووقف أمام فراشها ينظر إليها، ثم قال

- أظنك لم تسمعي ما قلته. إنها الآن الساعة الثانية صباحاً.

وتظاهرت بالدهشة ثم قالت - نعم إنها الثانية. حسناً. . . ليلة طيبة يا بني. ونظر إليها مستغرباً ثم قال - ألست عاتبة على؟! فتثاءبت وقالت - ولماذا أعتب عليك؟

- ولكنى قلت إني سأعود قبيل منتصف الليل. إني آسف إذا كنت قد أقلقتك. وأظن أن جدتي قد رفعت عقيرتها حتى السقف. إنه لا فائدة من إخباره الآن أن جدته قد رحلت غاضبة بعد أن يأست من التحدث معها عن (طيشه وتأخره) فقالت - لم أكن قلقة على الإطلاق: - هذا حسن. كان يجب على أن أخاطبك تليفونياً، ولكن. . . ما الأمر؟! هل الضوء قوى؟! وأنزلت عينيها عن موضع أحمر الشفاه الملطخ به خده وقالت في بطء أجل. . . إنه الضوء. . . وضغطت على أداة إطفاء النور، وغمر الليل الهادئ الغرفة. إنها لن تر أحمر الشفاه في ذلك الضوء. كانت تعرف بأنه لو كان عنده ما يقوله لها هذه الليلة فأنها لا ترغب في أن تفرض عليه القول فرضاً كأنه واجب يتحتم عليه أداءه. إنه ليكون أقل ارتباكا إذا ما اعتقد بأنها لم تلحظ هذه البقعة الحمراء. ولكنها كانت تشعر في قرارة نفسها أن ما شاهدته لم يكن سوى نصف الحقيقة. وكانت غريزتها تهيب بها أنه يتحتم عليها أن تنتظر حتى يطلعها على النصف الآخر، أو. . . أو يفضي إليها بالأكذوبة التي تخشاها. فقالت: (هل هناك فتيات في هذه الحفلة الليلة؟). انساب ذلك السؤال منها دون أن تتمكن من كتمانه، وانتظرت في لهفة الرد عليه، وخيل إليها أنه أبطأ في الرد كثيراً عندما قال: (كلا. . . كلا). ولم ينظر إلى عينيها عندما استمر يقول: (لم يكن هناك ألا رفقائي. . . ولكن. . . يوجد شئ آخر أود أن. . .) فقاطعته قائلة وهى تحاول الاحتفاظ بهدوئها: ليس الآن يا عزيزي. . في الصباح. فتمتم قائلا: حسناً ثم استدار وسار صوب الباب وأقفله وراءه في هدوء، وجلست في فراشها متصلبة الجسم حزينة القلب، لقد كذب عليها أولى أكاذيبه، أكانت هي الأولى حقاً؟ كم عدد الأكاذيب التي سبقت هذه الكذبة؟ وشعرت برغبة جارفة تدفعها إلى القفز من الفراش لتواجهه بخديعته وتقول له: التفت إلى. ثم ماذا؟ إنها تشعر بأنه لا فائدة من مواجهته، إنه ليكفى أن تنظر إلى وجهه، فيحدق إليها بطريقته المحبوبة، وإذا بشيء ينغلق خلف تلك العينين الرماديتين.

إن خوفها كان أكثر من ألمها، خوفها من أن تكون أمها على حق، ربما كان ولدها في حاجة إلى المزيد من الرقابة. وشعرت برجفة تسرى في جسدها، كان يجب عليها أن تواجه كل شئ دون موارية. وسمعته يتحرك في الحمام وهو ينظف أسنانه ويخلع حذاءه، ثم سمعت الماء يجرى على جسده، ووقع خطواته على الأرض، ومسح جسمه بالمنشفة، ثم خرير الماء المتساقط من الصنبور. كان له وقع غريب في أذنيها كأنه صوت لحن موسيقى واستمر الماء يتساقط. هاهو الآن في المطبخ يبحث عما يأكله كان يحاول ألا يحدث صوتاً حتى لا يقلق نومها. وانطفأ النور في المطبخ ولما تزل جالسة في فراشها، ثم استمعت إلى وقع خطواته تتلمس طريقها في الظلام وهو يسير في البهو وفى غرفة الجلوس، إن هذه الأصوات العادية كانت كأنها تجمع في ذاتها سر الحياة ربما كانت غير عادلة نحوه، يجب أن يكون هناك شرح مقبول لهذا الطلاء الأحمر، واستمعت مرة أخرى إلى خرير الماء التساقط وخيل إليها أن نغماته قد اختلفت عن ذي قبل. ومرت بيدها على وجهها، لقد فشلت في أداء مهمتها كأم، إن والدتها على حق، لو كانت قد تعهدت ابنها كما نصحتها لما كذب عليها الآن، إنه لم ينو الذهاب بتاتاً إلى تلك الحفلة، لقد حاول أن يخبرها بشيء الليلة، ولكنها لم تحتمل الاستماع إليه. وسمعت همساته صادرة وراء الباب تقول: (ألا زلت مستيقظة؟) فقالت: (ادخل) ربما كان من الأفضل لها أن تعرف كل شئ الليلة، وأقبل عليها وهو يحمل زجاجة قد امتلأ نصفها باللبن، وجلس على المقعد الكبير، ها قد حان وقت الاعتراف، وجعل يرتشف اللبن ثم قال فجأة: (لقد تركت الحفلة مبكراً. كان ذلك عند الساعة الثامنة. . .). فقاطعته قائلة: يا عزيزي. . . يخيل إلى أنى أسمعك وكأنك جالس تؤدى شهادة في المحكمة. كلا. لا أود فقاطعها قائلا وهو ينظر إلى وجهها وقد تدفقت الكلمات من فيه: (الحقيقة أنى خرجت مع فتاة، وأكنى لم أرغب في أن أطلع أحداً على ذلك) ونظرت إلى ولدها، كان في وجهه البراءة ونضارة الشباب، إن ألم الوضع لم يكن الألم الوحيد للأم، إن مهمتها تنحصر في شيئين: أن تكون أما وأن تكون أباً. وها قد حان الوقت الذي يجب أن تؤدى فيه مهمتها على الوجه الأكمل، والذي يجب أن تدرك فيه دون مرارة بأنه إذا توجهت نظرات ولدها إلى حقيقة الشباب، فإنها يجب أن تودع صباه. واصطبغ وجهه بحمرة الخجل وهو يقول: (كانت تنتظرني مع أبويها، وذهبنا معاً، وكنت على وشك أن أخاطبك تليفونياً، إلا أنى لم أستطع الاتصال بك). ثم وضع الزجاجة على المنضدة ونهض وقبل والدته. وحياها تحية المساء. وعند ما اقترب من الباب تردد ثم قال أظن أنى ارتكبت غلطة واحدة، لقد قلت لوالدتها (نعم يا سيدي) فابتسمت وقالت (لا تفكر في ذلك. وعلى فكرة يا حبيبي إذا كانت قد أخلفت الميعاد فما الذي كنت تفعله؟) وفكر لحظة ثم قال (لا أعلم. أظن كنت سأقول لنفسي (حظ عاثر) ثم أترك الأمر يقف عند هذا الحد. ألا تعلمين أنها ستقابلني لأعرفك بها وبوالديها؟ على أية حال أظن أنى عملت كل شئ على ما يرام، أليس كذلك؟) فابتسمت وقالت في إخلاص) أجل، لقد قمت بكل شئ على الوجه المرضى) وذهبت وجلست يغمرها الضوء وهى تبتسم لنفسها. نعم لقد أدى كل شئ على الوجه الأكمل. إنه لم يحدثها عن القبلة. هذا حسن. إنها فخورة به. لقد أصبح رجلا مهذباً. ثم أطفأت النور واستقرت في فراشها في رضاء تام. لقد انقطع خرير الماء. وأسفت على ذلك. كان في الحق صوتاً مبهجاً.

(الإسكندرية)

محمد فتحي عبد الوهاب