مجلة الرسالة/العدد 792/من ذكرياتي في بلاد النوبة:

مجلة الرسالة/العدد 792/من ذكرياتي في بلاد النوبة:

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 09 - 1948


12 - من ذكرياتي في بلاد النوبة:

الحالة الاجتماعية

للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود

يعيش أهل النوبة عيشة بسيطة لا تركيب فيها ولا تعقيد، فحياتهم أشبه ما تكون بحياة أهل الريف، إلا أنها غير دسمة، فليس فيها الطيور المختلفة والحيوانات السمينة، بل الطيور لا تكاد تجد بها غير العظام والريش، والحيوانات عجاف، لا يكاد يشارك العظم والجلد شئ من اللحم!.

وأكثر الأهلين يشتغلون بالزراعة المحدودة المساحة طول العام، والتي يبدأ موسم اتساعها غالباً في شهر مايو من كل عام، إذ تنخفض مياه النيل، فتنكشف الأرض التي غمرتها مياه الخزن، فيزرع الأهلون هذه الضفاف التي كانوا يملكونها قبل التعلية الأخيرة، والتي أعطتهم الحكومة تعويضاً عنها، ولا يكادون يتركون منها شبراً بغير زراعة.

وتجود زراعة الحبوب من القمح والذرة والشعير وبعض الخضر والبقول، إلا أنه تكثر زراعة نبات (الكشر نجيج) وهو نبات يشبه الفاصوليا أو اللوبيا في شجيراته وثماره. ولهذا النبات قيمته الغذائية الكبيرة، لأنهم يأكلون ثماره، ويتخذون أوراقه وسيقانه غذاء أساسياً لدوابهم ومواشيهم، والسعيد منهم من يدخر من هذا النبات كمية كبيرة تكفي مواشيه طوال مدة الشتاء، حين تمحل الأرض وتجدب وتجف الأوراق ولا تكاد تجد في هذه المنطقة على ضفاف النيل خضرة، إذ تغطي مياه الخزن جميع الأرض، ويبدو النخيل غارقاَ في النيل كأنه يحتضر ويستغيث!.

وقد قامت وزارة الأشغال بإنشاء مشروعات للري، فأحيت بهذه المشروعات الآلية آلاف الأفدنة ووزعتها الحكومة على بعض النوبيين الذين رغبوا في شرائها ممن ذهبت ميان الخزن بأراضيهم، وهي تستغل الآن أحسن استغلال، وتكاد تقوم بتموين بلاد النوبة في كثير من الأغذية الضرورية، وبخاصة بلانة، والعلاقي، والدكة، حيث تعطي هذه الأرض أجود المحاصيل. وتمتاز هذه المشروعات بالري الدائم والزراعة طول العام دون ارتباط بارتفاع النيل أو انخفاضه، ولا بانكشاف الأرض أو انغمارها. وقد جذبت هذه المناطق الزراعية شباب النوبة إلى حد ما لكثرة ما تتطلبه من الأيدي العاملة والجهود المتعاونة، يزال الكثيرون موزعين في القاهرة والإسكندرية وغير ذلك من مدن القطر، ويرسلون إلى أهليهم بعض ما يكفيهم من المؤن والنفقة، ولهذا يكثر النساء والأطفال والشيوخ في البلاد كثرة تفوق الحد وتسترعي النظر والاهتمام، وتتجسم هذه الظاهرة بوضوح عندما يحل فصل الصيف فيسافر تلاميذ المدارس الابتدائية والقسم الثانوي في عنيبة إلى ذويهم وأولياء أمورهم في شتى مدن القطر، فلا يكاد يقع نظرك حينئذ على شاب أو صبي!.

وما أحوج النوبة إلى أيدي أبنائها الذين هجروها ولا يزورونها إلا في النادر القليل، ولا يكاد يمكث الواحد منهم أكثر من بضع ليال، أو بضعة أيام، ريثما تعود الباخرة التي جاءت به لتحمله مرة أخرى إلى الشلال، حيث يتمتع في مكان عمله بما لا يجده في وطنه الأصلي من متع ولذاذات. . .

أجل، ما أحوج النوبة إلى أيدي شبابها وسواعدهم وبخاصة في هذه الأيام التي تتجه فيها الحكومة المصرية إلى تنفيذ المشروعات النافعة التي تجعل من هذه المنطقة جنة وافرة الظلال دانية القطوف تمسح عن أهليها كل ما قاسوه من آلام جسام، وأهوال عظام، في سبيل رفاهية مصر وسعادة أبنائها وزيادة ثروتها وكثرة خيراتها عن رضا وإيمان بحق الوطن في التضحية والإيثار!!.

والمالكون قليلون، فأكثر الذين أخذوا التعويض من الحكومة أنفقوه على أنفسهم وملاذهم، أو في بناء بيوتهم التي أغرقت هي الأخرى لانخفاضها عن منسوب التعلية الأخيرة، وكان الأجدر بالحكومة أن تعوضهم بدلاً من أرضهم التي انتزعت منهم أرضاً مستصلحة معدة للزرع والنتاج. . .

وفي النوبيين أناس على درجة من الفطنة والذكاء والميل للأعمال الحرة، وقد قام هؤلاء بتكوين شركات زراعية وجلبوا لها أحدث الآلات الزراعية على اختلاف أنواعها مما تقوم باستصلاح الأراضي البور وحرثها وريها وإعداد الغلات وغير ذلك.

وتكثر في بلاد النوبة بعض الصناعات اليدوية الصغيرة كصناعة الأطباق والحصر والسرر من الخوص والقش والجريد، ويتجلى فيها الذوق الفني السليم ودقة الصنع، ويقوم بهذه الصناعات في الغالب النساء والفتيات في بيوتهن، وتعني الحكومة الآن بدراسة هذه الناحية بواسطة بعض مبعوثيها لإدخال بعض الصناعات الصغيرة التي تناسب البيئة وتشجيعها لتنمو وتكبر عن طريق المصانع الصغيرة أولا في البلدان المزدحمة بالسكان والتي تكثر فيها الأيدي العاملة، ويشرف عليها موظفون مختصون مهمتهم أولا تعليم أكبر عدد ممكن من الأهلين بنين وبنات، ولكن المشكلة القائمة الآن هي صعوبة المواصلات بين هذه البلاد بعضها وبعض، وعسى أن تحل هذه المشكلة وتذلل هذه العقبة حتى تسود هذه المنطقة صيغة صناعية ويجرفها التيار الصناعي، وبخاصة حينما تكفيها كهربة الخزان مؤونة الوقود، وتتكشف للناس كنوزها الدفينة من ذهب وقصدير وحديد.

والبيت النوبي على درجة كبيرة من النظافة وحسن التنسيق تلمس النظام في كل ناحية من نواحيه ورجو من أرجائه، سواء في ذلك بيت الغني والفقير، والفرق بينهما في بناء البيت نفسه ومواد البناء، فبيت الغني متسع رحب مبني بالحجارة من الجبال المحيطة به متعدد الحجرات، وبيت الفقير في الغالب من الطين، وسقفه من جذوع النخيل وسعفها، ولكنه مع ذلك يشرح الصدر ويملأ القلب راحة وطمأنينة وهدوءاً، ومن جذوع النخيل وسعفها يسقف الغني بيته كذلك، إلا أنه يطلي السقف بطلاء ملون، ويزخرفه زخرفة فيها كثير من العناية والمبالغة، بحيث يبدو كقطعة فنية جميلة من أجود أنواع الأخشاب، عملت فيها اليد الصناع عملها، حتى أصبحت تستهوي العقول وتجذب الأنظار.

وتعجب لهذا الذوق السليم في كيفية البناء نفسه، فالبيوت بوجه عام تتكون من طابق واحد ذي فناء واسع، ومن النادر أن تجد بيتاً من طابقين، وحول البيت بناء قصير بارز يشبه المصطبة في ريفنا ويستعمل استعمالها. . . وشكل البيوت من الخارج هرمي تقريباً، وبالغرف فتحات صغيرة مستطيلة ومثلثة قرب السقف الغرض منها التهوية الدائمة، وحجرة الجلوس واسعة مستطيلة قد يبلغ طولها في بعض البيوت أثنى عشر متراً، والأبواب والنوافذ تدهن بألوان زاهية جداً، وقد يكون لبعض البيوت الكبيرة شرفات مسقوفة في الغالب لاستقبال الأضياف والترويح عنهم، ويزخرف المنزل من الخارج بأطباق الصيني الملونة تغرس في البناء نفسه بشكل منظم جميل يراعى فيه التناسب، كأنما وضع تصميمه مهندس معماري بارع، وقد يستغني عن الأطباق الصينية بقوالب من الطوب توضع بشكل بارز بحيث تكون أشكالاً هندسية دقيقة، فمن دوائر وأقواس إلى مستطيلات ومربعات ومثلثات وزوايا، مما يزيد البيت روعة وجمالا، وفي ناحية الشلال حيث تقل الزراعة ويقل النخيل يجعلون سقوف بيوتهم على شكل القباب. ولا تكاد تجد لبيوتهم أفنية إلا في النادر القليل، وعلى العكس من ذلك المنطقة الجنوبية إذ لا يكاد يخلو بيت من فناء رحب. . .

وأثاث البيوت في العادة هو (العنجريب)، وهو سرير من الخشب والجريد توضع فوقه حشية إذا كان معداً للنوم، أو السجاجيد العجمية الفاخرة إذا كان معداً لجلوس الأضياف، ولا بد من وجود هذه السجاجيد في كثير من البيوت، سواء منها بيت الغني والفقير.

وفي كل بيت الأطباق الصينية والملاعق والأكواب المختلفة بكثرة عجيبة، وهي في الغالب من الأنواع الغالية الثمن، بحيث إذا أعدت المائدة لضيف ما، لا يشعر أبداً أنه في غير القاهرة، بل وفي بيت يهتم بهذه الأدوات ويجعلها في مقدمة ما يعنى به!.

والنوبيون يبالغون في إكرام الضيف، وأول ما يقدمونه له (الفشار) وسط طبق من الخوص وحوله البلح الجاف، فيأكل الضيف من هذا وذاك، ثم يقدم له الشاي، حتى إذا جاء الموعد قام إلى مائدة لا تختلف في تنسيقها ونظامها وما حشد فيها من أنواع اللحوم والطيور والحلوى عن موائدنا الحافلة وولائمنا الفاخرة، وكأنما هيّ هي!.

وإذا كانت بيئة العربي دفعته إلى الكرم والإيثار والبذل عن طواعية ورضا، فإن بيئة النوبي الجافة القاسية، والجرداء المالحة في أكثر أيام العام دفعته إلى العطف الشامل والحب المتبادل لأفراد بيئته الذين يعتبرهم منه بلا خلاف يؤثرهم على نفسه ويخصهم بالنعمة دونه. . . فإذا أقبل المساء خرج من كل بيت ما فيه، واجتمع أهل النجع وتناولوا جميعاً عشاءهم في هدوء واطمئنان، ولا يضير المعدم والحالة هذه ألا يجد ما يخرجه أو يأتي به، بحيث يصيب كل واحد ما يسد جوعته، فلا يبقى من يشكو ألم الجوع أبداً. . .

وذوو المراكز السامية من النوبيين عندما يذهبون إلى بلادهم يتركون في القاهرة ألقابهم وأوسمتهم، ويلقون إلى حين رداء المدنية الخلاب، لأن هذه لا يجوز في شرعة أهليهم وذوي قرباهم الذين لا ينادونهم مهما ارتفعت مكانتهم وسمت منزلتهم بأكثر من أسمائهم المجردة في بساطة وسذاجة بلا تعمل أو تكلف والجميع هناك أهل وأقارب وأولاد عمومة وأبناء خئولة، لا فرق بين الكبير منهم والصغير والعظيم والحقير. . .

وللنوبيين جميعاً ولع بشرب الشاي المركز، فهم لا يشربونه إلا بعد أن تلقى في الماء كمية كبيرة ويغلي مرات ومرات بحيث يكون في النهاية أسود اللون مر المذاق، ولهذا فإن للسكر هناك سوقاً سوداء، بحيث تباع الآفة منه بخمسة وعشرين قرشاً أو ثلاثين أحياناً، وهم معذورون لأن الشاي يقوم عندهم مقام الفاكهة التي لا توجد هناك إلا نادراً. . .

وبعد، فهذه صورة عاجلة عن الحياة الاجتماعية العامة في مجموعها، وهناك نواح كثيرة في حاجة إلى الإفاضة والبحث، ولكن ليس هذا موضعها لحاجة كل ناحية إلى الإفراد بالحديث وعسى أن نوفق إلى هذا إن شاء الله.

عبد الحفيظ أبو السعود