مجلة الرسالة/العدد 793/الاتجاهات الحديثة وظهور الإسلام:

مجلة الرسالة/العدد 793/الاتجاهات الحديثة وظهور الإسلام:

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 09 - 1948


2 - الاتجاهات الحديثة وظهور الإسلام:

القانون والمجتمع

للأستاذ هـ. ا. ر. جب

من وجهة النظر الدينية الحديثة للمعارضين في أضيق معانيها، نتجه نحو الغايات الاجتماعية للنهضة الإسلامية. لما كانت التقاليد والأوضاع الاجتماعية والقانون - في الأصل - مظاهر للنظام الدينى في الإسلام، فإن كل هذه المسائل ترتبط بالفقه الديني إلى حد أكبر مما هي عليه في حضارتنا الغربية. وعلى ذلك فأحدث التيارات الفكرية حول هذه المسائل، تفيض في جدولين مختلفين يمكن تمييزهما - ولو نظرياً على الأقل -: جدول الإصلاح، وجدول المعارضة. بيد أنه من الناحية العلمية، يصعب أحياناً أن نقرر ما إذا كان ما يتراءى لنا معارضاً، ليس حقاً مجهود خداع تجاه الإصلاح؛ وفكرة للدفاع عما يؤكده الكاتب من أنه رأى الإسلام الأصل) في الشئون الاجتماعية.

وكثيراً ما يوصف الإسلام بأنه دين عام شامل؛ ولكن جميع الأفكار الدينية التي شكلت النظرة الخيالية والعقلية في ذهن الإنسان، وقررت الأعمال الإرادية الإنسانية، تميل إلى أن تكون شاملة. فهي يجب أن تعمل على أن تسير قواعدها على مختلف نواحي النشاط الاجتماعى، لكى تسيطر على الحكومة. وعلى هذا الأساس فالدين اليهودي عام، وكذلك المسيحية. ولئن نسينا ذلك فإنما نفعل لأن المسيحية منذ فجر حياتها، كانت مضطرة إلى قبول السلطة والقانون الروماني؛ ولأنها - عند ما كان يظهر أنها على قاب قوسين أو أدنى من النصر، في كفاحها المرير مع نظام الإقطاع في العصور الوسطى - كان عليها أن تتحمل صدمات عدوين جديدين هما: الإنسانية والعلم. والعلم نفسه آخذ في الاقتراب من الانقلاب إلى فكرة التعميم، بعد أن حطم معارضة الدين، وذلك باتحاده مع الإنسانية وارتباطه بالتحرر الاقتصادي. وإذا حكمنا بطلائعها في ألمانيا والروسيا، فإن التعميم العلمي يعمل على إيقاع العالم في مأزق ضيق، شديد وصعب، بعيداً عن كل شئ، إلا ما جربه الجنس البشرى.

وبالمقارنة نجد أن التعميم (الشمول) في العقيدة الدينية طريق سهل واضح. فمهما تكن عليه السلطات الدينية من غفلة، فإنها على الأقل تعرف قيمة الفرد وشخصيته، فتكفل له قدراً معقولا من الحرية. وفى الإسلام كان لهذه الحرية حد بعيد، يزيد بعداً بفقد التنظيم، وغياب القيادة، ولكنها - كما في كل النظم العامة - تحاول أن تتحكم أو تمنع انتقال (الأفكار الخطرة) وانتشارها.

وإنه لجدير بنا أن ننظر نظرة فاحصة في أثر مبدأ (الأفكار الخطرة) خطرة على من؟ على نستقبل الفرد؟ وإذا رأى الإنسان - بعد كل شئ - أن يخاطر فيما يجلب له العقوبة الأبدية في جهنم، فإن هذا هو شأنه الخاص. أم خطرة على تنقية المعتقدات وخلاص المجتمع الذي يكون في خطر السوء؟ ربما! ولكن هذا إجماع ضئيل في مجتمع ينظر إلى (الإجماع) كما ينظر إلى التنظيم الطبيعي. ولكن الاختلاف في المعتقدات قد يؤدي إلى الانقسام والقتال، وهذا هو بيت القصيد. ولقد جرى العرف على أن المجتمع لا يمكن أن يكون ثابتاً غير مزعزع، إلا إذا كانت الأخلاق شائعة فيه؛ تنشرها عقيدة دينية صارمة، ولن تصبح الأخلاق ثابتة راسخة إلا إذا كانت العقيدة الدينية في حرز حريز من المؤثرات المعادية للإيمان وخالصة منها، إذن فليست صيانة الأخلاق بأكثر أهمية من تثبيت المجتمع فحسب، بل إنها الحالة الوحيدة التي يستطيع أن يتقدم في ظلها المجتمع نحو الطريق المستقيم؛ مثلا نحو مرتبة عالية من التكامل الاجتماعي، وحياة أكثر ملاءمة للفرد.

أي أن نوع المجتمع - الذي تشيده الجماعة لنفسها - يعتمد أساساً على معتقداته مثل طبيعة الكون وغايته، ومكانة النفس الإنسانية فيه. وهذا اعتقاد طبيعي يتكرر في الكنيسة أسبوعاً بعد أسبوع. ولكن الإسلام هو الدين الوحيد الذي رمى على الدوام إلى تشييد. مجتمع على هذا المبدأ، وكانت العدة الأساسية لهذا الغرض هي القانون. و (علم القانون) - على حد تعبير أحد المفسرين المسلمين المشهورين - (هو معرفة الحقوق والواجبات التي تمكن الإنسان من أن يبصر الأحوال الصحيحة في هذه الحياة، وأن يعد نفسهُ للعالم الآخر.)

وبعكس الحال في القانون الذي ورثه العالم المسيحي عن روما، نجد القانون الإسلامي يرعى العلاقات بجميع أنواعها، مع الله ومع البشر. ويشتمل على أمور كثيرة، مثل تأدية الواجبات الدينية ومنح الصدقات (أداء الزكاة)، وكذلك النظم المنزلية والمدنية والاقتصادية والسياسية. وهو بجوهره وطبيعته وغرضه متعلق تماماً بالمثل الدينية. والواقع أن الأحكام الخلقية تعني بالحقائق الظاهرية لفعل وقع أقل من عنايتها بالعواطف والغايات. وأن أي قانون وضعي ينبغي بوجه عام أن يهتم بالحقائق الخارجية. ولكن الروح والقواعد النهائية واحدة في كل، فكلاهما يرفض الجدل الذي يرى صحة أفعال بعينها بسبب نتائجها الاجتماعية، حتى ولو كانت نتائج مرغوباً فيها. وقد تبع ذلك أن القانون الإسلامي لم يكن معتبراً - مثل القانون الروماني والحديث - أنه الخلاصة التدريجية لتجارب الناس التاريخية. وإن أولى مظاهرة هي ترتيب الأعمال في مستويات مطلقة للخير والشر، وما تثبيت العقوبات لأحكام المستوى سوى مسألة ثانوية.

إن المستوى الصحيح للخير والشر ليس بالشيء الذي يمكن أن يتحكم فيه عقلياً. ولقد رأينا في الفصل الأول، كيف أن العقلية الإسلامية رفضت كل تلك النظريات العامة التي تخرج منها بمستويات مطلقة. وكانت الوسيلة الوحيدة التي يمكن معرفتها بها هي العلانية. إذ أن الله وحده هو الذي يعلم ما هو خير أو شر مطلق. ولذلك كان النظام القانوني في الإسلام يبدأ مع القرآن، ويتطور جنباً إلى جنب - وبنفس الطريقة - مع التنظيم النظري. إن الأمثلة الموجودة في القرآن أو التي استخرجت منه، قد اكتملت بسنة النبي السائدة، وأتمها الإجماع الثابت للمجتمع. وإن المذاهب الأربعة: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، مذاهب قانونية، أكثر منها دينية، ثم إن الجماعات التي تعنى بالنظريات، قد شيدت نظمها على خطوط متشابهة.

ولسنا هنا في حاجة إلى أن نتعمق كثيراً في مبادئ هذه النظم القانونية وأساليبها، فإن أهم ما يعنينا، هو أن نحيط علماً بقيمة التأثير المتبادل بين القانون الإسلامي والمجتمع الإسلامي. فكل تنظيم يفترض - بادئ بدء - أن هؤلاء الأشخاص الذين يعمل لخدمتهم يرغبون في قبول سلطانه، ويفهمونه على أنه محيط بهم - حتى ولو خاطروا من حين إلى آخر - وتعدوا حدوده. إذن فقبول القانون الإسلامي كان مترتباً على قبول دين الإسلام. وقد دخل في دين الإسلام عدد كبير من الشعوب التي كان لكل منها تراث اجتماعي شرعي. وباتخاذها الإسلام ديناً لها، قبل أعضاء هذه المجتمعات مبدئياً سلطان القانون الإسلامي.

ومهما يكن من شئ فإن من الواضح أنه ليس من السهل القضاء على التراث الاجتماعي العتيق. وقد كان على زعماء الدين في الإسلام - في الواقع - أن يكافحوا في سبيل توسيع مدى السلطة الأصلية للفقه الإسلامي، ونشره بين هؤلاء الناس. وقد لاقوا في هذا الكفاح حظاً موفوراً من النجاح؛ على الرغم من أنه لا تزال هناك جماعات - مثل البربر في شمال غرب أفريقيا - غالبيتها مسلمة في الشعور، بيد أنها حافظت على قانونها التقليدي أمام كل مجهودات العلماء. وقد أفلح العلماء - إلى حد نجاحهم في فرض القانون الإسلامي - في توحيد المجتمع الإسلامي؛ إذ أن القانون - كما سبق أن قررنا - كان المعول الذي رسخت به الأخلاق الاجتماعية.

على أنه يوجد هنا بعض اختلافات واضحة ينبغي بسطها. فعلى الرغم من أن القانون يشتمل نظرياً، وحسب شرح العلماء على كل نوع ومظهر للعلاقات الاجتماعية، إلا أنه كان هناك (مناطق كثيرة) في حياة الجماعة مجهولة من الناحية العملية. وإن الأوضاع السياسية والحكومية، وجزءاً كبيراً من سلطان العقوبة، ومعظم التجارة ذات النطاق الواسع، كل هذه قد وسعت مدى أثرها الفعلي - حتى ولو كان القائمون بأمرها مرتبطين - كما حدث أحياناً بأساسها بواسطة تقليد رسمي. وأنه لحق أنه في هذه المناطق، وبين الطبقات التي فيها - قد حدث الشعور بالمؤثرات الأوربية من بادئ الأمر، وانتشر نفوذها. وهذه الحقيقة تذهب بعيداً في تفسير ضعف المقاومة - في المجتمعات الإسلامية ذات الدساتير - أمام إدخال نظم حكومية وتجارية ومدنية مؤسسة على نماذج أوربية. حتى أنه لم يبق ليومنا هذا إلا المملكة السعودية - وإلى حد ما - أفغانستان تسيران على الأوضاع القانونية الإسلامية القديمة. وقد يساعدنا هذا في بيان السبب في أن المجددين الأحرار (إذ أن مكانتهم قد أصبحت أرقى من تلك الطبقات التي لم تكن سلطة القانون الديني بينهم مطلقة) سبب وقوف هؤلاء المجددين مواقف غربية - بل نقول حرجة. . . ودنيوية - تجاه مسائل في القانون الإسلامي. . .

ترجمة محمد محمد علي