مجلة الرسالة/العدد 794/لو أصبح لليهود دولة. . .

مجلة الرسالة/العدد 794/لو أصبح لليهود دولة. . .

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 09 - 1948



للأستاذ نقولا الحداد

إنه إذا لم تمحق جماعة إسرائيل المزيفة - ولا تمحق إلا بالسلاح - كان أولى كوارثنا أن الجامعة العربية تفقد هيبتها وتسقط قيمتها وتنحل كما تنحل قطعة السكر حالا في الماء الساخن بعد أن كان متوقعاً أن تتحول إلى ممالك متحدة على حد الاتحاد السويسري أو الأمريكي، بحيث تتضاعف قوتها أضعافاً.

الثانية: متى انحلت الجامعة العربية ضعف جداً استقلال كل دولة بحيث تستطيع جماعة إسرائيل أن تستغل هذا الضعف بسهولة كلية، إذ يمكنها أن تلقى شباكها الاقتصادية، فتتصيد الدول العربية واحدة بعد واحدة، بأية حجة حتى بالقتال، ثم تتحكم فيها، إذ تأسرها باللطف الاقتصادي، وبالتخلف السياسي وبحنو الصرافة وإذا اقتضى الأمر فبدلال بنات إسرائيل، كرفقا وراحيل.

وثالثة الأثاقي: أن ما كنا نتبجح به من الإجماع على مقاطعة المنتجات اليهودية، والإعراض عن معاملة اليهود إلى أن يضيق بهم العيش، وينضب الرزق (ويطفشوا) من البلاد رويداً حتى تصبح جماعة إسرائيل بلا أهالي ولا رجال - إن هذا الظن يذهب حينئذ مع ريح الإغراءات الصهيونية المتنوعة.

الرابعة: لا نلبث أن نرى الصناعات الصهيونية قد ترعرعت وجعلت تزاحم صناعاتنا ومرافقنا، وتقتل أسباب عيشنا واحداً واحدا حتى نصبح حينئذ عالة على الإنتاج الصهيوني فلا نستطيع أن نعيش إلا تحت رحمة أبناء صهيون وهم خالون من الرحمة.

الخامسة: يتغلغل رأس المال اليهودي في جميع البلاد العربية وتصبح هذه البلاد مكبلة بالديون الإسرائيلية. ولا تلبث أن تصبح الأملاك والعقارات رهائن في بنوك إسرائيل وفروعها في جميع البلاد العربية - هكذا تنتقل ثروات البلاد إلى بنى صهيون، فيفتقر العرب، ويثرى اليهود. والنتيجة القصوى هي استبعاد هؤلاء لأولئك.

والسادسة: أن ما نستبشر به الآن من ازدياد الغلال المعدنية التي تبشرنا بها جيولوجية بلادنا: كالبترول والفحم والحديد حتى الأورانيوم وغير هذه من خيرات الأرض الدفينة سيكون لشركات اليهود كما هي الحال الآن في أملاح البحر الميت. ومهما تحوطنا حتى لا تقع هذه الثروات في أيديهم، فلا بد أن تؤول إليهم بفضل حكامنا الذين تغريهم الشركات اليهودية بالرواتب الوافرة لكي يكونوا أعضاء في مجالس إدارتها ولكي يساهموا فيها إن أمكن، ولكي يقال أن الشركة وطنية - مصرية أو سورية أو لبنانية أو عراقية الخ. لأن وظيفة هؤلاء الحكام (الوطنيين) أن يمسكوا البقرة بقرنيها لكي يحلبها شعب الله المختار (الجوييم) كما هو حادث الآن، وبعض من الوزراء السابقين، أو وجيه مصري ذي نفوذ، إلا وهو عضو في عدة مجالس إدارات لشركات يهودية بمكافأة بضع عشر مئين من الجنيهات، في مقابل أن يسهلوا لها وسائل الرواج والكسب. هل يصدق القارئ الكريم أن أحد هؤلاء (الوطنيين) هو عضو في 42 شركة، وإن وجيهاً عظيماً يتقاضى من بعض الشركات 22 ألف جنيه سنوياً. ولا يخجلون من أنهم بنفوذهم الوهمي يربّحون هذه الشركات اليهودية الملايين، ومن أين هذه الملايين؟ طبعاً هي من دماء هذه الأمة المنكوبة بغيرة حكامها.

السادسة: إن جلالة الملك عبد العزيز آل سعود، لا يلبث أن يشعر بعد قليل من رسوخ قدم الإسرائيليين، أن الشركة الأمريكية التي تستغل بترول بلاده بقاء بضعة ملايين من الجنيهات قد أصبحت يهودية قلباً وقالباً من غير أن يعلم السوابق واللواحق. وحينئذ يعلم الماليون الأمريكيون أن هذا البترول الذين يقتتلون لأجله، أصبح يتسرب إلى موسكو؛ لأن تعاقداً سرياً بين موسكو وتل أبيب قد تم على نية أن تتبادل الصهيونية والشيوعية المنافع الضخمة. وحينئذ يعض ماليو أمريكا وساستها المغفلون أناملهم ندماً على تفريطهم بصداقة العرب، وعلى تأييدهم الصهيونية في الشرق العربي.

هذا المصير الذي يصير إليه بترول الحجاز، سيكون مصير بترول العراق أيضاً ومصير بترول مصر وبترول البحرين ومصير كل بترول جديد يظهر في الشرق العربي. ومتى صارت منابع البترول في أيدي اليهود فلا يعود نصيب جلالة الملك عبد العزيز السعود ونصيب حكومة العراق ونصيب أمير البحرين ونصيب أية حكومة عربية إلا قشر البيضة من ثروة البترول.

إن ثبتت قدم الصهيونيين (لا سمح الله) فسيكون كل هذا بعد عشرين أو ثلاثين سنة. وحينئذ سيقول من يبقون أحياء إلى ذلك الحين ممن قرءوا هذا المقال: (رحمة الله على نقولا الحداد (قال وقوله صدق). وحينئذ لا تعود تنفع نهضة العرب ولا يقظتهم ولا غضبتهم، بل تفتر كل حماسة وطنية لهم، ويبقون كسالى تخدرهم الدعاية اليهودية، وبدر الأموال اليهودية وتقتل كل تحفز لانقلاب عربي لإنقاذ العروبة من بين براثن الصهيونية.

أتمنى أن أعلم ماذا يفهم أقطاب الساسة العرب من القول أن هذه الهدنة أبدية لا نهاية لها. إذن ماذا ينتظرون؟ أينتظرون أن يستمر اليهود ينقضون الهدنة، وأن يواظب برنادوت على القول أنه راض عن الحالة وأنه متفائل خيراً وأن الهدنة سائرة بانتظام - كذب وستين ألف كذب.

وهل يروق هذا القول لساستنا العظام؟ إذن كيف تكون الهدنة غير مرضية لبرنادوت. أيحسبها شؤماً إذا كان العرب يدافعون حينما اليهود ينقضون؟.

وإذا كان ساستنا العظام يصرون على القول لبرنادوت (ليس عندنا حل لهذه المشكلة العقيمة إلا أن لا تقوم قائمة للصهيونيين بتاتاً - إذا كان هذا هو قولهم الذي لا يحيدون عنه بتاتاً، فلماذا لا يسألون برنادوت ماذا في دماغه من مشروع تسوية يوافق قول العرب هذا.

وإذا كان الأمر كذلك فحتى يصبر ساستنا على هذه الهدنة الفاهية التي ليس من ورائها إلا استفحال اليهود وتثبيت أقدامهم وتوسيع فتحهم وزيادة تسليحهم، ثم بقاء عرب فلسطين مشردين في غير بلادهم يعيشون عيشة الطوى على إحسان الخيرين ويموتون ببطء. وأخيراً لا يبقى إلا فلسطين اليهودية - إلى هذا يرمي اليهود ويمالئهم برنادوت فيما هو يتنقل بين مصيفي رودس وفلسطين.

إلى الآن لا أفهم معنى لهذه الهدنة التي لا نهاية لها. إذا كانت بلا نهاية. فالمعنى أن الحرب انتهت. فإذا كانت قد انتهت عند برنادوت واليهود، فهل انتهت عند العرب على هذه الحال البليدة؟.

أليس عجباً غريباً أن غرباء أشباه الناس جاءوا من آخر الدنيا وطغوا بوحشيتهم وبإرهابهم الحيواني وطردوا أهل البلاد من بلادهم وأقاموا هم فيها ونهبوا كل ما فيها من قوت وأثاث ولباس وغلال ومال واستولوا على أبنيتها: وأغرب من هذا أن يقف العرب عند هذه الحال مترددين صابرين يتوقعون الكروبيم من السماء أن ينزلوا إلى الأرض ليحرسوا فلسطين لأهلها، كما كان الكروبيم يحرسون جنة عدن حين طرد الله منها آدم وحواء.

لا أفهم ماذا ينتظرون إذا كانوا يعلمون جيداً أنه يستحيل عمل برنادوت أن يتوفق إلى حل للمشكلة غير إلغاء ما يتمناه الصهيونيون أيصبرون إلى أن يضجر العرب كلهم من دوام هذه الحالة البليدة ويتركوا صهيون لليهود.

وإلى الآن لا أفهم ماذا يعني من يرتئون (حتى من ساسة العرب) أن يعود اللاجئون إلى بلادهم والمشكلة، لا تزال قائمة.

لماذا هرب اللاجئون من بلادهم؟ أليس لأن اليهود اعتدوا عليهم. فهل تغيرت طباعهم الحيوانية وصاروا بشراً يؤمن شرهم فما عادوا يفتكون بالأطفال والنساء والشيوخ؟ على أي أساس يعود العرب المشردون إلى بلادهم وأولئك لا يزالون وحوشاً يتوحدونهم للفتك بهم.

وإنه لغريب أن يقترح برنادوت عودتهم إلى بلادهم وهو لا يقترح الوسيلة الضامنة سلامتهم من فتك بهم. وأغرب من هذا وذاك أن بعض أقطابنا يقبلون هذا الرأي من غير أن يقدروا العواقب.

وأغرب وأعجب أن يقبل أقطابنا أن يعيش هؤلاء اللاجئون المنكوبون على إحسان الأجانب. وإلى متى يبقون عالة هكذا والهدنة لا نهاية لها - يا للعار. يا للشنار.

عجبت أن يهتم برنادوت وأعوانه (بالشحاتة) اللاجئين العرب ويستغيث بمجلس الأمن تارة وبالمؤسسات الخيرية أخرى كالصليب الأحمر وغيره - عجبت أن يهتم هذا الاهتمام الذي يشكر عليه قليلا، وأعجب من ألا يخطر بباله أن أشباه الناس اليهود هم كانوا سبب هذه الكارثة. وأعجب وأغرب أنه وهو يترك الحبل على الغارب لليهود لا يطلب من مجلس الأمن بكل شدة أن يرغم (إن كان عنده قوة للأرقام) جميع يهود العالم أن يدفعوا أثمان جميع الأرزاق والأموال والأملاك وكل ما كان في حوزة العرب - كل هذه التي نهبها اليهود من بيوت العرب وأملاكهم وحوانيتهم، وهي تقدر بنحو ثلاثمائة مليون جنيه إسترليني، هي الآن في ذمة اليهود إن كان لليهود ذمم.

عجبت أن يسكت برنادوت ومجلس الأمن وهيئة الأمم وحاخامات اليهود عن المائة والاثنين والسبعين مليوناً من الدولارات الأمريكية التي تصدق بها نصارى أمريكا على منكوبي اليهود في أوربا، وما كانوا ملزمين لولا أن مسيحهم قال لهم: (احسنوا إلى من أساء إليكم)! وإذا هؤلاء اليهود الأدنياء ينفقون تلك الملايين على محاربة العرب لأنهم لم يكن عندهم منكوبون يستحقون الإحسان، بل عندهم جميع أموال العالم!.

أنستغيث نحن بالأمم لكي نقوم بأود منكوبينا ويكون لنا عند اليهود 300 مليون جنيه.

نذكر الجامعة العربية بهذا الحق الضائع لكي تطالب به برنادوت ومجلس الأمن وهيئة الأمم، فقبل أن يحكم مجلس الأمن بدولة إسرائيل يجب أن نستخلص من بني إسرائيل هذا الحق إن كانت تعرف الحق وتحترمه!.

وعلى إنكلترا أولا وأمريكا ثانياً حتى جميع الدول التي أقرت التقسيم أن تحصل هذا الدين من اليهود للعرب، وعليها أيضاً أن تطالب اليهود بغرامة مائة مليون جنيه على الأقل لأنهم هم الذين انتدبوا العرب للحرب، فعليهم أن يدفعوا ما وقع على العرب من خسارة بسبب الحرب.

ثم إن هذه الغرامة وجميع المنهوبات التي نهبها اليهود من العرب تخول جميع الحكومات العربية أن تحجز جميع أملاك اليهود وأموالهم في بلادها لكي تستوفي ما تستطيع استيفاءه من هذه الديون الملقاة على عاتق جميع يهود العالم بالتضامن، لأنهم كلهم كانوا يجمعون الأموال للصهيونيين، وهي أموال مبتزة من البلاد التي يقطنونها بطرق غير منتجة وغير قليل منها مبتز من العرب!.

إذا كان عند الدول العظمى ذرات من الشرف كما عندها ذرات للقنبلة، فتحصل هذه الحقوق من اليهود للعرب!.

نقولا الحداد

تصويب:

وقع في افتتاحية العدد الماضي من الرسالة خطآن مطبعيان نصححهما فيما يأتي:

(وبكينا حتى نضب الدم) وصوابه الدمع.

(بالمخادعة والغش)، وصوابه الفيش، وهو بمعنى (الفشر) و (المعر) في لغة العامة.