مجلة الرسالة/العدد 795/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 795/رسالة الفن
الزهريات
للدكتور أحمد موسى
هي أوعية وألوان تسمى مشكاة يقابلها باللاتينية ليست لها فائدة عملية تذكر بالقياس إلى قيمتها الفنية لطالبي الفن واللغوية لطالبي اللغة الإغريقية وتطورها. ومع ضآلة فائدتها العملية فإنها من أهم ما عنيت بصنعة الشعوب المتحضرة بغية تجميل الحجرات أو الحدائق، سواء وضعت فيها الأزاهير أو لم توضع.
وعملت كحليات للأعمدة وحيناً آخر وضعت إلى جانب القبور، وكانت من الطين المحروق أو الصيني أو الزجاج، كما أنها صنعت من الرخام أو المرمر أو من حجر الألباستر أو من المعدن.
ولا يعنينا من أنواع الزهريات في هذا المقال سوى النوع الإغريقي الكلاسيكي بالنظر إلى المستوى الفني العظيم الذي بلغه الأغارقة في كل ما تناولوه.
ولا تعرف الدراسات الفنية هذه الزهريات إلا في فجر القرن الثامن عشر عندما بدأ ظهورها بين المخلفات الأثرية بكثرة لفتت النظر اليها والعناية بها، فكانت منذ ذلك الوقت موضع الدرس والتأريخ، لما حوته من مصورات عجيبة فائقة في الدقة والجمال، فضلا عما تناولته هذه المصورات من إيضاح النواحي القصصية والاجتماعية والمدنية والتاريخية إلى حد مثير لكل إعجاب وتقدير، وكانت بذلك أشبه شيء بسجل حافل لكل راغب متأمل.
وتنوعت أشكالها تنوعاً كبيراً ولكنها لم تخرج ابداً على رشاقة التكوين الكلي، على أن العناية بفحصها من الناحية الفنية كانت متأخرة عن فائدتها من الناحية التوضيحية للقصة وللحياة الإغريقية كما سبق التنويه.
وإذا كان تاريخ الفن لم يعرف هذه الزهريات إلا منذ فجر القرن الثامن عشر؛ فإن دراستها وتبويبها من حيث التكوين الكلي والشكل ولون أرضيتها ولون المصورات التي رسمت عليها، والمدارس الفنية التي عملت فيها لم يبدأ بصفة حاسمة إلا منذ منتصف القرن التاسع عشر عندما توافرت أسباب الدرس والفحص بتوافر العدد الموجود من كل نوع منه وأقدم الزهريات الكلاسيكية جميعاً عثر عليه في طبقات أرض ترويا وهي المدينة القديمة في آسيا الصغرى (منطقة الدردنيل) حيث قامت الحرب سجالا بين الأمير مينيلاوس لأستيراد زوجته وبين باريس الذي اختطفها لنفسه، كما تتضح أخبارها في إلياذة هورميروس.
وكانت هذه الزهريات معمولة بيد الإغريقي دون الأستعانة بقرص الإدارة الذي يستعملونه حتى اليوم في صناعة الأواني الفخارية، كما أنها كانت من الطين المحروق دون تلوين، ذات شكل كروي أو أقرب ما يكون إليه، يعلوه عنق أو رقبة أسطوانية غالباً، كما برز من جانبين منها إصبعان مثقوبان للاستعانة بهما في رفعهما وفي تثبيتها إلى المكان الذي تعلق فيه من حبل مار بالثقبين المذكورين بدلا من المقبضين الذين جاءا في الزهريات المتأخرة (ش1).
وكانت زخارفها في أول الأمر بسيطة لا تخرج عن خطوط حفرت حفراً على سطحها حيناً، أو لصقت بها قطع من الفخار صغيرة للغرض نفسه حيناً آخر (ش1).
وأبسط أشكالها على هيئة كرة ذات عنق غاية في القصر بالقياس إلى أرتفاع البدن الكروي، زودت برسوم بارزة لحيوان أو إنسان أو زخرف من نبات (أنظر الستة الأشكال التالية).
وكان هذا النوع الجدير بالدراسة كثير الصنع في قبرص وله أشباه في سوريا وتبريز في أرجوليس التي تخربت في عام 468 ق. م.
ووجدت منها أنواع قديمة يرجع تاريخها إلى نحو عام 2000 ق. م، ومن العجيب أن هذه مع قدمها صنعت بواسطة القرص الدائر، علاوة على أنها كانت مزودة بنقوش ملونة بألوان غير لامعة، وهي بهذه الصفة تشبه نظائرها مما وجد في ميكينا
وللتفرقة بين هذه الأنواع (الكلاسيكية) قديمها والجديد، نجد أن أبرز الفوارق يتلخص في أن القديمة كانت رسومها غير لامعة أما الجديدة منها (1500 ق. م) فإنها قد تميزت بما ظل مميزاً لكل الزهريات ومصنوعات الفخار الإغريقية بصفة عامة، ألا وهو استخدام الألوان المشتملة على الورنيش في تركيبها -
وكانت الأوان رقيقة صافية نقية على سطح أملس ذي لون مائل إلى الصفرة، بحيث يصبح اللون الزاهي والأسود الداكن على أكمل وجه من الانسجام.
والأشكال الخارجية للزهريات الكلاسيكية الإغريقية عديدة، لم يميز مرحلتها الأولى عن سواها إلا الشكل المقوس على مقبضين جانبيين مقوسين.
وأخذت الزخارف شكل خطوط متوازنة في أتجاهات مختلفة ومتقاطعة، وشغلت جزءاً محدوداً من سطحها حيناً، وحيناً آخر شغلت معظم ذلك السطح، إلى جانب الوحدة الزخرفية المكونة من (الحلزونية) المحببة إلى نفوس الإغريق.
وكذلك وحدات خيالية بديعة للزهر الملتف حول سيقانه، وزهور الماء، والخطوط التي تسير في شكل موجات وأشكال أسماك ونجوم بحرية وأشكال مرجانية وصدفية من مختلف الأنواع.
وأنتشر هذا الطراز من الزهريات في مناطق عديدة نذكر منها على وجه التخصيص منطقة ميكينا والساحل الشرقي لبلاد الإغريق والجزر الإيجية وجزيرة رودس كريت. وهذه كلها يرجع تاريخ الزهريات فيها إلى نحو عام 1500 ق. م كما سبق التنويه
وهناك نوع أشتهر بأسم الزهريات الديبلونية نسبة إلى المكان الذي وجدت فيه عند اثينا وكانت هذه أقل قيمة من ناحية الصنعة والزخرفة الفنية بالقياس إلى تلك التي وجدت في ميكينا، ذلك لأن الفخار الذي صنعت منه كان أكثر خشونة وسطحه أكثر احمراراً، وعملت الوحدات الزخرفية بألوان حمراء بنية مضافة إلى الورنيش المخفف، كما أنها بلغت حجماً كبيراً في كثير من الأحيان، وقد أحاطت بها الزخارف أشبه شيء بحزام التف حولها، وتكونت من خطوط متقطعة أو متصلة وخطوط متكسرة ومجموعات من النقط ودوائر داخل بعضها في البعض أو حلزونية التصميم، أما صور الحيوان أو الطير فقد رسمت في المناطق المربعة الشكل الخالية من الزخارف. وكانت الصور في مجموعها غاية في الباسطة؛ فجاءت الزهريات جافة المظهر لا حياة فيها، على أنها من ناحية تاريخ الفن ذات قيمة لا تنكر لأنها استغرقت المرحلة الزمنية بين الزحف الدوري (1104 ق. م) وبين القرن السابع قبل الميلاد، وهي بهذا تعتبر الأساس الأول الذي أقيم عليه فن عظيم خالد.
وجاءت الزهريات القبرصية متميزة على الأثُينية بنعومة الطين المصنوعة منه، سطحها ذو لون أصفر فاتح، سمت عليها المصورات بألوان الأسود البني والأبيض والأحمر، لبيان الزهور الخيالية والورود الابتكارية التي تعتبر أسلوباً زخرفياً جديداً يسجل الأثر الشرقي والاقتباس من الشرق!
وإذا كانت الزهريات القبرصية قد حملت الأثر في وضوح، المهارة التي تجلت من خلال رسوم الأجسام المختلفة والتي تبين الاتجاه الفني عند الإغريق، وذلك بتأمل الطريقة التي اتبعوها في ملء الفراغ بما لا يتنافى مع إظهار الصور في أروع أسلوب ممكن برغم قيود الشكل التكويني؛ فنجد أن بدن الزهرية قد قسم في مهارة إلى أقسام تفصل بينها خطوط، وتشغل مساحاتها مجموعات من صور حيوانات منها على وجه التخصيص الوعل والماعز الوحشي والأسد واقفاً أو رابضاً كأبي الهول وملئت الفراغات بزخارف وحداتها من براعم الزهر أو من أشكال هندسية كالدوائر الحلزونية وغيرها مما يشابه إلى حد كبير الزخارف التي كانت عند الميكينيين.
وتطور النشاط الفني إلى اقتباس المعاني من الياذة هوميروس والتعبير عنها بالصور التي رسموها على الزهريات، وقد وجدت أسماء المصورين في ركن منها، وأصبحت كتابة الأسماء هي القاعدة فيما بعد، فلا ترى زهرية دون أسم مصدرها إلا فيما ندر.
وكان من الطبيعي أن يصبح أسم المصور لازماً للمؤرخ الذي يريد تبويب الزهريات تمهيداً لدرسها، فضلا عن أنها أظهرت من ناحية لأخرى تطور الحروف الأبجدية الإغريقية.
وصادفت الزهريات الرودسية بالمقارنة بغيرها من الأنواع ذيوعاً وانتشاراً في القرنين السابع والسادس ق. م. في بلدان ساحل آسيا الصغرى وفي الجزر المجاورة، فازدهرت صناعتها وذاع صيتها وامتد سلطانها نحو الغرب حتى بلغ وسط إيطاليا (أثروريا أو توسكانا)، وهذا دليل قوي على ما بلغته من المستوى الفني، سواء من حيث أحجامها أو من حيث مادة صناعتها أو التفنن في زخرفتها، مما سيكون أكثر وضوحاً وأسهل تناولا في المقال التالي.
أحمد موسى