مجلة الرسالة/العدد 795/في الروتين الحكومي:

مجلة الرسالة/العدد 795/في الروتين الحكومي:

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 09 - 1948


إرادة الصغير إدارة الكبير

من العجائب التي قلما يعجب لها أحد أن هذه الأداة الحكومية على ضخامتها وجلائها وخطرها، إنما يحركها صغار الموظفين حيناً بالعقل وأحياناً بالهوى؛ فإذا حدث في أسافلها الخطل أو الخلل - وكثيراً ما يحدث ذلك عن جهل أو عن علم - أصَّعَّد آلياً في أعاليها حتى يبلغ ذرى الرياسة فيدخل على المدير أو على الوزير، مزوداً بالتقارير الشارحة، مؤيداً بالتواقيع المختصة، فلا يسمعه إلا أن يصدق ما بين يديه، فيقبل الخطأ على أنه صواب، ويرد الحق على أنه باطل. وتلك إحدى سيئات الييرْر شية وهي النظام الإداري الذي يقضي بتدرج المناصب في العمال والأعمال والتبعات، فيبدأ الأمر بالأصغر فالصغير، ثم ينتهي إلى الكبير فالأكبر؛ وقلما انتقل الأمر من درجة إلى درجة أسرع النظر فيه، وقلت الرقابة عليه، وخفت المسؤولية عنه.

فالعهدة في هذا النظام كما ترى على الضمير، إذا سلم سلمت الإدارة وانتظم العمل، وإذا اعتل اعتلت الحكومة واضطرب الحكم. أما حياطة القانون (للأوراق الرسمية) بتشديد العقاب على من عبث بها أو زوّد فيها فذلك أمر لا طائل من ورائه إذا خفي العبث أو غفت الرقابة أو اشتركت المنفعة!

تعال أقص عليك بعض ما أعلم على هذه الييررْ شية من سوء عسى أن يكون في قصصه إنعاش لضميرك إن كنت عاملا في هذا النظام وعبثت به، أو تعزيه لنفسك إذا كنت معمولا به وتأذيت منه:

غضب مالك الأرض في قريتنا على شباب من شبابها الأخيار لأنه جرؤ عليه يوماً فطلب منه أن يردم بِرَكه التي تحيط بالقرية إحاطة الغُل بالعنق وأراه أن من الخير له أن يقي فلاحيه حمي الملريا ليظلوا قادرين على ري أراضيه بعرقهم وتغذية خزائنه بدمهم وكان لهذا المالك الغضبان قرابة ببعض أولي الأمر في وزارة الداخلية، فاستعداهم عليه، فألف الإداري الصغير تقريراً غيابياً عن هذا الرجل رماه فيه بتهديد حياة الناس بالإجرام، وتكدير أمن البلاد بالشغب، ووافق المأمور المعاون، وأيد المدير المأمور، وصدق الوزير المدير، وحُكم على البريء حكما عسكرياً بالاعتقال ستة أشهر تجدد لمثل ذلك، إذا لم يرض عنه المالك! فلما علمت بالأمر طلبت الأذن على وزير الداخلية، وكان يومئذ فؤاد باشا سراج الدين، وعرضت عليه القضية، فقال في لغة أنيقة ولهجة رقيقة: إن هذا الرجل من الأشقياء (الخطرين)، ولا أحب أن يشفع مثلك في مثله. فقلت له: يا باشا، إن الرجل من كرام قريتي، وأنا أعرفه كما أعرف أبناء أسرتي. فقال: وماذا أصنع في تقرير رسمي حققه المركز وأيدته المديرية واعتمدته الوزارة؟ فانصرفت حردان أسِفاً على الحق يدمغه تقرير باطل فيزهقه، وعلى العدل يصيبه تقرير جائر فيهلك. ويبقى المسكين في سجنه يقاسي ألم الجور وذل الاعتقال، حتى سقطت الوزارة القائمة، وألغيت العسكرية الحاكمة، فزالت عن الرجل في التوِّ صفات الإجرام، وخرج من معتقله إلى أهله بسلام!

وفُصل من وظيفته محضر شاب كان يعمل في محكمة (عنيبة) من مركز الدر، لأنه غاب عن مكان عمله خمسة عشر يوماً من غير إذن. وسبب غيابه أن المرض أدركه في آخر يوم من أيام أجازته السنوية، وكان يقضيها مع أسرته بالمنصورة، فطلب إجازة مرضية، فأباها عليه مفتش صغير كانت بينه وبينه خصومة، وقرر للرياسة أن الرجل صحيح البدن ولكنه مريض النية، فهو يأبى العودة إلى بلاد النوبة ويتمارض ليسعى. وصدق الكبير فأمره بالعودة إلى العمل بعد انقضاء الأجل، وكانت العلة شديدة والشقة بعيدة، فلم يدخل عنيبة إلا ليقرأ فصله، ويرجع بالشقاء والبؤس إلى أهله!

وقضى المسكين في العطَل أشهراً يطعم أطفاله الأربعة وأمهم بالدين، ويدفع الضر عنه وعنهم بالأمل، حتى عرضت بنفسي ظلامته على صاحب المعالي إبراهيم باشا عبد الهادي وكان يومئذ يتولى وزارة العدل بالنيابة، فاقتنع ببطلان تهمته، وأعاده إلى وظيفته بمرتبه ودرجته ومدته.

وقضى المسكين في العمل أشهراً يجاهد نصب العيش ويكابد وصب الداء حتى أودى به السُّلال على سرير موحش ووساد قلق. وكان في إدارة المستخدمين بوزارة العدل عصبة من صغار الموظفين تتجر بمنح العلاوات والدرجات، فينقضون المبرم ويبرمون المنقوض، والكبار من غير فطنة ولا علم يحلون ما عقدوا ويعقدون ما حلوا، فقررت هذه العصبة أن إعادة الموظف المرحوم إلى عمله بعد فصله كانت تعيينا من جديد يجبُّ أربعة عشر عاماً قضاها في الخدمة! وانتظرت العصابة من ورثة الميت المساومة؛ ولكن اليتامى الأربعة الضعاف، والأيم الصغيرة الفقيرة، كانوا لا يخرجون من مسكنهم النابي، ولا يفيقون من حزنهم الطويل، فأمضى الكبار ما قضى به الصغار، وقدرت المكافأة بجنيهين تقطع منهما الدمغة!!

وبلغتني المأساة فعرضتها على صاحب المعالي أحمد مرسي بدر وزير العدل - وكان قد كشف بفطنته ويقظته سر هذه العصابة - فنظر في هذه القضية بنفسه، وكتب إلى (المالية) كلمة العدل فيها بيده.

وشكوت إلى (مصلحة الطرق والكبارى) بالمنصورة أن ضيعتنا جزيرة في بحر الأمير طوسون لا يصلها بالشاطئ العام إلا طريق وعر غير سالك، وسألتها أن تمهده ولو على حسابي. لكن المهندس الصغير تلكأ لأسباب لا تغني غيره، فلجأت إلى الرياسة العليا فقررت الطريق وأمرت أن يمهد ويصان. فلما جاء الأمر بالتنفيذ ورم أنفه واستطار عناده وأقسم ليقفن دون هذا الطريق مهما يكن الأمر والآمر. وكتب تقريراً زعم فيه أن الطريق خمسة آلاف متر وهو لا يزيد على سبعين قصبة، وأن في بعضه عقبة كأداء وهو وحده هذه العقبة! فلما رأت الإدارة هذا الاختلاف بين ما قررت وقرر أرسلت إلى العزبة ثلاثة من مهندسي القاهرة فوافقوا أمامي على ما قررت، ورسموا الطريق على ما قدَّرت، ولكنهم حين خلوا إليه في مكتبه أصبح الخفيف ثقيلا والممكن مستحيلاً والكذب صدقاً والعام خاصاً والضرورة ترفاً والمنفعة مضرة! ومن هذا الزور الجريء ألف الموظفون الصغار التقرير، ورفعه كبيرهم إلى المدير، فلم يسعه إلا أن صدق الأوراق الرسمية ويعتمد التواقيع المختصة.

ورفعت أنا تقريري إلى صاحب المعالي أمير الأدباء ووزير المواصلات، فهو ينظر فيه نظر القاضي العالم والحاكم الحازم، وسيستشهد بالطريق الناطق على التقرير المكتوب، ويحتج بالواقع الصادق على التقدير المكذوب!

هذه أمثلة ثلاثة مما أعرف. ولعل أمثالها ألوف مما يعرف الناس، سردتها عليك في هذا الإيجاز لتصدق أن إرادة الصغير هي إدارة الكبير، وأن مراقبة الموظفين محال إذا لم تكن للشرف والضمير!

(المنصورة) أحمد حسن الزيات