مجلة الرسالة/العدد 796/أبو خليل القباني باعث نهضتنا الفنية

مجلة الرسالة/العدد 796/أبو خليل القباني باعث نهضتنا الفنية

مجلة الرسالة - العدد 796
أبو خليل القباني باعث نهضتنا الفنية
ملاحظات: بتاريخ: 04 - 10 - 1948



للأستاذ حسني كنعان

كان ذلك منذ خمس وتسعين حجة على وجه التقريب، وفي أمسية الربيع الضاحك الزاهي جلس (محمد أغا أقبيق) والد النابغ الدمشقي احمد ابو خليل القباني في حقوة داره الكبيرة ذات البحرة الدفاقة المعروفة في حي الشاغور، يستقبل وفود المهنئين من وجوه الحي وأعيان الشام بمناسبة احتفائه بختم ولده القرآن من فاتحته إلى خاتمته.

وكان في صدر الدار من الوافدين مفتى الديار الشامية الشيخ محمود حمزة وعالمها الأوحد الشيخ بكري العطار، وكلهم مغتبط مسرور بحفاوة رب الدار بهم وإكرام وفادتهم. وكان من عادة السامرين في هذه المجالس أن تكون الأحاديث فيما بينهم جميعاً تدور حول امتداح المحتفى به على سبيل المجاملة، وإدخال السرور على فؤاد والده، وإيناسه وإثلاج صدره، فشرع الكل يطرى ذكاء أحمد ويمتدح نشاطه وشدة ميله إلى الدراسة والتعلم. فقال مفتى الشام فيما قال:

إني لأعجب يا حضرة الأغا العجب كله لشدة ذكاء ولدك هذا؛ إنه إلى حداثة سنه وصغر مداركه أراه لا يترك حلقة من حلقات التدريس التي يعقدها علماء الشام في المسجد الأموي إلا قصدها وكان من روادها. إنه لا يترك المسجد ساعة من نهار إلا في أويقات الطعام؛ فرواد الحلقات عل كثرتهم وميلهم لطلب العلم لم أر بينهم من يفضله في ذكائه واجتهاده ونشاطه. إنه لا يحل حبوته أمام شيوخ الحلقات، فلا يكاد ينتهي شيخ من درس حتى يزحف إلى شيخ غيره، وهكذا يظل سحابة يومه كالطائر الغرد ينتقل من فنن إلى فنن، ومن دوحة إلى دوحة، يجتني من الأغصان والأدواح الباسقة أطيب الثمار واشهى الفواكه، حتى ينصرف شيوخ الحلقات وروادها ويقفز المسجد، وتتعطل لغة التدريس فيه. ولما سكت المفتي عقب الشيخ العطار على حديثه قائلاً:

أضف إلى هذا أنك تراه في الحلقات دائماً يكثر من تحريك أصابع يديه ورجليه ويكثر من التنغيم والترنيم همساً في فمه، وكثيراً ما يسترسل في عمله إسترسالا يجلب إليه النظر، فيبادر من بجانبه من صحبه وهو ساهم غائب عن الدنيا والعالم يفكر في شئ غير الدرس، فينبهه ويفهمه أنه في المسجد وفي الدرس، ولا في الملهى والمسرح فينتبه فوراً ويصغي.

ولعل لهذا الفتى ميلاً خاصاً لاشياء أخرى غير ميله للدروس العلمية والفقهية، وإن صدقتني فراستي فولدك هذا لا بد أن يتردد على مجالس الموسيقى ويعاشر الموسيقيين. فهل يسمع أحداً من أرباب هذه الصناعة، أم أن هناك ميولاً فطرية في طبعه أثرت عليه، فولدت فيه هذه الناحية؟

وكان الأب مغتبطاً مسروراً بما يسمعه عن ولده من مدح وثناء، وقد طال سكوته وإصغائه لمثل هذه الأحاديث السارة البهجة دون أن ينبس.

وبعد تفكير عميق قطع حبل صمته قائلاً: ولهذا أراكتكثر يا أحمد من ارتيادك مقهى العمارة الكبيرة، فبحقي عليك هلا أخبرتني عما تفعله هناك. وأستحي الفتى وأصطبغ لون وجهه بالحمرة وكلل العرق جبينه وغدا كأنه صنم من الأصنام لم يحر جواباً ولم يتحرك. . .

وكان هناك في الحفلة خال له يعطف عليه ويحبه حباً جماً ويعرف روحاته وجياته، وهو واقف على أسراره الوقوف كله. فألتفت إلى أبيه قائلاَ:

أجل إنه يؤم حي العمارة كل ليلة ويسمر هناك في المقهى الكبير مصغياً إلى أهازيج (الكركوزاتي) على حبيب، ويشهد محاوراته مع الصور الخيالية المؤلفة من رسوم عنترة وعبلة والمهلهل والزبر والزناتي خليفة والملك الظاهر، وغيرهم من أبطال القصص التاريخية الموضوعة لإلهاء الدهماء عن البحث في أمور لا تعنيهم في عهد الفاطميين.

وأزيدك يا عم علماً أنه يذهب في كل اسبوع مرة أو مرتين إلى مكان خصصه اين السفر جلاني وأبن الغبرة والأدلي وغيرهم ممن لهم ميل خاص في الموسيقى والأهازيج، ليتمرنوا هناك على الغناء والتمثيل.

ولقد فاجأته أكثر من مرة وهو منفرد في حجرته يقلد السيد علي حبيب في مخاطبته عبلة بإشعار عنترة، ويمثل دلال عبلة على أبن عمها عنترة كما يفعل (الكوكرزاتي) على حبيب خلف الشاشة البيضاء التي أخفى الصور الخيالية خلفها ونثرها على ضوء المصباح الضئيل، وأصغيت إلى صوته الشجي عندما كان ينشد قول الفارس العبسي المدنف في حبيبة قلبه وفاتنة عقله يخاطبها بقوله:

هلا شهدت الخيل يا أبنة مالك ... إن كنت جاهلة بما لم تعلمي

ينبك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم ولما شعر بوقع أقدامي صمت بمقدار ما أنضح صوته في القاعة بدوي؛ وكان يشير بيديه كالمعتوه الذي خولط في عقله صائحاً:

وسيقي كان في الهيجا طبيباً ... يداوي رأس من يشكو الصداعا

ولو أرسلت رمحي مع جبان ... لكان بهيبتي يلقى السباعا

أنا العبد الذي خبرت عنه الخ. . .

فلم أستطع الصبر على تركه وحده في القاعة هكذا يخاطب نفسه كالمجانين، وإنما فتحت عليه الباب الموصد ودخلت فجأة فأسقط في يده وسكت. فصحت به ما هذا يا أبن أختي؟ ما الذي تفعله؟ تقلد (الكركوزاتي)!! أين (كراريسك) ودفاترك وأين كتبك وهنواتك الدراسية؟ أهذه هي الدروس التي تعلمتها في المسجد على مشيخة الشام ونخبة علمائها؟ تلهو بالقشور وتترك اللباب إنك والله لمن الخاسرين الذين يضيعون مواهبهم وذكاءهم في أمور مخزية. ماذا يقول الأغا والدك غداً إذا علم بنزعتك هذه؟ فما كان منه إلا أن جبهني بقوله: أناحر في تصرفاتي، وليس لأحد علي سلطان. فأنا إنما أبني لأهلي وبني قومي مجداً مؤثلا في ارتيادي هذه الناحية. وسترون مني ما يدهشكم من الأعمال الباهرة التي سأقوم بها خدمة للفن أنا وصحبي.

وكان المفتي يصغي مطرقاً إلى حديث الخال المحترم، وعند ما سمع هذا الحديث عن تلميذه الذي كان مكيراً فيه ذكاءه النادر ومواهبه الفذة، فلمس فيه هذه الناحية التي تخالف مبدأه الديني ونزعته الصوفية، لم يطلب المقام له في تلك الحفلة النادرة بعد الذي سمعه، فخف من المجلس على الأثر وهو يتمتم: أعوذ بالله! تمثيل. . . موسيقى. . . غناء، على حبيب! إن هذا المنكر لا نطيق سماعه، ولا نطيق السكوت عنه، أنت يا أحمد مطرود من الدرس منذ الليلة.

قال الشيخ قوله هذا وزحف على قدميه وقد كور جبته وراء ظهره وعقد يديه فوق الجبة وأستلم باب الدار دون أن يودع الحاضرين استنكاراً للأمر وتظاهراً بالورع والتقوى. . .

فتبعه الشيخ العطار وقفى على أثرهما بقية من في الدار من الوجوه والأعيان، وتفوض المجلس وخلا من سماره. وكانت هذه الهنة حافزاً للأب على الأيفاع بولده وغضبه عليه وهجراته إياه.

بقى الفتى يقاسي في نزعته الفنية ألم الحرمان والغضب وانقطاع الوشيجة بينه وبين والده وأفراد اسرته مدة حتى توفى الله الوالد وانعتق الفتى من اسر الرقابة وأصبح مالك نفسه وحاكم أمره، وكان قد بلغ سن الرشد فأنقطع لخدمة الفن وتفتحت براعم عبقريته وأمسى يصل ليله بنهاره ونهاره بليله دأباً على التلحين ونظم القصائد والموشحات. وقد ساعده على الإجادة في النظم ما كان قد أخذه عن شيوخه من قواعد اللغة والنحو والصرف حتى قال فيه أحد شيوخه لو ظل هذا الفتى مثابراً على الدرس لتحدثت الشام عن علمه زمناً طويلاً، كما قال أحد الخلفاء العباسيين في أسحق الموصلي: لولا نزعته الموسيقى لوليته القضاء.

(للبحث تتمة)

حسني كنعان.