مجلة الرسالة/العدد 797/رحلة في الديار المصرية في القرن الثامن عشر

مجلة الرسالة/العدد 797/رحلة في الديار المصرية في القرن الثامن عشر

مجلة الرسالة - العدد 797
رحلة في الديار المصرية في القرن الثامن عشر
ملاحظات: بتاريخ: 11 - 10 - 1948


(الميلادي):

النحلة النرصية في الرحلة المصرية لمصطفى البكري

الصديقي

للأستاذ أحمد سامح الخالدي

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

في يوم السبت سابع جمادي الثانية، ودع القرافة وتوجه لزيارة سلطان الرجال أحمد المكني البدوي العلوي، صحبة الشيخ محمد الحفناوي وأخيه الشيخ يوسف، والشيخ حسن، والسيد عبد الله السلفيتي نجل المرحوم السيد حسن، والأخ إبراهيم الحرستاني المعروف بالبلاصي، وما زال يسير إلى أن عدى في المعدية إلى القرية المرحوم وبات ليلة، وجاء السراق في الليل، يسطون على الخيل فخيب الله مسعاهم، وسار في الصباح مع إخوانه إلى القرية (مليج) وزار سيدي علي المليجي صاحب المقام وتملى بالجامع الذي عمره إسماعيل بك أبن إيواز ونزل دار صديقه الحاج عمر، ثم استمر في السير إلى أن لاحت قبة السيد المزور، فنزل في البلد جوار سيدي أحمد، وقرأ الفاتحة، وكان معه الشيخ محمد الأحمل الحفني، وبقية الرفاق، وورد عليه المحب الشيخ محمد الأسقاطي وأخبره أن والده قام للزيارة مع جماعة، وأستفسر عن نية الشيخ للتوجه إلى دمياط وطلب أن يرافقه. وفي الصباح سار لزيارة سيدي عبد الوهاب الجوهري، صاحب المقام وأخبر أن جناب الشيخ محمد البديري بن الميت في قريته فتوحه اليه وأجتمع عليه وطلب أن يرفقه الشيخ في المعدية إلى دمياط، فقال له إنه وعد بذلك الشيخ محمد الشناوي، فأجابه لذلك. وعاد إلى المنزل فوفد عليه العالم والد الشيخ محمد جناب الشيخ أحمد الأسقاطي، وأكد كلام ولده، ثم ودعه، وعاد عند الظهر إلى الجامع الأحمدي، وبعد العصر، حضر لعنده فاضل، يدرس في الجامع قريباً من الإمام، وهو شريك الأخ الشيخ محمد علي المرحوم جناب الشيخ أحمد الخليفي فدعاه لداره. وودع الداعي بعد قيامه بأمر الضيافة فلما وصل فناء مسجد الشيخ، رأى شاباً ممسكاً للشباك، وهو يبكي والناس حوله يهدون الفواتح للسيد، فإذا هو ليده ممسك مقيد، فسأل الشيخ عن قصته، فأخبر أنه سرق حمارة، ففطن به، فأنكر، فأتى به إلى الشيخ لعله يتوب، فوضع يده على الشباك ليحلف، فأمسك الشيخ بيده فتاب وبكى، فلم يطلق إلا بعد ساعتين أو أكثر حتى شفع فيه جميع من حضر. وبات ليلته وجاءه الأخ محمد بما تيسر من المزاد، وحضر الشيخ محمد الأسقاطي بالدواب فتوجه معه إلى أن لحقوا بالشيخ محمد البديري، ونزل قريباً من زاوية الشناوي، وما زالوا يسيرون حتى وصولوا المحلة الكبرى، ونزل الشيخ في وكالة الحرير، وكان الشيخ احمد الأسقاطي نزل عند محب قديم يقال له الحاج إبراهيم رضوان فأرسل ولده يستدعي الشيخ، فذهب وبات عنده. وفي الصباح توجه يوم الخميس إلى قرية (سمنود) وركب والشيخ أحمد في قياسه حتى وصل (المنصورة) وقصد زيارة الشيخ عبد الله الرفاعي، وبعد صلاة العشاء أقلع والريح غير مريح، فوصل قبل دخول صلاة الجمعة إلى (سربين) وبعد الصلاة زار مقام سيدي شمس الدين محمد الشربيني. وسأله الشيخ يوسف الزين شقيق الشيخ محمد الحفناوي تخميس بيتين ففعل.

ولما وصل (فارس كور) توجه إلى زيارة الشيخ أبي مدين الحدادي، وكانت ليلة مولده يسعون إليه من كل نادي، فقرأ له الفاتحة وزار على أثره الشيخ إبراهيم الأحمدي، فقدم له رز حليب فأكل منه لقيمات وصلى الصبح في جامعها الكبير، وتوجه إلى مدينة دمياط ودخلها مع الظهر يوم السبت. وزار أبا علي الصياد، ونزل في خلوة شيخه الشيخ محمد البديري التي في جامع البحر للعدة للوارد على الدوام، وصار الشيخ يتردد عليه، ودعاه لداره وأكرمه. وكذلك أضافه عنده الشيخ احمد الأسقاطي، وأوقفه على بعض ما له من الحواشي. وجاءه بعض الإخوان برسالة للسيوطي وطلب نظمها، فنظمها في مائة بيت. وسماها النظام (البسط التام، في نظم رسالة السيوطي الهمام) وأخبره الشيخ أحمد الأسقاطي أن عنده على الرسالة شرحاً، وأوقفه شيخه البديري على قصيدة أمتدحه بها الشيخ عبد الغني النابلسي وطلب منه أن ينسج على منوالها فتردد ثم فعل. وكان الشيخ البديري لا يفطر إلا لديه، ويصحب معه الفطور والقهوة، ويجلس في مؤانسته إلى الضحوة. ثم توجه به إلى زيارة الشيخ ضرغام، فذهب في قياسه وصحبه السيد احمد الطرابلسي، وخاله الحاج مصطفى وبعض الأحباب، وبعد الزيارة دعاه لداره وأراه سبحة الشيخ المزطاوي، وقال أن الشيخ أعطاه إياها غب الإجازة وأخبره بما سطره عنه في (السيوف الحداد في ترجمة سيدي محمد مراد النقشبندي) وسأله الإجازة فأجاب وذلك في غرة رجب سنة 1133، وقد ذيلها بإمضائه ونسبه وهو: محمد بن محمد بن محمد بن أحمد البديري الدمياطي الشافعي الأشعري الشاذلي النقشبندي.

وقصد زيارة الشيخ علي السقا، ثم زار سيدي الشيخ فتح، ومر على الشيخ جمال الدين العجمي، فقرأ له الفاتحة، وحضر عند الشيخ فتح مجلس ذكر، ثم ذهب إلى بستان السيد كمال النقيب سابقاً ومكث فيه إلى قبيل الغروب، ثم رأى أنه ذكر سيدي إبراهيم المتبولي، فأخبر بذلك الشيخ قاسم نجل الشيخ يوسف، وقال له عن مراده في زيارة السادة المتبولية، وبعض المقامات، فزار جناب الشيخ محمد العصيفراتي وجناب سيدي أبي العباس الحريثي، والشيخ الضيروطي وسيدي حسن الطويل، وسيدي محمد المواجه له، وزار سيدي محمد العياشي وأبا الطيب والشيخمحمد هارون والشيخ يوسف المغربي. وكان يخدم شيخه البديري رجلاً اسمه صبح وكان بعض الناس يمازحه بقوله: بالله يا صبح لا تزرني، يا صبح الله أنا دخيلك، وهذا موشح قديم فقال الشيخ:

حبي جفاني، فطال ليلي، وقد كواني، وهد حيلي، ومذ سباني، بفرط ميل، ناديت يا ليل بالمثاني أدخل فإني دخيلك. . الخ. وممن دعا الشيخ وكرر الدعوة صديقاه الحاج محمد والحاج مصطفى وهما خالا السيد أحمد الأدهمي، وكان بصحبه في البعض شيخه الشيخ البديري. ثم إن الشيخ المذكور عزم أوائل رجب على التوجه إلى مصر لأن له عادة في النزول لأوائل الأشهر الثلاثة وأقرأ الحديث الشريف فتوجه فتألم الشيخ لفراقه.

وكان قبل هذا التاريخ أجتمع بالعالم الشيخ حسن المفتي الحنفي، وجاءه للخلوة، ودعاه لداره، فسر بالاجتماع به، وممن أصطحب معه في الخلوة الشيخ محمد الهنيدي.

كان الشيخ قد سمع وهو في الديار الشامية أن دمياط فيها سلطان الناموس فلا ينام فيها إلا بناموسية فقال لما لم يجد ذلك:

وقد قيل للناموس فيها سلاطة ... ولم أر ما قد قيل في جامع البحر

ويمكن أن البحر لما به ثوى ... وذاك ذكي الدين فر من البحر وكان لحقه إلى القاهرة أخ أسمه عثمان، وجاء من غير إذن من الشيخ، فخالف المشورة، وأمره الشيخ أن يركب من المغفر في شيطية، فركب في قياسة فأسرت دون غيرها وأخذ إلى ملطية، فحزن قلب الشيخ عليه، ولم يطق رد ما أوصله مولاه اليه، ولم يسعه أهله إلى شراته من الأسر، ولكان اشتراه الشيخ بالنقود، ولكن لم يتم له ذلك.

وأنشد صديقه السيد أحمد بن صالح الطرابلسي الأدهمي مصراع مواليا وطلب من الشيخ أن يضيف اليه وهو: بالله يا بدر خذ لي في طرف عينك فقال الشيخ:

فإن مضناك يشكو سيدي بينك

ما فيك من شين غير الهجر يا حينك

لا أبعد الله ما بيني وما بينك

وأنشد شطراً آخر وقال له أجز فأنشد الشيخ:

بالله منيتي أرفق بهذا الصب

رشأ بحبك لقد صب المدامع صب

يهواك طفلاً رضيعاً يافعاً بل شب

وكلما شاخ حبك في حشاه شب

وأرسل الشيخ حسن إلى الشيخ زوادة لطيفة لما بلغه قرب سفره وكان ينتظر قدوم (البليك) فتعذر ذلك.

وجاء المشار اليه مصاحباً معه سنده في حديث المصافحة وقال له: أردت أن أتحفك بهذه التحفة، وصافحه وقال (صافحتك كما صافحني شيخنا الشيخ أحمد البنا، كما صافحه شيخه سيدي أحمد بن عجيل اليمني في منزله، كما صافحه شيخه تاج الدين النقشبندي، كما صافحه الشيخ عبد الرحمن المشتهر بحاجي رمزي، كما صافحه الشيخ محمود أسقرازي، كما صافحه أبو سعيد الحبشي الصحابي، كما صافحه سيد الأولين. وهذا سند شيخنا البديري، كما هو مسطر في ثبته مع زيادات فانتبه) وودعه مسروراً.

وكان قد وفد رجل طرابلسي أستأجر (شطية) مغفرة إلى البلاد فأجتمع به أصحابه السيد أحمد وأخواله وكلموه في نزول الشيخ معه فأظهر القبول. ثم عزم الشيخ على التوجه إلى العزبة مع الرفاق وحضر لوداعه الشيخ أحمد الأسقاطي، فاستجازه بمروياته فأجازه، وبعد أن ودع الإخوان توجه إلى العزبة، وبات بها ليلة.

وفي الصباح تعوقت (القياسة) حتى طلع الريح، فلما يمكن للمعدية أن تقطع العتبة فأحتاج أن ينام عند برج الشيخ محمد،

وكان قد قصده للتنزه والتفرج مع شيخه البديري، ويقول الشيخ (وهذا البرج فيه بعض مدافع، ترهب العدو، إذ الأمر الإلهي ما له مدافع، ولقد تمنيت أن لو مكنت فبنيت أبراجاً عدة، على سواحل البحر، يكون فيها للتغور نجده وعدة وعدة، وليست إلا حماية الله هي الواقية، وكفاية الله هي اللاقية، وجماعة العزبة صندهم رهبة للعدو وفي الفرار رغبة، فلا يستعمل على المراكب، إلا كل مغربي متين السيوف راكب، فإن لهم معرفة بالحرب، وحب في الطعن والضرب، وبغض في الكفرة اللئام، واقتحام في ميدان الأهوال العظام (كذا) فصعدنا البرج نهاراً، وثبنا لديه إلى أن زاد الفجر إسفاراً، وقطعنا العتبة أول النهار، والبحر ساكن، والقلب بعون الرب راكن، ووصلنا (الشيطية)، وأجلست في القمرة التحتية، وأعددت نزولي فيها من الذنوب السوالف، حتى جرى الدمع على الخدود والسوالف، ولقد كنت أتطير من النزول في المغفر، لما أسمع من تعاطيهم المنكسر، ولما عرف مستأجر المركب قبطانه فينا، أخذ يلاطفنا ويصافينا، حتى أنه أذاب ماء وسكراً ممزوجاً بماء الليمون، وأتاني به فلم أقبله خوفاً من نجاسة الماعون، فنادى المستأجر وأخبره بطهارته، فأعلمه بعدم شربه، ومن مهارته أمره أن يغسل آنية، وأن يتعاطى تذويب السكر بيده علانية، ففعل كما أمر وجاءني بها الريس، وأظن أسمه عمر، فشربت بعض شربي، حيث طاب قلبي، وصار يتلطف بي، ويدعى ودي وحبي، وأنا برئ منه ومن وداده، وفي غنية عن حبه وانقياده).

ونام أول ليلة وهو يتأمل سرعة الوصول إلى يافا، فتراءى له في المنام أحد شيوخ دمشق الشام وأسمه أحمد سراج، ونشر أصابعه الخمس، فاستفاق الشيخ مذعوراً، وبان أن المراد الإقامة في البحر خمسة أيام، ومكث الريح المريح أربعة أيام يهب ويستريح وقابل هو وإبراهيم البلاصي الحريشي الرسالة المرسومة (بالمنهل العذب السائغ لوارده، في ذكر صلوات الطريق وأوراده) وقابل (الألفية في طريق السادة الصوفية). وضاق الشيخ ذرعاً لطول الإقامة في البحر، من أمر النجاسة، فإنهم أي أهل المركب كانوا غارقين فيها حساً ومعنى ولأنهم لا يعرفون أنها من الخساسة.

وفي ليلة الخميس ويومه، طالت كربة الشيخ ومن معه، فتوسل بسيدي أحمد البدوي أن يسوق له صبيحة الجمعة (الريح الملثم ليخلص من القبطان وجنوده، جنود الشيطان، وجاءه القبطان يشكو قلة الماء، وأقسم بدينه أن الماء لا يكفيه غير اليوم مع التدبير، ولم يبق عنده إلا أواني الخمر. فأغتاظ الشيخ من كلامه وتأثر، وقال للمستأجر وكان هو الترجمان بينه وبين القبطان: إن الله سيسهل بالفرج ويزول الضيق، فقال له قل له بأمر الركاب يجتمعوا ويدعوا الله عسى يجيب. فأجابه الشيخ قائلاً للترجمان قل له أن في هذا اليوم المبارك بعد الظهر بيسير، يأتي الريح وندخل يافا قبل الغروب ولا أبات الليلة الداخلة إلا في يافا ذات الوجه النضير). ففهم القبطان ذلك وسر ولم يقطع بقول الشيخ. ولما زالت الشمس هب النسيم، ثم زاد على المعتاد حتى خال الشيخ (الشيطية) تطير في المسير، وخاف له فوق قمرته للتفرج على البحر، وكشف البر عقيب العصر وزال الضيق، وألقى المرياة ونزل الشيخ في (قياسة) صغيرة وبات في جامع البحر ليلة السبت وقد سر سروراً عظيماً. ورأى القافلة متوجهة إلى الديار، فحمد الله على تسهيل قرب المزار. وبلغ الوطن. ولما أستقر به المقام ورد عليه كتاب من الشيخ محمد البديري فلم يجب عليه إلا في بلاد الروم وأودعه في الرحلة الرومية، وبعد ذلك أرسل كتاباً إلى مفتي ثغر دمياط الشيخ حسن، وآخر إلى الشيخ محمد الحفناوي، ثم مرض الشيخ وأمتد أمر سقامه نحو سبعة أشهر وأيام، وفي هذه الأثناء جاءه كتاب من الشيخ محمد المذكور. وكانت والدة الشيخ وردت عليه للزيارة.

ثم اقتضى أمر أوجب سفر الشيخ إلى حلب الشهباء ذات الخفر، ولم ير بداً من التوجه لأمر اقتضاه الحال فعزم على المسير بعدما استخار الله، وكان قبل ذلك بشهر، قال له الدرويش يعقوب الهندي إن في نيته الذهاب إلى حلب فنفى الشيخ ذلك، فقال له الهندي بل بعد ذهابك اليها ستتوجه إلى بلاد الروم، فأجابه الشيخ ما الذي يصنع في بلاد الروم ولا غرض له فيها؟ فقال له إنها بلدته، ولما أراد السفر توجه معه إلى حلب ومنها فارقه إلى بغداد.

وتوجه بعد مدة إلى بلاد الروم وسطر ذلك في رحلة سماها (تفريق الهموم وتغريق الغموم في الرحلة إلى بلاد الروم) وأبقى الوالدة في داره في بيت المقدس، وقد حزن على فراقها ولكنه رضخ لحكم الأقدار (أنتهى).

أحمد سامح الخالدي.