مجلة الرسالة/العدد 798/القصص

مجلة الرسالة/العدد 798/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 10 - 1948



وحيدة

للكاتب الإنجليزي دوق آفنيل

ترجمة الأديب حسن فتحي خليل

كانت الحجرة الطويلة تلمع فيها الأضواء المنعكسة من زجاج النوافذ العالية، وضوء شمس الربيع الزاهية يلامس رؤوس المدعوين إلى حفل الزواج وقد انتشروا جماعات في اركان الحجرة.

وابتسمت السيدة تريل وهي واقفة وحدها على السلم الذي يفضى إلى تلك الحجرة. . . وتذكرت فجأة أشياء غريبة. . . فها هي حلقة جديدة من حياتها تبدأ اليوم.

لقد كان أول ما بدأت تلك الحياة تزوجت من ريتشارد، ثم لحقها تغير آخر حين مات زوجها بعد عشرين عاما. . والآن. ها هي ابنتها قد تزوجت، وقذفت الحياة أمها نحو مستقبل مجهول ولأول مرة ستغدو وحيدة.

ولقد حدثتها نان في ذلك قبل هذا بيومين وهي تحيطها بذراعيها وقالت: (أرجو أن تكوني بخير في وحدتك يا أماه. . لقد كنا معا دائما لمدة طويلة، أنا أعرف أنك ستفقدينني) فاتسمت السيدة تريل وقالت (لا تنزعجي يا نان، سأتغلب على هذا).

فقالت ابنتها: (في استطاعتك دائما الإقامة معنا أنا وتوم يا أماه) فاجابتها (سنرى ذلك)

ووقفت تراقب زوج ابنتها وهو ينتقل بين المدعوين.

ستغدو وحيدة، لا تطهي طعاما لأحد، ولا ترتب حجراتها لشخص ما، ستعود إلى منزلها في الغروب وتتناول عشاءها بمفردها. . وسيبقى الباب مغلقا حتى الصباح.

منذ عشر سنوات وهي لم تشعر بانفرادها ابدا، لقد كانت تحس بوجود نان بجانبها دائما، حتى وهي تحتسي القهوة مع صديقاتها أو وهي جالسة في ظلام دار السينما. لقد كانت فتاة طيبة، فحين توفي والدها أصرت على أن تبحث عن عمل، وكانت حينئذ في الثانية عشرة من عمرها. وباجتهادها وتوفرها على عملها امكنها بعدسنتين ان تغدو سكرتيرة لرئيس العمل.

وبعد خمس سنوات تغيرت حال عائلة تريل فإذا هم يذهبون لقضاء أيام العطلات في وركواي وينزلون في الفنادق الفخمة ويقيمون حفلات الشاي والكوكتيل الأنيقة.

ولقد قالت السيدة تريل يوما لابنتها ثان (أليس من الأوفق يا عزيزتي أن نقيم في أماكن أقل تكاليف، فأنا أعتقد أن نقودك لن تحتمل كل هذا، وأنا لا أرغب في كل هذه الكماليات كما تعرفين).

ولكن نان ابتسمت وهو تقول (يجب أن نتمتع قليلا يا أماه. أني أوفر لك السعادة وما عليك إلا أن تستريحي وتتركي لي أنا التصرف في أمورنا المالية).

ولم تتناول السيدة تريل هذا الموضوع بالحديث ثانية. إن نان فتاة طيبة. إنها تتذكر حين كانت تصحبها وهي طفلة إلى شاطئ البحر. كان زوجها ريتشارد ما يزال على قيد الحياة حينئذ، كانتا تتمشيان على الشاطئ فتهمس إليهما الأمواج ويداعب الماء أقدامها، ويستمتعان بتلك الأنوار السحرية التي تلمع في أركان السماء الداكنة، ثم يقفان خلف المقاعد يستمعان إلى الموسيقى النحاسية تعزفها الفرقة العسكرية. . وكانا يحرصان خلال هذه الأيام على كل بنس يمتلكه.

ولكن نان بدلت من كل هذا، فلقد اصبح منزلهما أنيقا. وهي تذكر دائما كلما وضعت قبعتها ومعطفها صوت نان تسألها:

- (أخارجة أنت يا أماه)؟

- (نعم يا عزيزتي)

- (أتقصدين مكانا معينا)؟

- (كلا. . . سأتمشى قليلا في الحديقة).

- (سأصحبك. . فلا يجب أن تذهبي وحدك أبدا، وسنحتسي القهوة معا حين نعود).

وهكذا. . كانا يذهبان إلى كل مكاناً معا، وكانت تحرص نان على ألا تكون والدتها وحيدة.

وسار الحال على هذا المنوال حتى العام الماضي، حينئذ ظهر اسم توم بيرنز في أحاديث نان، كان رئيسها، وهو شاب طويل أنيق ذو ابتسامة جذابة.

وأصبحت نان ترتدي ملابسها في أوقات الغروب وهي تقول لوالدتها:

- (أتسمحين لي بالخروج)؟ - (طبعاً). . .

- (أقصد أنك ستبقين بمفردك هذا المساء).

فتبتسم السيدة تريل لابنتها وهي تقول - (أنت فتاة طيبة يا نان. . اخرجي وتمتعي).

وحتى في هذه الأوقات وبالرغم من وجودها في المنزل بمفردها، كانت تشعر بوجود نان معها دائما، وكنت تعرف بأأن المفتاح سرعان ما يدور في ثقب الباب بعد الحادية عشرة بقليل. . وعليها أن تقوم بتحضير القهوة وترتيب البهو فربما جاء توم مع ابنتها.

ولقد كان توم فتى لطيفاً، وحينما طلب يد نان ابتسم في خجل وهو يقول:

- (أنا أعرف أنكما متلازمتان. . وأنا لا أرغب في أن تشعري بالوحدة حين تتزوج نان، وأرجو أن تعتقدي أننا نرحب

بك للإقامة معنا دائما).

ولكن السيدة تريل كانت تخشى دائما التدخل في حياة أي فرد. إن الشابين الصغيرين سيرغبان في الانفراد، وعليهما أن ينعما بحياتهما الخاصة، لذلك قالت (سنرى ذلك يا توم).

والآن قد بدأت الحلقة الجديدة، وسيظهر أفق حديث في حياة السيدة بريل. وكانت ما زالت واقفة في مكانها على السلم وهي تبتسم لهذا الطوفان من الذكريات.

وتجمع الضيوف ولاحظت توم هو يشير إليها ويصيح بكلماته التي لا تسمعها وسط الضجيج، وبدأت تهبط السلم، ثم سلكت طريقها بين المزدحمين. كان شعورها يبعد بها عن الضجة والمرح إن سعادتها يشوبها الجد وإحساس دقيق من الأسى لمرور الوقت وانتظاراً للحظة - الفاصلة -.

وأخذت ثان بيدها وهي تنظر إليها بعينين لا معتين ثم قالت:

- (الوداع يا أماه).

- (باركك الله يا ثان).

- (آه. . . يا أماه. . . أرجو ألا تشعري بالوحشة، بل يجب ألا تستسلمي لذلك الشعور).

- (الوداع يا عزيزتي ثان).

وفتح الباب فانتشر ضوء الشمس وتعالت الأصوات المرحة حول السيدة تريل الواقفة في هدوء على عتبة المكان وأشارت إليها نان بيدها وهي جالسة داخل السيارة. وضحك توم. .

ثم تحركت السيارة. . وزادت سرعتها حتى اختفت في منعطف الشارع.

وظلت السيدة تريل واقفة وقد غمرها شعور من الأسى ولم يقطع خيط تأملاتها سوى صوت يقول:

- (يا عزيزتي السيدة تريل. . كم ستفتقدين ثان!)

كانت جارتها في المنزل، فابتسمت قليلا ثم قالت في هدوء:

- (سيبدو الأمر غريبا بدونها)

- ستغدين وحيدة، لقد قضيت معها أوقاتا طيبة. أيام العطلات في توركواي. . مآدب العشاء في المنزل، كل هذه أشياء ستثيرك. . ومع هذا. . هل ستقيمين بمفردك؟)

فهزت السيدة تريل رأسها وهي تقول (أعتقد أنه يجب أن أسافر لبضعة أيام أولا. .)

وكانت ما زالت تبتسم في هدوء والسيارة تنقلها خلال الشوارع المزدحمة إلى منزلها.

هبت نسمة دافئة حين وصلت السيدة تريل إلى تلك البلدة على شاطئ البحر التي اعتادت أن تزورها وابنتها وزوجها حينما كان على قيد الحياة، وسارت السيدة تريل في بطء بمحاذاة الشاطئ، كانت الأضواء تتلاعب فوق رأسها، وجعلت تراقب الصيادين وهم يقومون بعملهم. . وتمشت على الرمال. . . وكانت معالم الناس تختفي في ظلال الظلمة الهابطة. . وأحست بانفرادها لا يواجهها سوى البحر، وسرحت نظرها في الشاطئ من أوله إلى آخر ما يحده بصرها. .

كانت غارقة في ذكرياتها. . لطالما مرت بها كل هذه المناظر من قبل، وإذا بالماء يداعب قدميها، فتشعر بإحساس من الغبطة يملأ نفسها بالرغم من وحدتها).

حسن فتحي خليل