مجلة الرسالة/العدد 798/شعوب القوقاز

مجلة الرسالة/العدد 798/شعوب القوقاز

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 10 - 1948



للأستاذ برهان الدين الداغستاني

(مهداة إلى الأستاذ محمد أسامة عليية تعقيبا على ما نشره في العدد 784 ص797 من الرسالة الغراء).

سيدي الأستاذ: قرأت - وأنا على أهبة السفر إلى الإسكندرية في طريقي إلى دمشق، ما كتبته تحت عنوان: (نصوص تاريخية في الرد على تعقيب) فلم يكن في الوقت متسع، ولا في البال فراغ، فلم أستع الكتابة يومئذ، ثم تلاحقت المشاغل، وتواردت الموانع، واتصلت حتى استطعت أخيرا أن أختلس بعض الفراغ لأبعث إليكم بهذه الملاحظات التي أرجو أن تلقى لديكم بعض العناية والرعاية والصدر الرحب.

إنكم نقلتم عن تاريخ الجراكسة للأستاذ محمد بك فكري ما نقله عن المؤرخ الفرنسي (س لامار) من أن الكرج، والجركس، وللزكي والحجبي فروع أصل واحد، ثم نقلتم عنه أيضا قوله: دلت التدقيقات العلمية والتاريخية على ان الجركس والكرج ينتميان إلى (حد) مشترك.

وأحب أن أوجه نظركم الكريم إلى أن موضع النزاع بيني وبينكم - إن كان هناك نزاع - هو أن يكون الكرج، والجركس، واللزكي، والحجب شعبا واحداً، لا أن يكونوا (فروع) أصل واحد، أو منتمين إلى (جد) مشترك! كيف ونحن - معشر المؤمنين بوحى السماء - مازلنا نعتقد أن الشعوب كلها تنتمي إلى جد مشترك؟ أما من هو هذا الجد المشترك، أو الأصل الذي تفرعت عنه هذه الفروع وفي أي عصر كان؟ فهذا مالا أحب أن أعلق عليه أو ألقى إليه بالا!. ويبدو لي أنك شعرت بينك وبين نفسك أن ما نقلته عن (س لامار) لا يجدي عليك في دهوك فتيلا، ول يغني عنك شيئا، فنقلتما جاء في كتاب الجراكسة عنوان عام يشمل القبائل الأصلية القوقازية، فيكون الجركس يؤدى مؤدى القوقاس) فمن أين للأستاذ محمد بك فكري هذا، وما سنده من التاريخ القديم؟.

وكيف اتسحتم نقل مثل هذه الدعوى الخيالية من أي سند في معرض التدليل؟.

وهل هذه إلا المصادر المعروفة عند الجدليين؟!.

على أن من الطريف أن محمد بك فكري ادعى في تاريخ الجراكسة (ج1ص6) (أن لفظ الجركس عنوان عام يشمل القبائل الأصلية القوقازية) ثم رتب على هذه الدعوى هذه النتيجة: (فيكون الجركس يؤدى مؤدى القوقاس) قبل أن يدلل عليها، ثم نقل في (حـ1ص12) عن (س لامار) أن الكرج، والجركس، واللزكي، والحجب، (فروع) أصل واحد، وفي (حـ1ص22) قال: (دلت التدقيقات العلمية والتاريخية على أن الجركس والكرج ينتميان إلى جد مشترك).

فهل هذا الذي نقله في (حـ1ص12، وحـ1ص22) يتفق مع ادعاه وقرره في (جـ1ص6)؟.

ويظهر أنكم شعرتم باضطراب موقف صاحب تاريخ الجراكسة، فغيرتم ترتيبه، فنقلتم ما كتبه في (حـ1ص12، وحص22) أولا، ثم نقلتم ما كتبه في (حـ1ص6) أخيرا. ولكن هل هذا التقديم، وذلك التأخير غيرا من أصل الموضوع شيئا؟. والظاهر أنك شعرت بهذا الاضطراب في نصوص كتاب تاريخ الجراكسة وأنها لا تؤدى إلى ما قصدت فأوردت أسطورة - إن شئت سمها احجية - (أركس، وآس، وتركس، وكسا) نقلا عن (عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان) للبدر العيني.

ولهذه الأسطورة عندي تاريخ قديم، وحديث عجيب، ما كنت أحب أن اعرض له ولولا أنكم أوردتموها واثقين بها معتمدين عليها، فرحين بها، مغتبطينين لها، فقد حدثني بها من عهد بعيد أستاذ جليل القدر، كريم المنزلة، أعزه وأحترمه وأحفظ له في نفسي تقديرا واحتراما، وإكبارا وإجلالا، ولا حاجة الآن إلى ذكر اسمه الكريم، وإن كنت اعتقدأنه هو الذي أخبركم بأسطورة البدر العيني أيضا، فصارحته برأيي في قمية هذه الرواية التي لم يعرفها أحد قبل عصر البدر العيني، والتي لم تظهر إلا في ظل سلطان المماليك وفي مقر دولتهم، ومركز عزهم في مصر، وأذكر أني قلت له يومئذ: إنها أشبه بأسطورة أو أحجية وضعت وضعاً لإرضاء السلطان وتزلفا إلى أصحاب النفوذ. وألا فكيف لم يطلع على هذه الرواية - إن كان لها أصل - أحد من المؤرخين قبل البدر العيني، وخفيت عليهم جميعا حتى أوحى بها إلى البدر العيني في الزمن الأخير في عهد صولة المماليك - وجعلهم أو كلهم من الجراكسة المنتشرين في القوقاز الشمالي الغربي - وسلطانهم المبسوط في مصر والشرق؟

كان هذا رأيي في رواية البدر العيني هذه من عدة أعوام، وأن الأيام لم تزدني إلا إيماناً، واستمساكا بهذا الرأي، فهي رواية ولدت وترعرعت في ظل حكم المماليك الجراكسة من غير أن يكون لها سند من تاريخ، أو مرجع تعتمد عليه.

ومن هذا القبيل ما شاع في كتب بعض المؤرخين الذين عاشوا في عهد المماليك واتصلوا بهم مثل ابن خلدون من إطلاقهم اسم جبال الشركس على جبال القوقاز أو تسميتهم شعوب القوقاز جميعا شراكسة فإنه اصطلاح حديث نشأ في ظل سلطان المماليك الشراكسة، وانتشر في عهدهم.

وفي ظني أن هذه الرواية التي أوردها البدر العيني، وهذا الاصطلاح على تعميم اسم الجركس على جميع القوقازيين ما هو إلا من قبيل التقرب إلى السلطان الجركسي والتزلف إليه، لأن معظم هؤلاء المماليك - أو كلهم - كان من أتى بهم من سواحل البحر الأسود حيث مساكن قبائل الجراكسة. ومن هذا القبيل أيضا تلك الدعوى الطويلة العريضة التي كانت تزعم أن الجراكسة من قريش! وألفت في يوم من الأيام لاثباتها الرسائل؟!

على أن البدر العيني - حسب رواية الأستاذ - يبدأ كلامه بدءاً غير موفق إذ يقول: ومن الترك الجركس الخ. فهل يسلم الأستاذ مع البدر العيني أن الجركس من قبائل الترك؟

ثم إنك - يا سيدي الأستاذ - بعد أن تفرغ من رواية أسطورة البدر العيني وشرحها وتوجيهها كما تشتهي قلت:

(واتبع البدر العيني المصطلح القديم، وهو إطلاق الجركس على القبائل الأربع التي في جوانب جبل القوقاز).

فأي مصطلح قديم هذا الذي تشير إليه؟ ومن الذي ذكره وقال به قبل البدر العيني؟

وأما تفسير كلمة (جركس) وادعاء أن اصلها الكريم جهاركس. ومعناها في لغة الفرس الرجال الأربعة فإنه لا يهمنا في الموضوع الذي نحن بصدده قليلا أو كثيراً؛ لأن هذه الدعوى وهذا التخرج مهما قيل فيهما لا يزيدان ولا يرجحان على محاولة سابقة لشرحه كلمة (الجركس) فقد زعم زاعمون من قبل أن أصلها مركب من كلمتي (جرا)، (كسا) وأن المرحوم (كسا) كان من أشراف قريش، فجنى جناية وهرب إلى القوقاز، وأقام بها، وعلى هذا يكون أصل الجراكسة من قريش!

هذا تعليق حاولت أن أجعله وجيزاً جهد الطاقة على ما دعوته نصوصا تاريخية، وما هي من التاريخ في شئ.

وبعد هذا أضع بين يديكم بعض الأسماء التي كانت معروفة في التاريخ القديم لسكان جبل القوقاز، والتي أطلقها عليهم قدماء المؤرخين، وأبدأ ذلك بأن المؤرخين العرب الأقدمين كالسعودي وغيره كانوا يسمون جبال القوقاز بلاد القبج أو جبال القبج لا جبال الجركس أو بلاد الجركس كما نص على ذلك المرحوم شيخ العروبة أحمد زكي باشا في قاموس الجغرافيا القديمة. هذا بالنسبة إلى منطقة القوقاز جملة.

وأما أسماء سكان البلاد تفصيلا، فإن سكان الجهات الشرقية الشمالية من القوقاز - حيث مساكن الداغستان، والحجب، وشروان الآن - كانوا يسمون في بعض الكتب القديمة ألبانيين وكانت بلادهم تدعى ألبانيا. كما ذكر ذلك أيضا المرحوم زكي باشا في كتابه السابق.

وإن اسم الحجب كان معروفا قديما، وكان يطلق على الشعب الساكن في الشمال من بلاد الداغستان حيث مساكن الحجب إلى يومنا هذا.

كما أن اسم الأورا - وهم أسلاف اللوزكيين الحاليين من الداغستان - كان معروفاً حول القرن الرابع الميلادي، وقد أطلق على شعوب القوقاز الضربين في الجانب الشرقي للقوقاز أسماء مختلفة منثل الخزر، قوميق، ألان. وهذا الاسم الأخير يظهر لي أنه اسم اللزكيين القديم، فهو يطلق في الكتب القديمة على شعب مقيم في مساكن اللزكيين الحاليين، وأن ظن بعض الكتاب أنه اسم الأوسيت. ذلك أن الأوسيت معروفون باسم الأوسيت من قديم، ويسكنون في جهة تقع في الشمال في قلب منطقة الجبال على الشمال الغربي من واقع اللزكيين.

هذا في القسم الشرقي من القوقاز، أما في القسم الغربي منه فإن اسم الأديفة كان معروفا من قديم، وما زال يطلق على سكان الجزء الشمالي الغربي من القوقاز، ويمكن اعتباره اسما جامعا لشتات قبائل الجركس المنتشرة في تلك الجهة مثل: أبهاسو، الأوبنج، الشبوغ، الأبزاخ، القبرطاس، الأبازة. مع ما بين قبيلة الأبازة وبين بقية قبائل الجركس من اختلاف في اللغة يتعذر معه التفاهم بين هؤلاء وأولئك.

هذه هي الأسماء التي كانت تطلق قديما على سكان القوقاز الشمالي شرقيه وغربية، ثم ظهر فجأة اسم الجركس في العصور المتأخرة، وصار يطلق على بعض - وأحيانا على كل - القبائل الساكنة في القوقاز الشمالي الغربي، ثم انتشر هذا الاسم وصار يطلق - من غير تحقيق أو تدقيق - على جميع سكان القوقاز في عصر المماليك كما فعل البدر العيني، ومال إليه ابن خلدون، ثم شاع هذا الاستعمال في الشرق الأدنى في فترة أخرى من التاريخ على أثر تلك الهجرة الواسعة النطاق التي قام بها الجركس إلى الممالك العثمانية على أثر تغلب الروس عليهم واحتلالهم لبلادهم.

ولكن هذا كله لا يجعل هذا الإطلاق صحيحا أو دقيقا، بل لا يعدو أن يكون ضربا من ضروب التساهل من الكتاب أو عدم وقوف على حقيقة الحال من تنوع الشعوب في تلك الأقطار الشاسعة، واختلاف أصولها وتنوع أجناسها،

وإن الحديث عن شعوب القوقاز، وكثرتهم واختلاف السنتهم وألوانهم حديث قديم طويل، حتى كان المؤرخون القدماء من العرب يسمعون القوقاز بلاد الشعوب والجبال، وكان زاعمهم يزعم أن في تلك البلاد نيفا وسبعين شعبا لكل شعب لغته الخاصة به!. كذلك كان صنيع مؤرخي الرومان واليونان، فاسترابون يؤيد نيف وسبعين شعبا، وهكذا بقيت هذه الأسطورة عالقة بالأذهان إلى عصور متأخرة جدا حتى جاء علم اللغات المعاصر، وأعار هذه القضية أهمية هاصة، وبحث مسألة تعدد لغات القوقازين بحثا علميا دقيقا، واستطاع أن يهدم تلك النظريات، والآراء الشائعة المبنية على معلومات غير دقيقة، ففي أواخر القرن السابع عشر الميلادي ابتدأ العالمان الألمانيان: (تليدن أسناد) و (بالاس) الأبحاث العلمية عن أصول اللغات القوقازية، واستطاعا إرجاعها إلى الأصول الآتية:

1 - اللغة التتارية: وهي لغة الشعوب التركية الأصل.

2 - (اللزكية: وهي لغة الداغستان.

3 - (الكستينية: وهي لغة الحجانيين.

4 - (السركسيانية: وهي لغة الأديفة.

5 - (الأوستينية: وهي لغة الأوسيت من الشعوب الإيرانية القديمة.

6 - اللغة الكرتفليانية: وهي لغة الكرجيين.

وأصبح هذا التقسيم للغات القوقازيين أساس علم اللغات القوقازية فيما بعد استند عليه علماء القرن التاسع عشر واعتمده.

وفي القرن العشرين أكد العلمان (الفونس دير) و (نقولامار) نتائج أبحاث أسلافهما في تقسيم اللغات القوقازية ويرى عالم آخر من علماء القرن العشرين أن اللغات القوقازية يجب أن تقسم إلى فصائل أربع وهي:

1 - اللغة اللزكية: وهي لغة الداغستان

2 - (الججانية.

3 - (الكرتفليانية: وهي لغة الكرج.

4 - (الإبهاسية: وهي لغة قبائل الجركس.

ويعد بعضهم لغة الداغستان ولغة الججان من فصيلة واحدة وبناء على نتائج هذه الأبحاث العلمية يمكن تقسيم شعوب القوقاز الشمالي إلى قسيمين أساسيين:

1 - سكان القسم الغربي من القوقاز وهم: الأبهاسو، والأوبنج، والشيوغ، الأبزاخ، القبرطاس، الأبازرة. وهي جميعا قبائل جركسية.

2 - سكان القسم الشرقي من القوقاز الشمالي وهم: الداغستان والججان. وإلى هذين القسمين الرئيسين يمكن إرجاع بقية الشعوب والقبائل المتتشرة في القوقاز مثل: قره جاي، بالكار، قوميق، نوغاس، وهذه كلها من الفصيلة التركية، وأوستين. وهي من الفصيلة الإيرانية، التي منها الفرس والكرد والأفغان.

هذا وقد سلك العلامة الدين سامي بك في قاموس الأعلام مسلكا آخر في تقسيم شعوب القوقاز، فهو يقسمهم أولا إلى سكان أصليين وأقوام طورانيين، وأمم آريه، ثم يقسم السكان الأصليين فيقول:

أما سكان القوقاز الأصليين، فهم أقوام وأجناس وشعوب كثيرة، ويكن إرجاعهم إلى هذه الأقسام الرئيسية:

1 - الجركس الذين يسكنون حوض نهر قوبان وبالقرب من منابع نهر ترك الغربية في القسم الغربي الشمالي من القوقاز، ويكن أن يضم إليهم الأبازة الساكنون في منحدرات سلسلة الجبال الغربية الجنوبية على القرب من سواحل البحر الأسود. والججن الساكنون إلى الشمال من بلاد الداغستان.

2 - سكان بلاد الداغستان الأصليين، وهم اللزكيون الساكنون في المناطق الشمالية من جبال القوقاز، وهؤلاء اللزكيون من سكان القوقاز الأصليين، كانوا يسكنون هذه البقعة من أقدم العصور حتى إن (هردوت) ذكرهم بهذا الاسم في تارخه الذي كتب في حدود 450 قبل الميلاد. ويحتمل أن يكون لهؤلاء اللزكيين صلات نسب وقرابة مع الكرج والجركس واللاز وغيرهم من أمم القوقاز الأصليين، غير أن إثبات هذه الصلة بين هؤلاء الأقوام يفتقر إلى ما يثبته، فهو مجرد احتمال لا دليل عليه.

3 - سكان المنطقة الجنوبية من سلسلة الجبال أمثال الكرج والإيمرت والمنكرلي. وإذا كان بعض المحققين من العلماء حاول عد الكرج من الأمم الطوارنية أو الآرية إلا أن الأدلة التي ساقوها إثبات ذلك لا تعد كافيه.

على أن بعض الأبحاث التي أجريت حول لغة الكرج تدل على أن الكرج مثل بقية أمم القوقاز لا يمتون بصلة إلى الآربين أو الطورانيين او الساميين، بل يغلب على الظن أنهم بقايا أمم قديمة منقرضةكانت اجتازت هذه المناطق في أثناء هجراتها من آسيا إلى أوربا، ومن أوربا إلى آسيا.

4 - أمة الأوسيت، وسوآنت الساكنون بالقرب من منابع نهر ترك.

هذه خلاصة وافية لما ذكره العلامة شمس الدين بك سامي في قاموس الأعلامعن شعوب القوقاز، ومنه ومما قبله من بينات وآراء للعلماء والمؤرخين الموثوق بآرائهم يتبين أن الداغستانيين والكرج، والججان، والأوسيت، والجركس أمم قائمة بذاتها لك واحدة منها لغتها أو لغاتها الخاصة بها، ولها كيانها المستقل. وعلى ذلك أرى أني حين قلت في الرسالة (العدد 783 ص770): إن اللاز يمتون بصلة النسب أو القرابة إلى الكرج، وأن الكرج غير الجركس لم أكن مجانبا الحقيقة، ولم أكن أحاول تسيير التاريخ حسب الهوى والغرض كما أردت أن تصوني أمام قرائك، بل كنت اقرر حقيقة علمية ثابتة لا سبيل إلى إنكارها، أو التحايل على طمسها.

وبعد: فإني أشكرك - يا سيدي الأستاذ - جزيل الشكر على أن أتحت لي هذه الفرصة للتحدث عن شعوب القوقاز بشيء من الإفلضة والتفصيل. والسلمام عليك ورحمة الله.

(دمشق) برهان الدين الداغستان