مجلة الرسالة/العدد 799/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 799/الأدب والفن في أسبوع

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 10 - 1948



للأستاذ عباس خضر

الدروس الخصوصية:

يهتم معالي عبد الرزاق السنهوري باشا وزير المعارف بمشكاته الدروس الخصوصية. ويعمل مع رجال الوزارة على أيجاد حل حاسم لها. وداء الدروس الخصوصية قد تغلغل في السنوات الأخيرة حتى تسرب إلى رياض الأطفال هابطا وبلغ الجامعة صاعدا. وقد احس معالي الوزير بخطره منذ العام الماضي فأصدر قراراً بان يكون الحد الأقصى لكل مدرس في الدروس الخصوصية تسع حصص في الأسبوع، يكون ذلك عن طريق ناظر المدرسة ولكن أحدا لم يتقيد بهذا الحد وظلت الحال على ما هي عليه، وقال النظار أنه لم تقدم لهم طلبات في شأن الدروس الخصوصية، وبدت المشكلة بهذا الوجه تحاول أن تستعصي على العلاج.

والواقع أن الدروس الخصوصية تجني على الطلاب وأوليائهم كما تجتي على المدرسين أنفسهم، وإذا نظرنا إلى الأفكار الحديثة في التربية التي تؤيدها المشاهدة والتجارب، والتي ترمى إلى تكوين شخصية الناشئين عن طريق استقلالهم في مواجهة التبعات والصعاب مع الملاحظة والتوجيه عند الاقتضاء - إذا نظرنا إلى ذلك نجد أن هذه الدروس الخصوصية إنما هي رجعية منكرة في التعليم. وهي بعد تغري الطالب بالتكاسل والتشاغل عن الدروس في المدرسة، اعتماداً على أن (بابا) سيتفق مع المدرس في آخر السنة على كذا من الحصص بكذا من الجنيهات، ويتم النجاح بفضل هذه الجنيهات!

ثم هؤلاء الأطفال الذين نحملهم إلى الرياض ليلعبوا ويمرحوا ويحيوا حياة اجتماعية تناسبهم، ولتنتهز المربيات الفرص لتنمية ملكاتهم وأذواقهم وتنشيط أذهانهم وإمدادها بقليل من المبادئ ما ذنبهم حتى نزعجهم بطلعة المدرس في المنزل ونستبدله لهم بما يحبون من الدمى واللعب! ونغرس في نفوسهم منذ الصغر كراهية التعليم؟

وأنا لا أستطيع أن أتصور إثما في التعليم أشنع من إعطاء الدروس الخصوصية لطلاب الجامعة، لأنه إخلال بوظيفتها الأولى والأخيرة وهي التعويد على البحث وتكوين الفكر المستقل، على أن من شر الدروس الخصوصية في التعليم العام أنها تدليل علمي للط يفسده على الدراسة الجامعية، فما بالك إذا دلل الكبار في الجامعة؟

أما آباء التلاميذ وأولياؤهم - من أبناء هذا الشعب المكدود - فهم مساكين. يوشكون أن يلقوا في المدارس ما يلقى الناس في المستشفيات من أطباء يتراخون في المستشفى وينشطون في العيادة!

وأما المعلمون فهم أشد مسكنة من الجميع، لأنهم يجدون أنفسهم مضطرين إليها مع ما تصيبهم به من الإرهاق وما تسببه لهم من قعود عن الاطلاع وتزويد أفكارهم وأذهانهم بما يفيد ويمتع من ألوان الآداب والعلوم والفنون.

إن المعلم على رغم ما ناله في السنوات الأخيرة من تحسن طفيف، لا يزال يلقى العنت في حياته المادية، فهو قلق في هذه الحياة التي لا يوصله فيها مرتبه إلى مطالب عيشه الضرورية، فهو إذ يلجأ إلى الدروس الخصوصية لا ينبغي أن يواجه بالمنع أو العقاب ويسكت على ذلك، بل يجب أن ييسر له العيش الكريم تيسيراً يحفظ عليه كرامته يصل به إلى مستوى يستطيع فيه أن يستغني عن هذه الدروس الخصوصية، فإذا سعى إليها طامع جشع ردع بما يستحق من العقاب.

ولا يكفى في حل هذه المشكلة أن يحدد ما يباح لكل مدرس من عدد الدروس الخصوصية، بل يجب أن تحسم بالتحريم القاطع، إلا فيما عسى أن يكون من ضرورة تلجئ إليها حالةالتلميذ. وثمة نقطة لابد من الالتفات إليها، وهي أن المعلم لا يعطى دروساً خصوصية لأن عنده فضلا من جهد ونشاط، فهو مرهق في المدرسة ولا شك، وإنما تبعثه إليها الرغبة في رفع مستوى عيشه، فلا يصح أن يكون من علاج مشكلة الدروس الخصوصية أن يزاد عمله في المدرسة وتضاف حصص إلى (جدوله) بل أنا أذهب إلى عكس ذلك فأقول بالتخفيف عنه ليتاح له أن يعالج في نفسه مشكلة الاطلاع والتزود الفكري، وأبيح لنفسي ـ ولست بعيداً عن المعلمين ـ أن أقول صراحة إنهم يعيشون في اجداب فكري يهدد مستقبل الثقافة في هذه البلاد، وهم يدورون في المدارس دورات آلية تتكون كل منها في حجرة المدرسين حيث يبدأ بنقل ما في الكتب المدرسية إلى دفاتر التحضير ثم يلم التلاميذ شعثها ويضعونها في كراساتهم التي يحملها المعلم إلى حيث بدأ للتصحيح. . . ويتم كل ذلك بطريقة آلية مكررة لا تجديد فهيا، وأكاد أقول: ولا تفكير! وليس ذلك لأن العلم عاجز أو تنقصه الكفاية، فقد درس وحصل وتخرج في الكلية وفي أعلى معاهد المعلمين، ولكنه أرهق بالعمل وحرم الفراغ الذي يستغله في مداومة الاطلاع، فاضطر أن يحيا في شبه انقطاع عن زاد العقول، كما اضطر أن يؤدى عمله على الطريقة الآلية السابقة.

حول صانع البؤس:

تلقيت رسالة من أستاذ جليل ضمنها رأيا في (الخلق والفن) لا يتفق - من حيث العرف الاجتماعي والاعتبار الرسمي - مع مكانه من المجتمع والرسميات. ولهذا قال في أول رسالته: (أنا - كما يعلم كثير من الأدباء - يزعجني أن يطرح اسمي مطرحاً يجعله موضوعا لحديث عام؛ وربما جاشت النفس بالخاطر يثيره رأي منحرف، أو نظر حصيف، واعيا أمام شهوة الكتابة، فأسترها مبالغاً، حتى أوفق بين العاطفتين المختصتين. لذلك أضع هذا الخطاب الخاص بين يديك على أنه أمانة لا يحل التصريح باسم صاحبها، ولا وصفه وصفا محدداً، إن أنت عرضت له في أسبوعياتك؛ وغضب الله عليك إن خنت هذه الأمانة).

ولذلك ابتعدت عن الوصف المحدد، وعن غضب الله. . . . وأقدر للأستاذ الكبير حريته - المقيدة بمركزه - في إبداء رأيه، واشكره على ما أضفاه على من عبارات التقدير والثناء، وإنه ليسرني أن أكون عند مثله كما وصف.

وأعرض بعد ذلك الموضوع الذي عرض له، قال: (أخذت عليك رأيك في (صانع البؤس)، فإن صانع البؤس ليس الديب، ولكن انحرف مزاج اليب، الذي ما كان يملك تقويمه، ولا يستطيعه لو حاوله. وفي الشاعر الحاذق النواسي، الذي ما كان الديب ولا غير الديب يتعاق بغباره، والذي يقول فيه النقاد: إن الشعر كان أقل أدواته، ما يقرر مذهب الديب في الحياة؛ ثم فيما قاله هو عن نفسه: (أي شاعر يتبعله ابن الحباب) ما يقطع بأن الانحلال الخلقي ليس معوقا عن الفن الرفيع؛ بل ربما بما جازفت ب. . . . . . فقلت: (إن الخلق الكريم والفن الرفيع قلما يلتقيان. وعلى الجملة كل ما قلته صحيح، ولكن الحكم على فن المنحلين بما حكمت في حاجة إلى استدراك).

وأقول: أولا إنني لم أحكم على فن عبد الحميد الديب، وإنما أردت أن أصحح خطأ شائعا يتعلق بحياته فقلت: إنه لم يكن بائسا حقيقياً، وإنما كان يصنع البؤس، وتضمن السياق ما يدل على انحلاله. وسواء أ: ان الديب هو صانع البؤس أم انحرافه، فهو وانحرافه (متضايفان)، وقد تعلمنا أن الإسناد إلى أيهما صحيح

أما مسألة الانحلال، فقد كان لكلامي فيها إشارة إلى لون من الناس يحلو لهم أن يصطنعوا الانحلال دلالة على أنهم أدباء وفنانون! ألم يكن الديب الشاعر منحلا؟ وهم منحلون، فهم إذن في الأدب والفن عباقرة العصر في مصر!

وأنا إن كنت أوافق الأستاذ على أن الانحلال الخلقي لا يعوق الفن إلا أنني أقف عند قوله: (إن الخلق الكريم والفن الرفيع قلما يلتقيان) فلا أسلم بهذه القضية.

إن النابغين من ذوي الانحلال الخلقي يجيدون حقا في التعبير عن ميولهم وتصوير تجاربهم، وهم كثيرون، ولكنهم لا يغلبون على ذوي الخلق الكريم، وأنا لا أميل إلى التعبير الخطابي، وإنما أريد أن أفرق بين الانحراف في الخلق والشخصي وبين الانحلال في الصفات الإنسانية الرفيعة، وقد اجتمع الاثنان الديب، ومن النوع الثاني فيه الحقد وعدم الوفاء ومقابلة الإحسان بالمساءة، وهذا النوع لا يقبله الفن الرفيع. وعلى ذلك أقول الآن: إن الديب لم يكن ذا أدب رفيع.

الشخصية السليمة:

ألقى الدكتور إبراهيم ناجي محاضرة نفسية موضوعها (الشخصية السليمة) بنادي رابطة الأدباء يوم الأحد الماضي، فعرف الشخصية بانها التجاوب المنسجم بين البيئة وين العقل والشعور المتماسكين، وشرح التماسك بأن وحدات العقل واتجاهات الشعور قد تختلف فيما بينها ولكنها كمجاذيف السفينة تختلف اتجاها وتتحد في الهدف، فالعوامل النفسية تتنازع، ولكنها تتفق على الغاية فتمضي إليها كالتيار الجاري. ويقابل التماسك الصراع وهو أن تتعارض العناصر ويعمل كل منها ضدالآخر، فينفك بناء الشخصية. وقال إن في متناول أيدينا أن نجعل من اتجاهات نفوسنا طرقا قوية متلاصقة متلاحمة متوازية، وأول عامل في بناء الشخصية هو ما يسمى (قبول النفس) وهو أن يقبل الإنسان نفسه كما هي، لا يجزع من عيوبه ولا يعدها مهانات بل قيودا عليه أن يحطمها، ولا يعدها عوائق بل حوافز تدفع إلى الأمام، فيواجه نقائصه ولا يهرب منها، كما فعل سقراط إذ ألف أرستفانيس مسرحية تندر به فيها، وكان سقراط حاضرا يوم تمثيلها فلما عرضت شخصيته وقف لكي يراه الجماهير. فليس الشعور بالنقص عيبا فهو أمر طبيعي، وإن أول سبب لاعتلال الشخصية هو اعتبار الصفات الغريزة عاهات يجب تغطيتها بمختلف الوسائل، فالواجب تحويل انقص إلى كمال، فصاحب الحياء أو محب العزلة يمكنه أن ينتفع بعزلته في البحث والتأليف، وصاحب الفضول والتطلع ينتفع بطبعه هذا بأن يكون شرطيا سريا أو صحفيا.

ثم تساءل الدكتور ناجي: هل البيئة الواحدة تخلق شخصيات واحدة؟ فأجاب بأن البيئة تضع من يعيشون في دائرتها في قالبها العام ولكنها لا تجبر كل واحد على نفس ذلك القالب، على أن لكل فرد أسلوبه الخاص في الحياة. وتحدث عن علاقة الغدد بالشخصية فقال إن الغدد تؤثر في الأمزجة والطباع حقيقة، ولكن الشخصية قد تتكون رغم ذلك، ولا لزوم للحكم على شخصية الإنسان من شكله الذي أدى إليه تركيب غددي خاص. ثم قال: إن مميزات الشخصية السليمة أن يكون لها ظل خارجي ممتد، وعندما يصير الهدف إنسانيا أو اجتماعيا يكون فجر الشخصية قد انبثق، فإذا صار الهدف روحانيا فقد بلغنا مستوى أعلى هو مستوى الإيمان، وهو تلك القوة الخارجية التي تشع في داخلنا الجلد والصبر والعزيمة.

الشخصية المعتلة:

وأعقب الأستاذ وديع فلسطين الدكتور ناجي، فألقى محاضرة عن (الشخصية المعتلة) قال: اعتلال الشخصية أنواع نقصر حديث اليوم على نوع منها يسمى (السيكوباتية) وهي السلوك المرضي، والسيكوباتي عدو المجتمع ولا يسلم هو من عداوته لنفسه، ولا يصدر سلوكه المرضي عن وعبي أو إرادة، وإنما ينساق في تصرفاته انسياقا أعمى مشبعا بطفولته في الاتجاه الفكري واستغراق في لذات عارضة هدامة، وسير في الحياة بال هدف أو وراء هدف صوري لا وجود له. فقد يشعل النار في نفسه لا رغبة في الانتحار بل حبا في رؤية النار تحصدجسمه، وقد يسرق، لا رغبة في المسروق، بل لمجرد الإيذاء والعدوان. وهو لا يقدر على التكيف والانتظام في عمل. ولا ينفع فيه التقريع والعقاب، لأن فطرته عودته على الاضطراب والخلل.

ثم قال إن المريض بالسيكوباتية لا ينبغي أن يسلك مع المجرمين، لأن المجرم المحترف يدبر لنفسه ويقدر جميع الاحتمالات لينجو ويفلت من العقاب فله إرادة ومنطق وغاية؛ إما السيكوباتي فهو يقترف جريمته دون قصد أو تعمد، وكثيرا ما يكون أول من يصاب بجرمه ويلحقه أذى تصرفه المنحرف. ومن المؤسف أن هؤلاء المرضى يعاملون في مصر إما معاملة المجرمين فيزج بهم في السجون، أو يحسبون مجانين فيحالون إلى مصحات عقلية لا تجديهم نفعا، وجدير بنا، وقد استطاع الأطباء العقليون أن يشخصوا داء السيكوباتية ويعينوا أعراضه ومظاهره، أن نفكر تفكيرا جديا في تهيئة الوسائل التي من شأنها مساعدة هؤلاء المرضى على أن يألفوا الحياة الاجتماعية شيئا فشيئا، وعلى أن يصبحوا أداة نافعة في المجتع، أو يجنب المجتمع آثارهم السيئة.

ارسم (أبو رجل مسلوخة):

قرأت الكلمة التي أورد فيها أحد معلمي الرسم الأستاذ كامل بطرس عصفور، أن يعلمني الأصول التي كان يجب أن أقف عليها قبل نقد السؤال الذي طلبفيه من تلميذات المدرسة السنية أن يرسمن شجرة الزقوم ورؤوس الشياطين؛ وأهم هذه الأصول أن تخاطبالصورة المطلوب رسمها قلب الطفل وتملأ نفسه. وهأنذا قد وقفت على هذه الأصول. . . بفضل معلمي الفاضل. . . ولكني لا أرى فيها شيئا ينقض ما قلت، فأين شجرة الزقوم وأين رؤوس الشياطين من قلب الطفل ونفسه؟! وما هي تجربته إزاء هذه الأشياء حتى يعبر عنها. .؟ فليطلب الأستاذ من تلاميذه رسم (البعبع) أو (أبو رجل مسلوخة) أو ما ماثل ذلك مما ينطبق على أصوله. . . أما الجحيم وشجرة الزقوم ورؤوس الشياطين فلا.

وهو يقول إنه لا يوافقني على قصر التخيل على العباقرة وأنا ما قصرته عليهم إطلاقا، إنما قصرت تخيل الجحيم وما فيه على أولئك العباقرة. أما دون ذلك فللأستاذ أن يجول فيه بتلاميذه أو تلميذاته كما يشاء.

عباس خضر