مجلة الرسالة/العدد 799/الشعر في السودان

مجلة الرسالة/العدد 799/الشعر في السودان

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 10 - 1948



للأستاذ علي العماري

- 4 -

لم يعد للشعر في العصر الحديث ما كان له في العصور القديمة من سيطرة وقوة وإيحاء، ولم يصبح - كما كان - مرآة صادقة تظهر فيها حياة الأمم، وتخلد فيها مآثرها ومثالبها، ولئن كنا نستطيع أن نستخرج من الشعر الجاهلي - مثلا - صورة صادقة لحياة العرب في باديتهم فترى فيها مضارب خيامهم، ومعامع حروبهم، وأسراب ظبائهم ونسائهم ونعمهم وشائهم تضطرب في صحرائهم إلى غير ذلك مما حفلت به حياتهم، واصطبغت به معيشتهم، لئن كان ذلك في مقدورنا فإننا لا نستطيع أن ندعي أن أمة من الأمم الحديثة كان شعرها (ديوان حياتها)، ولذلك أسباب كثيرة تختلف باختلاف الأمم.

ولا شك أن من الأسباب القوية في هذا الشأن قصور الشعراء وتقصيرهم، وإن كان ذلك لا يرضي بعض المدارس الحديثة التي ترى أن الشاعر لم يخلق ليكون حاكيا لأحوال المجتمع، وإنما خلق ليرسم للناس صورة نفسه، فالشاعر الذي يودع شعره الأحداث السياسية والاجتماعية ليس بشاعر، إذ أ، الشاعر لم يخلق ليكون واعظا أو مرشدا للجماعات، وإنما خلق - زعموا - للفن وحده، وليرسم نفسه بهذا الفن البديع، فيتحدث عن أفراحهم وآلامها، وعن عواطفها ورغباتها، وقد كان لهذا المذهب أثره القوي في ناشئة الشعراء، فرأينا هم لا يكادون يتعدون دائرة خواطرهم الضيقة، بل ذهبوا إلى ابعد من ذلك فزوروا على أنفسهم، فأخذوا ينوحون وهم يضحكون ويشببون تشبيبا عذريا وهم في اللذات غارقون، وهكذا أرادوا أن يصدقوا فكذبوا، وهربوا من تصوير حياة الجماعة فصورا أنفسهم مشوهة!

لهذا ولأسباب أخر فقد الشعر مكانته، ولم يستطع أن يكون سجلا لحياة الجماعة، نستطيع أن نقول هذا في الشعر المصري، ونستطيع أن نقوله في الشعر العراقي، وتستطيع أن تقوله في شعراء الشام والحجاز، ونستطيع أن نقوله في الشعر السوداني، وإن كان هروب الشعراء السودانيين من حياة المجتمع أوضح، وربما اعتذر الشعراء الذين عاشوا في أوائل هذا القرن عن تخلفهم يقول الشاعر.

قلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت، ولكن الرماح أجرت

ولكن ما عذر هؤلاء الشعراء الذين رأوا رماح قومهم تنطق الأخرس، حتى هذه الرماح التي أجرت كان على الشعراء أن يبكوها، وان يستنهضوها، كما يقول أحدهم.

أنظر إلى السودان إن ... به شباباً ناهضين

قعد الزمان بهم وما ... هم بالشباب القاعدين

غير أن الذي يعزونا أن الشعر العامي لا يزال يحتفظ بقوته في هذا المعنى، فلو هيئ لباحث أن يدرس الشعر العامي وأن يتبيناتجاهاته لظفر بشيء كثير من صور الحياة التي يحياها هؤلاء. ولقد اطلعت على شئ من شعر السودان العامي فرأيت فيه تصويرا دقيقا لبعض ما يكتف القوم، وخيل إلي أني لو استطعت أن أظفر بمجموعةمن هذا الشعر لتمكنت أنأنقل عنها كل مظاهر الحياة في الريف السوداني.

أما الشعر المعرب فالبون شاسع بينه وبين ما تضطرب به الحياة من شتى المظاهر والاتجاهات ولا سيما في أوائل هذا القرن، فإن الشعراء الذين عاشوا منذ ثلاثين سنة حصروا أنفسهم في دائرة ضيقة جدا أكثرها احتذاء للشعر القديم في في أغراضه، ولكن حين تقدم الزمن، وبدت مظاهر النهضة تأخذ طريقها إلى الحياة، وكانت بقية من هؤلاء الشعراء لا تزال تنعم بنسائم السودان البليلة الرخية، وتشرب من ماء النيل العظيم، لم تجد هذه البقية بدا من أن تشارك ناشئة الشعراء في الحديث عن هذه المظاهر، وإن بقيت من ناحية الأسلوب والمعنى وكثير من الأغراض متشبثة بأذيال القديم. والدارس يلاحظ أن هؤلاء الشعراء كانوا يصلون إلى هذه الأغراض بطريقة ملتوية، فكانوا يتخذون المناسبات الدينية والمدائح النبوية سلما إلى ما يريدون، فينفسون بذلك عن بعض الرغبات المكبوتة في نفوسهم، وإن بقيت أقلامهم مجفلة عن تصوير المجتمع، بل منهم من كان يرى أنه من غير اللائق أن يتحدث الشاعر عن مثالب قومه، ثم تقدم الزمن خطوة أخرى فرأينا الشعراء يدخلون المجتمع من باب أوسع فيتنا لونه من نواح كثيرة، أرهفوا آذانهم، وفتحوا أعينهم، لما يحدث أمامهم من خير وشر، فصوروا بعضا وأمسكوا عن بعض وكان للتعليم نصيب كبير من عنايتهم، فلا تفتح مدرسة، ولا يتخرج فوج جديد من كلية حديثة، ولا تنشأ فرقة تمثيل إلا قالوا، وهنأوا البلاد، وتمنوا لها الخير والتقدم، كما كان للغة العربية قدر وفير من اهتمامهم، وكذلك ألمحوا إلماحات خفيفة إلى بعض ما يسطر على العقول من خرافات. وهنا اعتب على شعراء الأمصار عتبا شديداً. وأرى أنهم أغضوا عن تقاليد غير طيبة كان يجب أن يحاربوها كما حاربتها الحكومة، وكما حاربتها الأذواق السليمة، وأهمس في أذن الشاعر الصالح الشيخ عبد الله عبد الرحمن الذي يقول:

سأبلغ جهدي في القصائد حرة ... على أن الشعر في الشعب ضائع

فروض أؤديها وشكوى أبثها ... وما أنا ذو بأس وما أنا طامع

والذي يقول:

خذوها بني أمي قوافي عاتب ... عليكم بها (لا عن جفاء ولا صد)

فواق ألقاها من الوحي صادقاً ... وأرسلها من حيث تجدي ولا تجدي

أهمس في أذنه كيف فاته أن يؤدى فروض الشعر في هذه التقاليد، وكيف لم يرسلها دون أن ينظر أتجدي أولا تجدي؟ وأين جهده الذي بلغه في هذا الذي أشير إليه؟ كما بلغ جهده في نواح أخرى كثيرة.

أليس بعجيب أن يقف الشعراء على الشاطئ، ويجفلوا عن الخوض في آمر هي القذى في الأعين، والشجي في الحلوق.

بعد هذا نريد أن نستخرج بعض مظاهر للمجتمع السوداني من دواوين الشعراء، وأنا أحصر طرفي هنا في ديوانين اثنين، وبعض مقطوعات أخرى، وأنا مضطر لهذا، فن جهة لم يهيأ بي أن أحصل على كل الدواوين التي خرجت، والشعراء لم يساعدوني بإرسال شئ من أشعارهم منذ بدأت اكتب هذا البحث؛ ومن جهة أخرى لم أجد فيما اطلعت عليه من شعر ما يعينني في هذه الناحية إلا هذان الديوانان، فالأول ديوان (الطبيعة) للشاعر حمزة الملك، فإن فيه صورا صادقة، من ذلك صورة (الحاوي) وقد التفت حوله الناس فخدع أبصارهم، بل خدع الشاعر نفسه حيث يقول:

قد رأيت المحال رأى عيان ... ليس في حاجة إلى برهان

رجل كالرجال جاء بما يع ... جز عن فعله بنو الإنسان

بأمر الماء بالوقوف فينص ... اع، وإن شاء لج في الجريان

بضع الشيء في يديك فتل ... قاه على الرغم منك في يد ثان وبعد أن يعدد ألاعيب أخرى من فعل الحاوي، وهي كلها غريبة عجيبة يقول:

هذر ما نراه أم هو جد=ومن الناس أم من الشيطان؟

زعموا أنه الخداع ولكن=كيف في الشيء تخدع العينان؟

ثم ينتقل بعد كل هذا طفرة واحدة، فيسوق إليك حجة على أن للكون إلها فيقول:

أيها الملحدون هذى أمور ... من صنيع الجهال والغلمان

عللوها فإن قدرتم فقولوا ... إنه لا إله للأكوان

ونترك هذه الصورة لنأخذ صورة أخرى حيرت الشاعر أيضا، لعبث لبله، وانتهى أمره فيها إلى أن يبقى في حيرته، تلك هي صورة صاحبة (الودع)، (فأم عباس) قد أنبأته بالغيب وقد وقع ما أنبأته به، وقد كان ينكر عليها أن تعرف شيئا من عالم المستقبل، فراهنها، ونذر لها نذراً، ولكنها فازت بالرهان، واستحقت النذر، غير أن للشاعر عقلا لا يخضع لهذه الترهات، وهكذا يحار بين عقله، وبين الواقع الملموس:

أرت أم عباس أعجوبة ... تضل كبير الحجى (بالودع)

وما أم عباس إلا عجـ ... وز تقي بها نزعة للورع

تجادل أن أنا جادلتها ... كمن هو في فنه قد برع

وتحلف أن لم أنل ما ترى ... فليست تعود (لحط الودع)

فواعجبي كيف نبأتها ... وُديعتها بأمور تقع

وواعجبي كيف في عصرنا ... تصح الخرافات في المجتمع

وإن كنت صدقتها ما ادعت ... هـ فما أنا إلا لعقلي تبع

أمور أرى بعض أسراره ... ن صدقاً به من رآه اقتنع

أصدق منها صحيحاتها ... وليست تجوز على الخدع

ولكن من الحمق أن نترك الل ... باب مشايعة للبدع

وهكذا لا يصل الشاعر إلى قول فصل في هذا الموضوع، فيقي في ظلام دامس يخبط يمنة ويسرة، ولا يهتدي.

ويتحدث هذا الشاعر عن نماذج بشربة رآها في حياته، فمن فتى كالذئب باسم السن يظهر الإخلاص ويسر الغدر، ومن شيخ شاب في اللؤم، وحرم زوجه بألف طلاق ولكنه لا يزال يعاشرها، ومن رجل يظهر في زي النساء ويفخر بالقوم الرشيق، والخد الأسيل، ومن دعي موغل في كبره، يدعي الجود وهو سليل بيت البخل والشح، ومن جاهل يدعي العلم، وما هو إلا ببغاء تهرف بما لا تعرف، ثم ينتهي به المطاف إلى أن يقول:

فخر كل منهم أن له ... ألف وجه بين صبح ومساء

وفي قصائد (سافرة) و (لقيط) و (سأم قاتل) و (زميل) صور ناطقة في المجتمع.

أما الديوان الآخر فهو (الفجر الصادق) للشيخ عبد الله عبد الرحمن، والحق أن صاحب هذا الديوان من المخضرمين فهو يأخذ خير ما في المدرسة القديمة، ويتناول أشياء كثيرة من المدرسة الحديثة، وفي هذا الديوان مجتمع سوداني، وأهم ما يأخذ القارئ في هذا الديوان أمران.

عنايته بالتعليم، وهذا الموضوع قد استغرق جزءاً كبيراً منه، فيتحدث عن المدرسة الأهلية، وعن مدرسة الأصفاد، وعن كلية غردون، وعن تكريم البعثات العلمية، وعن يوم التعليم، إلى أشياء كثيرة من هذه الموضوعات.

ونستطيع أن تقول أنه يندر أن يفلت من بين يديه أمر يتعلق بالتعليم دون أن يقول فيه، ومن شعره في كلية غردون.

لها علينا وإن ضنت بموعود ... قديم عهد وحق غير مجحود

كم خرَّجت من فتى حلو شمائله ... مشمر الساق في الأتراب محسود

كأنما الجهل طوقان يحيط بنا ... وهي السفينة قد أوفت على الجودي

يا معهدا طاب ماضيه وحاضره ... لا كان ربعك يوما غير معهود

لا أنت في واجب السودان وانية ... ولا مقامك فيها غير محمود

قالوا وفود على أبوابك ازدحمت ... وهل سمعت بعذب غير مورود

وعناية باللغة العربية، وشعراء السودان يولون هذه الناحية نصيبا من جهودهم، ولكن الشيخ عبد الله صريح كل الصراحة حين يتناول هذا الموضوع. قرأت قصيدة طويلة للشيخ عبد الله البنا عنوانها (دمعة على اللغة العربية) بكى فيها حاضرها وأشاد بماضيها، وللشيخ عبد الله أبيات كثيرة، يسوقها كلما سنحت له الفرصة، يقول في قصيدة نبوية:

بنى وطني أن قمت للضاد داعياً ... فإني أدعو للتي هي أقوم أرى الضاد في السودان أمست غريبة ... وابتاؤها أمست لها تتجهم

تولت وما دمع عليها بفائض ... وما أحد منهم لها يتألم

ونبئت بالسودان قوما تآمروا ... على اللغة الفصحى أساءوا وأجرموا

ويقول مخاطبا قومه وعشيرته بعد أن أشاد بجهود مؤتمر الخريجين في التعليم.

بنى عمنا لبوا النداء فحسبكم ... تنازع مأموم بها وأمام

فلستم بأحياء ولستم أعزة ... إذا الضاد لم يؤذن لها بقيام

وعلى ذكر الخلاف نقول إن صاحب الديوان قد أشار إليه غير مرة، ودعا إلى اتحاد الكلمة، ومن كلماته الرقيقة في ذلك

أفي الدار مصغ للحديث فسامع ... أم الدارقد سدت عليها المسامع؟

توهمت آيات لها فعرقتها ... لستة أعوام وذا العام سابع

وطوفت استبكي عيون قصائدي ... عليها، وقد تبكي القصيد الفجائع

مشى بين أهليها الخلاف فأصبحوا ... تصدهمو عن كل خير موانع

أرى النار شبت في نواح كثيرة ... ولم ينج متبوع ولم ينج تابع

إذا القوم لجوا في الغواية كلهم ... فقبح مدفوع وقبح دافع

ولا نختم هذا الحديث حتى نشير إلى هذه الصورة التي رسمها الشاعر الشيخ حسيب علي حسيب، وهي صورة طالما رأيناها وألمنا لها:

عجباً أرى المقدام أصبح مذنباً ... يقصى وذا الوجهين أضحى مكرما

إني عرفت الدهر حتى خلتني ... إياه فاسمع سائلي ثم احكما

إن شئت أن تحيا سعيداً بينهم ... كن تابعا ما يشتهون معظما

حتى إذا قالوا الظلام أجننا ... والشمس مشرقة، فقل ما أظلما

وهذا شارع يئس من المجتمع، ونظر إليه نظرة كلها حسرة. وألم، وما له لا يفعل وهو الذي يقول، وتقول معه؟

ماذا أعاتب يا زمان وأتقي ... أهلي أم الأيام أم حسادي؟

ويقول عن قلبه:

ألف الهموم برغمه وألفنه ... فغدا بواد والسرور بوادي ويقول عن أقاربه:

هم مزقوا عرضي لغير جريرة ... وقضوا علي بأن يطول سهادي

يسمعون في خفضي وأطلب رفعهم ... شتان بين مرادهم ومرادي

(للحديث بقايا)

علي العماري

مبعوث الأزهر إلى المعهد العلمي بأم درمان