مجلة الرسالة/العدد 799/القصص
مجلة الرسالة/العدد 799/القصص
القلب الواشي
للكاتب الأمريكي ادجار الان بو
حقا، لقد كنت عصبيا، ولا زلت في حالة عصبية مخيفة. لكن. . لماذا تقول إني مجنون؟ إن الداء قد أرهف حواسي - لم يدمرها - ولم يضعفها، ولا سيما حاسة السمع الحادة. لقد سمعت أصوات من في الأرض ومن في السماء، حتى من في الجحيم. فكيف إذن أكون مجنونا؟ أصغ لي، ثم لاحظ كيف أقص عليك القصة بحذافيرها وأنا في تمام الصحة وفي غاية الهدوء.
إنه لمن المستحيل أن أعير كيف أثرت تلك الفكرة على عقلي بادئ ذي بدء. ولكنها أصبحت تلازمني ليلا ونهار. أما عن الدافع فلقد كنت أحب ذلك الكهل. إنه لم يخطئ في حقي البتة، ولم يوجه إلي أية إهانه ولم أكن أرغب في ماله. ولكن عينه هي السبب، ونعم كانت هي السبب. إنها تشبه عين الطائر.عين العقاب. كانت زرقاء تغطيها طبقة شفافة ومعه. وكنت في كل مرة تلتقي عيناي بها، تثور ثائرتي، ويهيج هائجي. ولهذا قررت أن أنهي حياة الكهل، وبذلك أتخلص من تلك العين إلى الأبد. هذا هو الدافع. إنك تتخيلني مجنونا. ولكن ليتك رأيتني أقوم بالعمل وأنا في كامل وعي. ليتك شاهدتني وأنا أنجزه في حيطة وحذر. كنت أشفق على الكهل في أيامه الأخيرة أكثر من إشفاقي عليه في أيامه السابقة. وكنت في منتصف كل ليلة أدير أكره بابه وأفتحه في هدوء. ويا له من هدوء! ثم أطل برأسي عليه أن أقلل من ضوء المصباح تدريجيا حق يشع نوره داخل الغرفة. كنت أحرك الباب في بطء حتى لا أزعج نوم الكهل، فيستغرق ذلك مني وقتا طويلا. هل يمكن لرجل مجنون أن يكون عاقلا إلى هذا الحد؟ فإذا ما أطللت برأسي داخل الغرفة، أزيد من ضوء المصباح باحتراس، بكل احتراس، فأسمح لشعاعه ضئيلة تسقط على عين العقاب. كنت أفعل ذلك سبع ليال متتالية، ولكني كنت أجد العين دائما مغمضة ولذلك كان من المستحيل على أن أنجز عملي. لأنه لم يكن الكهل هو الذي يثيرني، بل كانت عينه الشريرة. وكنت في كل صباح، عندما تشرق الغزالة، أذهب إليه في شجاعة وأتحدث معه في جرأة، وأدعوه باسمه في لهجة ودية وأساله كيف قضى ليلته. وهكذا ترى أنه لم يشك فيما كان يحدث كل ليلة وهو نائم ما لم يكن بعيد النظر!
وأقبلت الليلة الثامنة، وكنت أكثر حذرا في فتح الباب. كنت أسيطر على شعور الانتصار في قوة عجيبة وأنا أفكر في ذلك الكهل الذي يجهل ما الذي أفعله وما الذي أفكر فيه. وابتسمت ثم ضحكت. وسمعت حركة في الفراش. لعله سمعني أضحك فقام فزعا ولعلك اعتقدت أني تراجعت. ولكن كلا، فقد كانت الغرفة حالكة الظلام ولا يستطيع رؤيتي وأنا أفتح الباب. لذلك ظللت أدفعه في انتظام. وأطللت برأسي. كنت على وشك إضاءة المصباح عندما انزلقت يدي فأحدثت صوتا، وهب الكهل من فراشه صائحا (من هناك؟) ظللت ساكنا ولم أتفوه بكلمة. ومكثت ساعة كاملة دون أن تتحرك عضلة في جسمي. ولم أسمعه يرقد ثانية. كان لا يزال جالسا في فراشه يتسمع مثلما كنت أتسمع ليلة إثر أخرى.
ثم طرق أذني أنين خافت، أنين من الرعب المميت. لم يكن أنين ألم أو شجن. . . كلا، كان صوتا خافتا مخنوقا يرتفع من أعماق روح امتلأت رعبا ووجلا. وكنت أعرف ذلك الصوت جيدا، وأدرك ما يشعر به الكهل ولذلك كنت أشفق عليه وأنا أقهقه من أعماق قلبي! وتصورته راقدا مستيقظا تزداد مخاوفه كلما تقلب على الفراش، ويحاول أن يتغلب عليها وهو يوهم نفسه بأن ما حدث مجرد أوهام. وتخيلته يتحدث إلى نفسه قائلا (إنه حفيف الريح داخل المدخنة - إنه فأر صغير يعبر الغرفة) نعم، كان يحاول أن يسري عن نفسه بشتى الافتراضات دون طائل، دون جدوى، ألأن الموت كان يقترب منه رويدا رويداً ويطارده بشبحه الأسود، ويحيط به من كل جانب. وكان تأثير ذلك الشبح عليه هو الذي جعله يدرك وجود داخل غرفته دون أن يراني أو يسمعني. وانتظرت وقتا طويلا بصبر عجيب دون أن أسمعه يرقد. ثم عزمت على إضاءة المصباح قليلا. قليلا جدا، وخرجت شعاعة واحدة. . شعاعه كأنها خيط العنكبوت. خرجت من فتحة المصباح فتسقطت على عين العقاب. كانت مفتوحة تماما، فصف بي غضبي من رؤيتها، وكانت واضحة أمامي بلونها الأزرق وغلالتها الشفافة، فأصابتني رعدة شديدة تغلغلت في ذات نفسي حتى وصلت إلى عظامي ولم أر من وجه الكهل أو جسمه سواها، وكأنها وجهت الشعاعة بشعور غريزي لا إرادي إلى تلك العين الملعونة بالذات. ألم أخبرك أن ما تعتقده جنونا ليس إلا إرهاف الحواس؟ ثم وصل إلى سمعي صوت خافت سريع التردد. كأنه صوت ساعة مغلقة بالقطن. فعرفت ذلك الصوت. إنه نبضات قلب الكهل، فاستشطت غضبا وامتلأ قلبي غيظا وحقدا. ومع ذلك ظللت ساكناً وحبست أنفاسي. وأمسكت بالمصباح دون أن أتحرك وقد سلطت الشعاعة على عينه. كانت ضربات قلبه تزداد وترتفع صوتها في سرعة غريبة. واستنتجت أن الكهل قد وصل رعبه إلى أقصاه. وارتفع الصوت، وتعالى. ألم أخبرك أنني عصبي؟ نعم لقد كنت في حالة عصبية شديدة. وولد ذلك الصوت في نفسي، في ذلك الوقت المتأخر من الليل، وبين ذلك السكون المطبق الموحش، ولد في شعورا من الرعب لا يقاوم. ومع ذلك ظللت صامتا ساكنا. وكانت الضربات تتعالى ثم تتعالى حتى خلت أن قبله على وشك الانفجار. ثم تملكتني ثورة جديدة! ألا يجوز أن يسمع الجيران ذلك الصوت؟ إذن فقد حانت ساعة الكهل!
وصحت صيحة مدوية، وأضأت المصباح ثم قفزت إليه. فصرخ صرخة واحدة! وفي لحظة كنت قد سحبته إلى الأرض وألقيت فوقه الفراش. ثم ابتسمت في رضاء. لقد أنجزت أخيرا مهمتي. لقد مات الكهل. وأزحت الفراش وفحصت الجثة. نعم كان ميتا كالحجر. ووضعت يدي على موضع قلبه وتركتها لحظة. لم يكن هناك نبض. لقد مات حقا، ولن تعود عينه تضايقني بعد الآن. إذا كنت لا تزال تظن أني مجنون، فإن ما قمت به من احتياطات وما فعلته لإخفاء الجثة سوف يبدد هذا الظن. كان الليل على وشط الرحيل فبذلت همة ونشاطا، وقمت بإنجاز العمل في سكون. قطعت أطراف الجثة، ثم انتزعت ثلاثة ألواح خشبية من أرض الغرفة، وحفرت في موضعها، ثم أخفيت الجثة فيها، وأخيرا وضعت الألواح في مكانها. وعادت الغرفة إلى ما كانت عليه.
كانت الساعة قد أشرفت على الرابعة عندما انتهيت من كل شئ، وكان الظلام لا يزال مخيما. وعندما دقت الساعة دقاتها سمعت صوت طرق على باب الدار، فنزلت أفتح بقلب مطمئن - فماذا يخيفني الآن؟ وجاء ثلاثة من رجال الشرطة، وشرحوا لي أن أحدا أبلغهم سماع صرخة صادرة من الدار. وابتسمت، ما الذي يخيفني الآن؟ ورحبت بهم، وقلت إن الصرخة صدرت مني أثناء نومي وأنا أحلم. وادعيت أن الكهل على سفر. وطلبت منهم أن يفتشوا الدار. . يبحثونها جيدا. وأخيرا أوصلتهم إلى غرفة الكهل. وأطلعتهم على ثروته دون أن يمسها أحد. كنت واثقا من نفسي كل الثقة، ولذلك أحضرت إليهم مقاعد وأجلستهم في الغرفة حتى يستريحوا من عناء البحث. وجلست أنا المنتصر في وقاحة على أحد المقاعد بعد أن وضعته على المكان الذي ترقد فيه الضحية. وكنت أجيب على أسئلتهم في سرور. وجعلوا يتحدثون ويثرثرون وأنا أستمع إليهم في رضاء. ولكن لم تمض فترة طويلة حتى شحب وجهي، وآلمني رأسي وسمعت طنينا في أدني، فتمنيت عندئذ أن يرحلوا، ولكنهم ظلوا جالسين يتجاذبون الحديث، وعلا الطنين وازداد وضوحا، واستمر يتعالى ويتعالى. وارتفعت عقيرتي بالحديث حتى أتخلص من هذا الشعور المؤلم، ولكن الطنين زاد وضوحا، فتيقنت أخيرا أنه لم يكن مبعثه أدني. ولم يكن هناك أدنى شك في أني كنت شاحب الوجه. ولذلك طفقت أتكلم في طلاقة وبصوت حاد ومع ذلك ارتفع الطنين. ما الذي أستطيع فعله؟ لقد كان صوتا مروعا كأنه (صوت ساعة مغلقة في قطن!) وأسرعت أنفاسي ونظرت إلى رجال الشرطة فظهر لي أنهم لم يسمعوا ذلك الطنين. وجعلت أهذي في حديثي وأثرثر وازداد صوتي حدة. ولكن الطنين كان يرتفع في انتظام. وقمت وتجادلت في شتى المواضيع التافهة بصوت عال وإيماءات متعددة، ولكن ذلك الطنين كان يطغى على صوتي. وسألت نفسي لماذا لا يرحلون؟ وذرعت الأرض جيئة وذهابا بخطى ثقيلة. ولكن الصوت ذلك الصوت! أواه. . يا الهي ما الذي أستطيع عمله؟ وعلى مرجل غضبي. وتمتمت وأقسمت وضغطت بالمعقد على الأرض وصررت به على الألواح الخشبية. ولكن ذلك الصوت. . كان لا يزال يرتفع تدريجيا. . وأستمر يتعالى في شدة. . في شدة. . في شدة! وما زال الرجال يتحدثون ويمزحون ويتضاحكون. هل من المحتمل أنهم لا يسمعون شيئا! يا الهي! كلا. . كلا! لا بد أنهم سمعوه! واشتبهوا! وعرفوا! إنهم يسخرون من وعي! ذلك ما ظننته وذلك ما أظنه. وما أفظعه من عذاب! وما أبشعها من سخرية! إني لا أستطيع احتمال هذه الابتسامات المنافقة بعد ذلك! وشعرت أنه يجب على أن اصرخ. . ولكن هذا الصوت كان يزداد وضوحا. . وصرخت فيهم قائلا (أيها الأشرار انفضوا. . إني أعترف بارتكابي الجرم! انزعوا الألواح هنا! هنا! هذا الصوت هو خفقان قلبه. . . قلبه الواشي المختبئ هناك!).
محمد فتحي عبد الوهاب