مجلة الرسالة/العدد 8/في الأدب الشرقي

مجلة الرسالة/العدد 8/في الأدب الشرقي

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 05 - 1933



في الأدب الصيني

القصة الحديثة في الأدب الصيني

مترجمة عن مجلة الشهر الفرنسية

ليست القصة الصينية بنت الأمس، وإنما يرجع مولدهاإلى عهد أسرة تشيو وكانت تسمى يومئذ (سياوشوو) أي المناسبات الضئيلة، وكتابها الأولون هم لي يوكيو، وتشو، ووانغ تسو، وتشنغ شي تسو.

فالأول كان من رجال القرن الرابع قبل الميلاد، والآخران قد نبغا بعده بقرن وقصصهم كانت تستمد موضوعاتها من الأساطير والخرافات والأمثال، ولبثت القصة في هذا الطور الابتدائي أمداً طويلاً حتى ولي الحكم أسرة (طنغ) (618 - 907) فدبت فيها الروح وسارت في طريق الكمال.

كان العمل الروائي في الأقاصيص والحكايات يتقدم شيئاً فشيئاً خلال القرون الخالية حتى أصبح قبيل العهد (الطونغي) مسلاةأدبية. وكان القصص على شدة قصرهلا يجري على خطة مقررة فأقره كتاب العصر الطونغي في نصابه من العناية والفن فحددوا الغاية، ورسموا الطريقة وبسطوا العمل، ودققوا التفاصيل، وجودوا الأداء، حتى أصبح أجمل المظاهر في الأدب الصيني بعد أن كان موضع الزراية والاحتقار عند أشياع كونفشيوس.

كانت الأساطير وحياة النابهين في الشرف أو النابهات في الحسن موضوعالأقصوصة من أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع فكتب (ونغ تسو) (حياة مرآة قديمة) وهي أقصوصة بطلتها مرآة سحرية مغامرة صرعت ثعلبة مسحورة تحولت إلى امرأة، ثم قهرت أفعواناً ضخماً كان قد أتخذ وكره في أصل شجرة، ثم قتلت قرداً وسلحفاة فاستحالا إلى إنسانين أخذا يحاضران في العلم والسحر الخ وكل مغامرة من هذه المغامرات يحكيها القصصي بثقة، ويصدقها القارئ ببساطة. وفي النصف الأخير من القرن الثامن ظهرت أقصوصة أخرى شهيرة، وهي أقصوصة المقام في مخدة تأليف (شن كي تسي) وموضوعها أن (لو) الخالد أعطى أحد الشبان مخدة سحرية فدخل فيها ورأى رؤيا عجيبة يقصه فتستغرق أعاجيبها كل الحكاية. ثم ظهرت على أثر ذلك أقاصيص الأبطال فغلبت على أذهان القصاص والقراء حتى اليوم، فالبطل ذو السيف لا يعجزه شيء ولا تنقصه موهبة فهو يطير، وله سيف يدرك ويشعر فهو في السلم يقصر ويختفي في أنف البطل أوفمه وفي الحرب يخرج ويقتل العدو على أي مسافة يريدها صاحبه، وللصينيين ولوع بهذا الضرب من القصص حتى في نهضتهم الحديثة، وبجانب أقاصيص الخوارق والأعاجيب تجد سير العظماء والأمراء محكية على نمط تاريخي أوروائي أوهجائي كسيرة (لي كوي) وسيرة (ينغ - ينغ) ولكن في النادر أن تجد في الأدب الصيني حكاية أوسيرة تقوم على الواقع وحده، فالكتاب على الجملة يميلون إلى تزيين الحقيقة بالمبالغة والتزييد فيجرهم ذلك إلى فقد الوحدة أو عدم التوازن أوخطأ المغزى.

أما القصة الطويلة ذات الفصول فلم تظهر إلا في عهد آل سونغ من 960 - 1279م وهم يسمونها (بنغ هويا) منشؤها في الصين كمنشئها في سائر بلاد الشرق: رجل يسمونه (المحدث) يقص على الناس في مجلس عام حكاية من الحكايات بالأجر، فمن فائدته إذن أن يطيل الحكاية ما استطاع لينتفع من ورائها في جلسات كثيرة، والجزء الذي يحكيه في جلسة من هذه الجلسات يؤلف فصلا من فصول السيرة. وظلت (الينغ هويا) على هذا النمط الأولي حتى جاء (لوبن) 1330 - 1400 في عهد آل يوان فجعلها فناً، كان يقتبس موضوعاته من التاريخ ولكنه يضيف إليها وقائع وأشخاصاً من عمل الخيال. وكان يصور أبطاله على نحو ما يفعل القصصيون الأوربيون ولكن أفضلها وأجملها قصته المسماة (على شاطئ البحيرة) تقع في مائة فصل وتدور على مخاطرات بطل يدعى (سونغ كيانغ) مع رفاقه المائة والسبعة (وهو شخص تاريخي ورفاقه كانوا ستة وثلاثين ليس غير) وكانوا يحتلون (اليانغ شان) ثم ثاروا على أسرة سونغ الحاكمة فهاجموا مدنها وقاتلوا جيشها ونهبوا مقاطعاتها وأصبحوا حكاماً في هذه الأرض. وهؤلاء العصاة الفتاك كانوا من خيار الناس فألجأهم إلى هذا الموقف عسف الإمبراطور ومن هاواه من الخونة.

ولم يكن هم (لوبن) أن يخلق أشخاصاً ويصف أخلاقاً وإنما كان همه فوق ذلك أن يرمي إلى غرض أخلاقي، وتلك هي الصفة الغالبة على الآداب الصينية، فالكتابة عند كتاب الصين وسيلة إلى الخلق، والشعر عند شعرائها طريق من طرق التربية. والأخلاق عند (لوبن) قائمة على الديمقراطية، فهو يؤلب الأخيار المضطهدين على الأسرة الحاكمة، ويحارب الفروق الاجتماعية بين طبقات الشعب، فلا يعترف إلا بنصفين من الناس: الشجعان والأذكياء، وهؤلاء وأولئك ملزمون أن يعملوا لخير الأمة، ولا بأس أن يعيشوا عيش اللصوص وقطاع الطرق ما داموا يذودون بذلك عن المظلومين والمحرومين.

ثم ظهرت بعد ذلك طائفة كبيرة من القصص على عهد آل (منغ) من سنة 1368 - 1662م ولكن قصتين اثنتين من بينها تلفتان النظر وتسترعيان الخاطر وهما (حكاية رحلة إلى بلاد المغرب)، و (زهور الشر في أصيص من الذهب) فالأولى قصة وهمية كثيرة المخاطر الخارقة والأوهام العجيبة. والثانية قصة نفسية (بسيكولوجية) لمؤلف مجهول تدور على ما وقع من المخاطر الغرامية لغني من الأغنياء أسمه (سي من كنغ) وهو متبطل شهوان محصن ولكن له أخداناً كثيرات، والقصة تعرض بالتفصيل حياة هؤلاء الخليلات الخاصة، وتشتمل على فصول من الفحش والرجس والدنس ولكنها غاية في التحليل النفسي للمرأة، والدقة في وصف المشاهد، والتنويع في مساق الحوادث. وفي عهد آل (تسنغ) ظهرت أنواع كثيرة من القصة كالقصة العلمية ويمثلها قصة عنوانها (ثرثرة شيخ قروي يتشمس) للقصصي (هياكنغ كيو) من كتاب القرن السابع عشر، وقصة أخرى عنوانها (حظ الأزهار المنعكسة على الثلج) للكاتب (لي فوتشن) من رجال القرن الثامن عشر، فالأولى تخوض في أحاديث شتى عن الفلسفة والكتب القديمة وأمانة الوزراء وتقوى الأبناء والمكائد والفنون والطب والأخلاق وغير ذلك مما جعلها دائرة معارف هي إلى الدعوى والافتراء اقرب منها إلى العلم الصحيح. وأما الثانية فهي بحث علامة جليل عالج فيها كثيرا من المسائل النسائية وعلى الأخص مساواة الجنسين، وهذا في الأدب الصيني شيء جديد.

والقصة الأخلاقية ظهرت في هذا الحين، وهي تقص حكايات الممثلين والممثلات، وتصف أخلاق البغايا والمومسات، ثم ظهرت في القرن التاسع عشر القصة الهجائية فهجم بها الكتاب على الأسرة الحاكمة التي طواها الموت، ورشقوا بسهام النقد طبقة العلماء والموظفين على أن الأنواع القديمة كالأقاصيص الخرافية والقصص التحليلية وسير الأبطال استمرت تؤتي أكلها في عهد آل (تسنغ).

تلك كانت حال القصة الصينية حينما ظهرت بواكير الثورة الأدبية في القرن التاسع عشر فتفتحت اليوم عن أدب حديث يشعر على حداثته بحقيقته ومصيره.

كانت الثورة الصينية ثورة سياسية واجتماعية وثقافية في وقت معاً. ففي السياسة أدت إلى سقوط الملكية وقيام الجمهورية، وفي الاجتماع أفضت إلى اقتباس الأخلاق الغربية. وفي الثقافة هدت إلى اكتشاف العلوم والأفكار الأوربية. والفضل في هذا الاكتشاف للأديبين (ين فو) (1853 - 1921) و (لن شو) (1852 - 1924) فإن الأول نقل إلى الصين فلسفة (هكسلي) و (ستيوارت مل) و (سبنسر) و (سميث) و (جنكس) و (جفونس) و (ستراب) و (منتسكيو) ونقل الثاني قصص (ستيفنس) و (ديكنز) و (ولترسكوت) و (كونان دويل) و (واشنطون أرفنج) و (فكتور هوجو) و (دوماس) و (بلزاك) و (سرفنتيس) و (تولستوي) فكان لما ترجماه أثر بالغ في الفكر الصيني الحديث.

فمنذ الساعة الأولى فكر رسل الثورة الاجتماعية في اتخاذ القصة وسيلة للدعاية، وقد قال (ليانغ كي تشاو) وهو صحفي من المدرسة الحديثة: (يجب أن نبدأ اليوم بثورة في القصة، فإنا لا نستطيع أن نخلق شعباً جديداً إلا بقصة جديدة).

ولكن الصعوبة الوحيدة هي اللغة. فإن لغة الكتابة تختلف عن لغة التخاطب، ولغة التخاطب نفسها تختلف في إقليم عنها في إقليم بل في مدينة عنها في مدينة. فالمدرسة الحديثة حاولت أن تقرب بين لغة الكتابة ولغة الخطاب. ولكن أي لغة من لغات التخاطب تجعلها نموذجاً ومثلاً؟ وهل تضطلع حروف الهجاء الصينية (وهي لحسن الحظ واحدة في جميع المدن والأقاليم) بهذا الإصلاح؟ إن توحيد التعليم العام يقتضي لغة كتابية يقبلها كل الناس. واللغة المندرينية لا يمكن أن تكون على حالتها هي تلك اللغة.

ففي سنة 1911م أسست الجمهورية الناشئة مجمعاً عاماً أصلح هذه اللغة وجعلها لغة وطنية، ثم وضع لها تسعاً وثلاثين علامة صوتية، تساعدها على الانتشار بين طبقات الشعب، ومنذ ذلك الحين أصبح في إمكان الكاتب أن يؤلف القطع الأدبية، ويكتبها بالحروف الصينية. فتتفق مع اللغة الوطنية، وهذه اللغة المكتوبة الجديدة التي يفهمها الصينيون على السواء قد أطلقوا عليها أسم (بوهويا) أي اللغة الواضحة. والأدب الصيني في هذه اللغة العامة لا يرجع تاريخه إلى أكثر من اثنتي عشرة سنة.

وليس هذا كل الاختلاف بين الأدب الحديث والأدب القديم. فإن الفكر الصيني قد تغير جملة واحدة، فرجال المدرسة القديمة كانوا يصرون على تقليد القدماء تقليداً عقيماً جر عليهم الغرابة والتقيد والجفاف، حتى جاء في سنة 1916م أحد المحدثين وهو (هوشي) فأقترح ثماني وسائل لتجديد الأدب القديم كانت أساساً لبناء الأدب الحديث وهي (1) ألا يلمح الأدباء إلى شيء من التاريخ والأدب والأساطير في غضون النثر والنظم. (2) ألا يستعملوا الحكم المأثورة والأمثال السائرة اتقاء للابتذال. (3) ألا يسرفوا في البحث عن الأقيسة النحوية والمقابلات البيانية وعلى الأخص في الشعر. (4) ألا يتجنبوا الألفاظ العامية والتراكيب الشعبية. (5) أن يعنوا أشد العناية بالإنشاء. (6) ألا يئنوا ما لم يحسوا في أنفسهم الحاجة إلى الأنين. (7) أن يعتدوا بشخصياتهم فلا يقلدوا القدماء في شيء. (8) ألا يكتبوا إلا إذا جال في خواطرهم ما يريدون أن يكتبوه.

فإذا كانت الفلسفة الصينية اليوم في وقوف، والتاريخ غير موجود، والإنتاج المسرحي قليل القيمة، والشعر لم ينطلق بعد من أسار التقليد، فأن القصة تنمو وتزدهر معتمدة في تجديدها وتأييدها على ثلاثين مجلة تحلها من صفحاتها المحل الأول، أهمها القصة الجديدة القصة الصينية الحديثة واقعية كالقصة الغربية فلا تأبه مطلقاً للتقاليد ولا تتصل بالأساطير والخوارق. وكتابها لا تعوزهم القرائح الخصبة ولبعضهم قصص جليلة الشأن عظيمة الخطر، ولكنك لا تجد فيها ذلك السحر الأخاذ، ولا ذلك الجو الأثيري النقي، ولا تلك الخفة التي كانت تميز القصة القديمة وتلونها باللون الصيني الخالص. فإن القصة الحديثة اقتبست من القصة الغربية الشكل والاصطلاح والروح أيضاً، والمشابهة شديدة بين الحكايات الحديثة في الصين وبين بعض الأقاصيص في أمريكا، وإذا قرأت حكاية (كونغ يي كي) للكاتب (لوسين) حسبتها مكتوبة بقلم شروود أندرسون.

من القصصيين المعاصرين (تشنغ تسوينغ) وهو كاتب وافر الإنتاج، ويعزون هذه الوفرة إلى أنه يشتري قصص المفلوكين من الأدباء بثمن بخس ثم ينشرها تحت اسمه. وقد انفرد بمعالجة نوع واحد من المشاكل الاجتماعية، وهو تضارب العواطف بين ثلاثة أشخاص رجلين وامرأة أوامرأتين ورجل وليس في قصصه أصالة فكرية ولا لأسلوبه قيمة أدبية ولكنه مع ذلك أكثر الكتاب قراء وأبعدهم سمعة.

ثم (كووموجو) وهو زعيم المذهب العمالي الذي يعني أتباعه بمعالجة الموضوعات الخاصة بالفقراء الذين يعيشون على عملهم وهو يدير اليوم حركة الدعاية الشيوعية ضد الحكومة، ويؤلف في سبيل ذلك الأقاصيص والروايات والخطب ولكن حظها من الفن قليل. فاذا نسى السياسة وكتب للأدب تكشف لك عن قصصي سمح القريحة واضح الطريقة.

ثم (يي شاو كيون) و (يوتافو) وهما قصصيان من الطراز الأول، يعالجان غير القصة الأخلاقية، يصفان فيها جوانب الفقر والفسق والبؤس من حياة الشعب الصين في المدن الكبرى. ثم (ينغ ناغان) وهو معدود في طبقة الكتاب النابهين ولكن أرفع القصصين المحدثين ذكراً وأسماهم مكانة هو (لوسين) له مجموعتان من الأقاصيص عنوان الأولى (صرخات الحرب) وعنوان الثانية (اضطراب البال) ونتاجه على قلته موسوم بسمة الجمال والعبقرية.

وسنترجم في الأعداد المقبلة قصة له وأخرى ليانغ ناغان تمثلان الروحين الشائعين، والاتجاهين المختلفين في القصص الصيني الحديث.