مجلة الرسالة/العدد 8/في الأدب العربي

مجلة الرسالة/العدد 8/في الأدب العربي

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 05 - 1933



القصة المصرية

للأستاذ جيب. أستاذ الأدب العربي في مدرسة اللغات الشرقية بلندن

ولقد كتب الدكتور زكي مبارك معارضة من هذا القبيل يوافق فيها على أن القصة لا يمكن أن تنشأ في مصر إلا إذا حصلت المرأة على مركز اجتماعي لائق، ويصف كتاب القصة في الأدب العربي بأنهم ينتمون إلى الطبقة الوضيعة من طبقات الأدباء، وينعى عليهم قلة خبرتهم بفنون الكتابة وعدم استقلالهم في الرأي وسطوهم على الآداب الأوروبية، وأدهى من ذلك أنهم يغرون الشباب باحتقار فنون الكتابة الأخرى، على حين إن الأدب الحقيقي الذي يتجلى فيه الصدق والدقة الفنية قد يوجد في ضروب أخرى من ضروب الكتابة كالرسالة والقصيدة. وليس من الجائز أن نحكم على الأدب العربي بما نشاهده في الأدب الفرنسي والإنجليزي، بل يجب أن نحكم عليه حسب ميول أبنائه، وحسب درجة نجاحه في التعبير عن أفكارهم وأخيلتهم وأغراضهم. ويشير الكاتب إلى أن آداب الصحافة في مصر توضح الآن كثيراً من المشاكل العلمية والروحية ومشاكل العاطفة التي تواجه المصريين، وإلى أن مراقبة الحكومة ووقوف الرجعيين بالمرصاد يحولان دون الإفاضة في توضيح تلك المشاكل. ويقول الكاتب أن هناك نقطة أخرى جديرة بالانتباه وهي أنه يجب علينا ونحن وارثو الماضي أن نستحضر ذلك الماضي ونحن نفكر في الحاضر، وأن ننظر بعين الاعتبار إلى الأساليب والطرق القديمة في الكتابة حينما نتجه نحو التجديد، فأن ذلك أجدى علينا من هذا البهرج الكاذب الذي يزيف به الأدب الحديث.

ولكن الأدب العصريفي مصر قد أثبت الآن حيويته وسار فعلا في طريق الاستقلال، وليس من الممكن أن يجدالقارئ المتوسط بغيته الآن في الأدب القديم، فإنك إذا وجهت اهتمامه مثلا إلى العقد الفريد أو إلى غيره من آثار (العصر الذهبي) فكأنك بذلك تعطيه حجراً بدل الرغيف الذي يطلبه ويصر على الحصول عليه. وإذا وقف الكتاب دون إمداده بما يطلب فأنه يتجه إلى استيراده من الخارج مهماثبت له عدم ملائمة ذلك الذي يستورده لطبيعته وحالته الاجتماعية. وقل أن يجد القارئ في المقالة أو في الموضوع الذي يعرف بالرسالة في القصيدة العادية ما يغير خياله، إذ ينقصها عنصر الخيال واللذة الحية، اللهم إ القصيدة الشعرية المتينة فقد يكون فيها ما يدخل في دائرة الميراث الخيالي للناس.

وهكذا نرى أن المسألة في جوهرها ليست مسألة تقليد ومحاكاة لأهل الغرب، فلقد أدى أتساع التعليم إلى اتجاه ميول القراء إلى نواح أخرى. ولما نشأت تلك الحالة في أوربا عمد الكتاب إلى القصة ليقابلوا بها ميول القراء، ونستطيع أن نقول إنه ما لم يتسن للكتاب المصريين إيجاد القصة فسيستمر اتجاه القراء في مصر إلى الأدب الأوربي، فإن المقالة أو الموضوع الأدبي أقل من أن يفي بالغرض الذي يسعى إليه القراء.

أما القول بأن إدخال فن من فنون الكتابة لم يكن موجوداً من قبل قد يكون فيه مساس بكرامة الشعب الأدبية فرأي مبني على التطرف والمبالغة، وهل أدى إدخال القصة في الأدب التركي أو الهندي إلى الحط من كرامتها؟ كلا. ومن أجل ذلك نرى القصة المصرية تنشب جذورها في تربة الأدب المصري في ثبات مهما صادفت من صعاب ونكران للجميل.

ولكن القصة لا تصل إلى تمام نموها، إلا إذا وافقت بيئة البلاد الاجتماعية، ومن هنا تنشأ المشكلة الرئيسية.

إذا وضعنا جانباً تلك العوامل الاجتماعية التي تكلمنا عنها فإن كتاب القصة في مصر قد وجهوا بمشكلة أخرى أشرنا إليها في مبدأ هذا البحث وهي خلق (فن اصطلاحي حديث) للقصة. ونستطيع أن نتبين في كتابات المنفلوطي وجورجي زيدان بعض المحاولات في هذا السبيل ولكن من حيث الأسلوب فقط، الأول بطريقته والثاني بسهولة عبارته، ولكن كلاهما لم يتعرض للنقطة الأساسية، وهي الوصول إلى تمثيل الحياة الاجتماعية الراهنة تمثيلا صحيحاً في الألفاظ وطريقة التعبير عما في النفس وعلى الأخص في الحوار.

على أن هذه المهمة قد وجدت من أشتغل بها من كتاب القصص القصيرة وأقدمهم في ذلك هو محمد تيمور (1829 - 1921) ويمنعنا ضيق المجال هنا من أن ندرس بالتفصيل آثار تلك الطائفة، ولذلك نكتفي بأن نشير نقطة من أهم النقط التي تعرضوا لها وهي الطريقة التي جروا عليها في أسلوب الحوار.

وهنا ينبغي أن نذكر أن مشكلة الأسلوب الواجب إتباعه في الحوار لم تكن مقصورة على الأدب العربي ولكنها ظهرت في كثير من آداب الممالك الأوربية وبخاصة في تلك الممالك التي ذهبت فيها لغة التخاطب العادية تحت تأثير الكتابات الأدبية، وتنحصر تلك المشكلة في السؤال الآتي: هل نجعل اللغة الفصحى لغة الحوار وبذلك نجعله حواراً مصطنعاً غير طبيعي؟ أم نقتصر على اللغة الفصحى في القصص والوصف، ونستعمل العامية في الحوار، وبذلك نعرض القصة للتفكك والتنافر؟

وقد سار الكتاب في القصص التي ظهرت فيما قبل على الطريقة الأولى أعني استخدام اللغة الفصحى في الحوار لا في الترجمة فحسب (وهنا تكون المسألة طبيعية) ولكن فيما ألفه كتاب القصص من السوريين أيضاً، وذلك بذكر القارئ الأوربي ما كانت عليه القصص الأوربية أثناء نشأتها من تكلف وضعف. وتعتبر زينب في نظري أول قصة استعملت إليها اللغة العامية في الحوار، ولقد ترك ذلك أثراً في القصص القصيرة الأخرى، ونخص بالذكر منها مجموعة محمود تيمور المسماة (بالشيخ جمعة) ولقد قامت بجانب ذلك فكرة أخرى وهي أن يكون الحوار بحسب درجة تعلم المتكلم، وبذلك يراوح الكاتب أن يرواح بين اللغة الفصحى واللغة العامية هبوطاً أو صعوداً، وإذا استعمل الفصحى على لسان شخص متعلم الأدبية العالية ينبغي أن يتحاشى العبارات، لكي يتمشى ذلك مع السهولة المطلوبة والمعتادة في الحوار (ويلاحظ أن الحوار في الطبعة الثانية للشيخ جمعة قد عدل بما يتفق مع هذا المبدأ) وبهذه الطريقة يتسنى للكتاب أن يحرصوا على المظهر الطبيعي للقصة مع تضحية قليلة في الصدق والإصابة بحيث لا يصعب على القارئ أثناء مطالعة القصة أن يحول في ذهنه عبارات الحوار المكتوبة إلى ما يعرفه من عبارات الحديث المألوفة. ونحن من جهتنا نتوقع أن نشاهد تحقيق هذه النظرية في القريب، وعلى الخصوص مع أتساع التعليم الابتدائي وبفضل مجهود الأدباء.

ويبقى علينا في هذا الصدد أن نتساءل إلى أي حد قد استطاع القصصيون الحديثون في مصر أن يعبروا عن مشاكل شعبهم وحاجته وأطماعه. يمكننا أن نستنتج من البحث المتقدم أن عدد القصص التي يظهر فيها ذلك قليل جداإذا اقتصرنا على الآثار التي لها قيمة أدبية حقيقية. '

يعتبر نقولا حداد، صاحب جريدة السيدات والرجال التي نشرت فيه معظم مباحثه، أوفر القصصيين العصريين إنتاجا وهو في نظر محمود تيمور أبعدهم شهرة أيضا. وعلى الرغم من أن الرجل سوري الأصل فإن لبحثهوأسلوبه صبغة مصرية اكثر مما لسواه من الكتاب السوريين، ونستطيع أن نحكم من روايته التاريخية (فرعونة العرب) أن لديه مقدرة على اجتذاب القراء إليه بما يتخلل قصته من الحركة السريعة والمواقف الرائعة. على أن خطة القصة فيها شيء من التفكك، والأشخاص تعوزهم قوة التصوير، حتى أننا نشك فيما إذا كان المؤلف قد أضاف شيئاً إلى نمو القصة المصرية من حيث الشكل أو من حيث الموضوع. وهناك قصة تاريخية أخرى تحوي الكثير من اللذة الأدبية، وتعتبر أول عمل من نوعه في الأدب المصري، تلك هي قصة (ابنة المملوك) لمؤلفها الأستاذ محمد فريد أبو حديد، وهذه القصة لا تمت بأية صلة إلى ذلك النوع من القصص التاريخية التي أخرجها زيدان، وهي من جهة أخرى تفوقها من وجوه عدة. ففي قصة ابنة المملوك قد حلت الحقيقة محل الخيال الجامح الذي تمتاز به قصص زيدان، وفضلا عن ذلك فإن تلك القصة لم تستغرقها كثرة الحوادث التاريخية، وإنما وضعت بطريقة تاريخية واضحة، وكان العصر الذي اختير لها هو فترة النزاع بين محمد علي والمماليك سنة 1805 - 1808 ولقد أتستطاع المؤلف أن يعرض الحوادث التاريخية في ثنايا القصة بحيث لا يجتذب التفات القارئ إليها قسراً. وحتى أهم الحوادث التاريخية في تلك الفترة وهي الحملة الإنجليزية التي وجهت إلى الإسكندرية وهزيمتها في رشيد عام 1807، لم يشر إليها المؤلف إلا إشارة وجيزة في سطرين أو ثلاثة مع أن بطل القصة وهو فتى عربي فار من وجه الوهابيين قد صوره المؤلف على أنه قام بنصيب في تلك الحرب، ومع أن القصة لم تنجح تماماً في تجنب الجفاء الذي تمتاز به القصص التاريخية نجد على الرغم من ذلك حياة وحركة في تصوير الأشخاص. وهي فضلا عن ذلك تسترعي انتباه القارئ من فاتحتها حتى خاتمتها التي جاءت في شكل مأساة.

تأتي بعد ذلك تلك القصة التي نشرت حديثاً، وتعتبر من جميع الوجوه أهم قصة صدرت بعد زينب. وهي القصة التي طال انتظارنا إياها من المازني. وقد نشرت عام 1930 تحت عنوان إبراهيم الكاتب. ويقول المؤلف في مقدمة القصة إن جزءاً منها كتب في عام 1925 وإنها تمت في عام 1926 ثم تركت بعد ذلك جانباً، وإن جزءاً من نصفها الأخير قد كتب بسرعة أثناء الطبع نظراً لفقد بعض الأصول وقد يساعدنا ذلك على تفسير الاضطراب الذي سنشير إليه أثناء الكلام عنها. وقد جاء في المقدمة أيضاً بحث شيق للمشاكلالتي تكلمنا عنها. أما فيما يختص بأسلوب الحوار فإن المازني يرفض الكلام العامي لخلوه من دقة التعبير وعدم ثباته، في حين إن العبارات الفصيحة آخذةً في التقدم والتهذيب يوماً بعد يوم. ويعارض المازني أيضاً في مقدمته هيكل بيك فيما يراه من أن العوامل الاجتماعية في مصر تحول دون خلق القصة المصرية. فإن القائلين بهذا الرأي يفترضون خطأ أن القصة الغربية هي النموذج الوحيد للفن القصصي. ولكن لم لا يكون هناك قصة مصرية قائمة بذاتها تميزها مميزات خاصة؟ ويرى المازني أن الحياة الاجتماعية في مصر لا تقوم عقبة في وجه أي كاتب بارع الخيال. ويقول إننا إذا سلمنا بأن وجهة المصريين وأفكارهم فيما يتعلق بالحب، تختلف عن وجه الأوربيين في ذلك، فلا يتحتم أن يكون ذلك عقبة كأداء في سبيل القصة المصرية. ولم تكون عاطفة الحب ذاتها هي المحور الأصلي الذي تدور حوله القصة؟ ويضيف المازني أن ما يتخيله الكتاب من ضيق مجال القصة المصري، إنما هو (نوع من الهستيريا) لا أقل ولا أكثر.

على أن القصة نفسها لا تحقق ما ينتظره منها المرء بعد هذه المقدمة. وليس ذلك لأنها أخفقت في الخطة أو في تفصيل المواقف وتصوير الأشخاص أو غير ذلك من المسائل الفنية. كلا فإنها من هذه الوجوه أحسن قصة في الأدب العربي على ما أعلم، ويتجلى في هذه القصة تلك الروح التي ينفرد بها المازني من جميع معاصريه أعني تلك الرقة هاتيك الروح الفكاهية التهكمية التي تظهر في كتاباته. ويسير القصص فيها سيراً حثيثا وفي سهولة كما أن الحوار سهل طبيعي وقد جاءت الانتقادات الاجتماعية والتحليلات النفسية (التي قصد إليها المؤلف بطريقة مضمرة في ثنايا الكلام) أكثر منها صريحة واضحة. ولكنها على الرغم من ذلك (فيما عدا أشخاصها وأوضاعها) ليست قصة مصرية بالمعنى الذي يفترضه المازني نفسه، وأكبر دليل على ذلك إن بطل القصة عبارة عن شخصية غريبة لا تكاد تنطبق إلا على القليلين من المصريين، وربما كان الناشر مصيباً في أن اتفاق الاسم بين المؤلف وبطل القصة لم يكن أمراً خيالياً محضاً. والقصة ذاتها غربية في المشاعر والمثل كما هي كذلك في المسحة الأدبية وفي الموضوع الذي تدور حوله. ودراسة عاطفة الحب قائمة على أساس غربي لا شرقي وحتى المظاهر الخارجية ذاتها من حيث الشكل والأسلوب تنطق بهذا الطابع الغربي، ومن أمثلة ذلك كثرة استعمال المجازاتوالجمل الغربية. وأغرب من ذلك كله جرى المؤلف على طريقة اقتباس فقرات من الإنجيل في رأس كل فصل من فصوله. ويوجد فرق محسوس في اللهجة والموضوع بين نصف القصة الأول ونصفها الثاني. أما الأول فأنه يسير في دائرة الحياة الاجتماعية المصرية ولا يمكن أن يصور ما فيه من فكاهة وعطف إلا قلم كاتب مصري. أما النصف الثاني فيستبين فيه جو آخر وتتغير فيه اللهجة الأولى تدريجياً كما لو كان أسلوب المؤلف قد تأثر بما انتاب بطل القصة في هذا النصف.

ونحن دون أن ننكر على المؤلف إصابته في الخيال، نقرر أن (إبراهيم الكاتب) (كزينب) واضحة الصلة بالرواية الغربية، ولكن ما حوته زينب من العواطف لا يروق في عين المازني الذي تتجه ميوله إلى جهة أقوى، والذي يهتم بتمثيل الحقيقة. وفي هذه الحالة نقول إن تداعي الأفكار الأدبية التي يمتاز بها فكر المازني قد صرف ذهنه إلى رواية (سانين) فأوجد صلة بين رواية المازني أو على الأقل بين جزء منها في تصوراتها وبين هذه الرواية الروسية التي ترجمها المازني تحت عنوان (ابن الطبيعة). نعم إن رواية إبراهيم الكاتب تختلف كل الاختلاف في الخطة وفي طريقة الاتساع عن قصة (سانين) ولكن شخصية إبراهيم قد استعادت بعض الشيء من شخصية سانين. وفي رواية المازني منظر يعتبرترجمة حرفية لخاتمة القصة الروسية.

ومما تقدم نرى أنالقصة المصرية كما يتجلى في كتابة كاتبين من أكبر كتابها، لا تزال دون المثل الذي رسمه لها الكتاب. ولا تصل القصة المصرية إلى كمالها، إلا بالجمع بين المقدرة الفنية التي يمتاز بها كتاب الغرب وبين الإلهام المصري. وإلى أن يصل الكتاب إلى ذلك سيظل معظم القراء المصريين مقبلين على آداب غيرهم، ولن يقف تيار الأدب الأوروبي إلا إذا تسنى للمصريين أن يخلقوا فناً جديداً من فنون الكتابة بواسطته تظهر القصة المصرية في معناها الحقيقي.

ترجمها عن الإنجليزية للرسالة: محمود الخفيف