مجلة الرسالة/العدد 801/القصص

مجلة الرسالة/العدد 801/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 11 - 1948



المهرج

للكاتب الروسي ماكسيم جوركي

كانت النافذة المستديرة المرتفعة لزنزانتي تطل على فناء السجن. فإذا ما نظرت منها بعد أن أعتلي منضدة بجوار الحائط، أشاهد كل ما يحدث في هذا الفناء، وأراقب الحمام يبني عشه على الحافة العليا من النافذة، وأسمع هديله يتعالى فوق رأسي. وكان لدي من فسيح الوقت ما يسمح لي بالتعرف على نزلاء السجن كلما أطللت عليهم. وهكذا عرفت بوتش أكثر السجناء مرحا. كان رجلا وسطا، ضخم الجثة، أحمر الوجه، عريض الجبهة، براق العينين، يرتدي قلنسوة على مؤخرة رأسه، وقد التصقت أذناه على جانبي وجهه في شكل يلفت الأنظار. وكانت كل حركة من حركات جسمه تبين في جلاء أنه يمتلك روحا لا تبالي بالكآبة والحزن. لقد كان دائم المرح، كثير الضحك، محبوبا لدى رفاقه، يحوطونه فيمازحهم بمختلف الدعابات، ويضفي على أيامهم الباهتة، جوا من البهجة والسرور.

وفي ذات يوم خرج نوتش من زنزانته وقت النزهة وقد قيد ثلاثة جرذان بخيط، وجعل يعدو وراءها في الفناء وكأنه يقود مركبة. فاندفعت الجرذان وقد أرعبها صياحه، اندفعت منطلقة في ذعر وجنون. وضج السجناء بالضحك يشاهدون ذلك الرجل البدين وهو يقود (مركبته).

كان نوتش يعتقد أنه ما خلق إلا ليجذب إليه الأنظار. وكان لا يعوقه عائق في سبيل ذلك. لقد استطاع ذات مرة أن يلصق شعر أحد السجناء بالغراء بحائط الفناء. كان السجين صبيا مستلقيا على الأرض بجوار الحائط وقد أخذته سنة من الكرى. وعندما جف الغراء، أيقظه نوتش فجأة، فهب الصبي من نومه مذعورا وقام على قدميه، ثم أمسك رأسه بيديه المتخاذلتين، وأخيرا سقط على الأرض يبكي. وقهقه السجناء من ذلك المنظر وابتسم نوتش في رضاء. ولكني شاهدته بعد أن ابتعد رفاقه يرفه عن الصبي ويطيب خاطره.

وكان هناك هر سمين نحاسي اللون، محبوب لذى السجناء، ومدلل منهم. ينتهزون وقت نزهتهماليومية فيداعبونه فترة طويلة، ويمر الهر من يد إلى أخرى، ثم يعدون وراءه، ويدعونه يخدش أيديهم وأرجلهم وهو يلاعبهم.

وكان الهر محط أنظارهم عندما يبدو في الفناء، فيوجهون إليه اهتمامهم وينسون نوتش ومهازله. وكان نوتش إذا رأى ما رأى ذلك يجلس في ركن من الفناء يراقبهم وهم في غفلة عنه. وكنت أشاهده من نافذتي وأشعر بما يختلج في صدره من شعور وأحاسيس، فأعتقد أنه سيضطر أن عاجلا أو آجلا إلى قتل ذلك الحيوان عند أول فرصة سانحة تسنح له ولذلك كنت آسفا عليه. أن رغبة افنسان في أن يكون محط الأنظار غالبا ما تصبح وبالا عليه. فإنه لا يوجد ما يقتل الروح كتلك الرغبة في إدخال السرور على النفوس.

إن أتفه الحوادث عندما يكون المرء وحيدا، منفردا، حبيسا في سجن، لتسترعي انتباهه، فيوليها اهتمامه. لذلك كان من السهل أن تفهم سبب اهتمامي بما أتتبعه من حوادث من وراء نافذتي، وتلهفي إلى معرفة نتائجها.

وفي ذات يوم صفت سماؤه، اندفع السجناء إلى الفناء. فلاحظ نوتش دلوا به طلاء أخضر، كان قد تركه من يقومون بطلاء سقف السجن. فتوجه إليه، وحام حوله، ثم غمس إصبعه فيه، ثم صبغ شاربه بالطلاء. فأثار منظره ضحك السجناء. وعمد صبي من الزمرة إلى تقليده، فجعل يدهن شفته العليا. وإذا نوتش يغمس يده كلها بالطلاء ويصبغ وجه الصبي، ثم جعل يرقص حوله. وضج السجناء بالضحك وهم يشجعون نوتش في صيحات تدل على رضائهم عما يفعله.

وفي ذات اللحظة أقبل الهر يتهادى في الفناء وقد رفع ذيله غير هياب ولا وجل، وسار بين أقدام الحشد المتزاحم حول نوتش والصبي الذي كان يحاول أن يزيل ما علق على وجهه من طلاء.

فصاح أحدهم - أيها الرفاق، أن ميشكا هنا!

وصاح آخر - آه أيها الأفاق الصغير!

ثم أمسكوا به، ومر في أيديهم الواحد تلو الآخر وهم يربتون على ظهره. .

وقال أحدهم - انظروا كم هو سمين!

- وكيف ينمو بسرعة!

- إنه يخدشني. يالك من شيطان صغير!

- أتركه. دعه يثب.

- سأحني ظهري له. اقفز يا ميشكا.

ونسوا نوتش، فوقف وحيدا يمسح الطلاء العالق على شاربه، وينظر إلى الهر يقفز على أكتاف زملائه. أخيرا قال في نبرات تشوبها التوسل والرجاء - أيها الرفاق، دعونا نطلي الهر.

فصاح واحد - ولكنه يموت.

فقال - من الطلاء!؟ هراء!

فقال رجل عريض الكتفين ذو لحية حمراء - يا لها من فكرة غريبة! إنك لشيطان حقا!

ولم ينتظر نوتش موافقتهم، بل حمل الهر بين يديه وسار به نحو الدلو وهو ينشد أنشودة مضحكة يصف فيها الهر. ويبتسم السجناء وابتعدوا يفسحون له طريقا. وشاهدته وقد أمسك بالهر من ذيله ثم غطسه في الدلو وهو يرقص وينشد. وقهقه الجميع، واهتزت الأجسام، وأطل النساء السجينات من جناحهن يبتسمن، وشاركهن الحراس الضحك. وأخيرا صاح ذو اللحية الحمراء - كفى أيها الرجل. فليأخذك الشيطان!

وازدادت حماسة نوتش بعد أن ألتف حوله رفاقه، وبعد أن أصبح محط أنظارهم ومبعث سرورهم. وغمر المكان ضحكات جنونية كانت الشمس تضحك وهي تشرف على البناء، والسماء الزرقاء تبتسم فوق السجناء، وحتى الحوائط القذرة فقد بدت وكأنها مهيجة بما كان يحدث في الفناء. وافترت ثغور النساء فتلألأت أسناهن تحت أشعة الشمس. وانزاح ذلك الفتور القابض الذي كان يبعث في المكان جوا من السأم والملل، وأصبح مشرقا تترد في أنحائه صدى الضحكات.

وأخيرا وضع نوتش الهر على الأرض، ثم واصل مرحه وهو يلهث والعرق يتصبب منه، وشيئا فشيئا تلاشى الضحك بعد أن تعب السجناء منه، وأخيرا ران على المكان الصمت لا يقطعه إلا صوت نوتش وهو ينشد ويرقص، وماء الهر وهو يزحف على الحشائش، ويتعثر في سيره بأقدام مرتعشة، ويقف بين الفينة والفينة كأنم التصق بالحشائش الخضراء التي اصبح من المتعذر تمييزه عنها.

وصاح ذو اللحية الحمراء - ما الذي فعلته أيها الوحش؟

وتطلعت إلى نوتش الأنظار شرزا. وصاح شاب وهو يشير إلى الهر - أنه يموء. فجعلوا يراقبونه في صمت.

وقال آخر - أيظل أخضر اللون بقية حياته؟

فأجاب رجل ممشوق القامة أشيب الشعر وقد اقترب من ميشكا - أنه جف في الشمس، وسيلتصق شعره، وسيموت.

وظل الهر يموء فيثير بذلك شفقة السجناء؛ وسأل الصبي قائلا - أيموت؟ إلا نستطيع أن نغسله؟ فلم يفه أحدهم بكلمة. كان الهر قد ارتمى تحت أقدامهم عاجزا عن التحرك. وتهالك نوتش على الأرض وهو يقول (لقد غرقت عرقا!)، فلم يأبه أحد. وانحنى الصبي على الهر وأخذه بين ذراعيه. ولكنه سرعان ما أن لاقاه على الأرض وهو يقول - إنه ساخن جدا. ثم نظر إلى رفاقه وقال في حزن - مسكين يا ميشكا! لن يكون هناك ميشكا بعد اليوم. لماذا تودون قتل ذلك المسكين؟

فقال ذو اللحية الحمراء - لعله يتغلب على الموت.

وواصل الهر زحفه على الحشائش تراقبه أعين عشرون. ولم يبد على وجوه القوم أي أثر لابتسامه. كانوا جميعا صامتين واجمين في حزن كأنما اتصلت بهم آلام الهر وشعروا بما يشعر به من عذاب. وقال الصبي - لا أظنه يتغلب على الموت. هالك ميشكا الذي كنا نحبه. لماذا تعذبونه؟ أنه لمن الأفضل وضع حد لآلامه.

فقال السجين ذو الشعر الأحمر غاضبا - ومن الذي فعل ذلك؟ أنه ذلك المهرج. ذلك الشيطان. فقال نوتش محاولا أن يهدئ من ثائرتهم - ألم نشترك سوية في ذلك الفعل؟ ثم احتضن نفسه كأنه يشعر بالبرد.

فقال الصبي - كلنا! عظيم جدا! إنك وحدك الملوم.

فحذره نوتش قائلا - لا تهدر أيها الثور!

والتقط السجين الكهل الهر وجعل يتفحصه جيدا ثم اقترح قائلا - ألا نستطيع إزالة هذا الطلاء إذا ما جعلناه الهر يستحم في البترول؟

فقال نوتش وهو يتكلف الابتسام - خذه من ذيله واقذف به من فوق الحائط. أن ذلك أبسط حل للمشكلة. فزمجر ذو الشعر الأحمر قائلا - ماذا؟ لنفرض أني قذفت بك أنت فوق الحائط، أيعجبك ذلك؟ وصاح الصبي - أيها الشيطان.

ثم أمسك بالهر وعدا به. وتبعه بعض الرجال. وظل نوتش وحيدا بين البقية الباقية من السجناء وهم ينظرون إليه شزرا. فصرخ فيهم مستغيثا لست أنا وحدي أيها الرفاق.

فقاطعه ذو الشعر الأحمر وهو يلتفت يمنة ويسرة - صه، لست أنت. إذا من؟

فصاح المهرج قائلا - ولكنكم مشتركون جميعكم في المسألة.

فقال الرجل - أيها الكلب. ثم لكمه على وجهه. فتراجع نوتش إلى الخلف ليتلقى ضربة أخرى في عنقه. وجعل يصيح فيهم متوسلا (أيها الرفاق. .) ولكنهم التفوا حوله بعد أن تأكدوا من بعد الحراس عنهم وأسقطوه على الأرض يشبعونه ضربا. كان كل من يراهم مجتمعين يعتقد أنهم مشتركون في حديث ودي، ورقد نوتش تحت أقدامهم، وكنت تسمع من وقت لآخر صوتا مكتوما كانوا يركلونه فيضلوعه، يركلونه في تؤدة وهدوء، وينتظرون حتى يظهر منه وهو يتلوى على الحشائش كأفعى فرجة تسمح لهم بركلة مرة أخرى. واستمر ذلك ثلاث دقائق صاح بعدها أحد الحراس فجأة: لا تبتعدوا كثيرا أيها الشياطين!

ولم ينفض السجناء في الحال، بل تركوا نوتش يركله الواحد تلو الآخر، وظل نوتش راقدا بعد أن رحلوا منبطحا على الأرض وكتفاه يهتزان، كان يبكي في حرقة، وظل يسعل ويبصق، ثم حاول أن ينهض في حذر كأنما يخشى السقوط وقد أرتكن على ذراعه اليسرى، ولكنه نبح كالكلب المريض، ثم تخاذلت ساقاه، وأخيرا تهالك على الأرض. وصاح ذو الشعر الأحمر مهددا: إياك أن تتظاهر!

فتحامل نوتش على نفسه وقام على قدميه، ثم سار يترنح في خطوات ثقيلة، وأخيرا أرتكن على الحائط، وقد انحنى ظهره ورأسه، وكان يسعل باستمرار، فشاهدت قطرات قاتمة تتساقط من فمه على الأرض وتتناثر على الحائط. وحاول نوتش جاهدا أن يمنع قطرات الدم من أن تلوث الحائط، فجعل يمسحها بطريقة مضحكة. وإذا بالابتسامة تعود فتشرق على وجوه من يراقبونه وإذا بالضحكات تعود فترن في أنحاء الفناء.

ولم أر الهر بعد ذلك. . . وأصبح نوتش محط أنظار رفاقه دون أن يكون له مزاحم آخر!

محمد فتحي عبد الوهاب