مجلة الرسالة/العدد 801/دراسات تحليلية:

مجلة الرسالة/العدد 801/دراسات تحليلية:

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 11 - 1948



الجنيد

للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ

في حاضرة الخلافة العباسية مدينة العلم والنور وبين مجالس الزهد والتقوى ومراتع اللهو والمجون، ولد العالم الأديب المحدث الفقيه الصوفي المتنسك أبو القاسم الجنيد بن محمد الخزاز القواريري، ودرج في بيت أبيه لا يرى فيه من مظاهر النعمة والثراء شيئا مذكورا، ولا تسمع أذناه سوى ارتطام القوارير التي كان أبوه يبيعها. ولما بلغ مبلغ الصبيان صار يذهب إلى دكان أبيه، فكانت كثيرا ما تقع عيناه على موكب من مواكب الخليفة يسير في شوارع بغداد خارجا لصيد أو ذاهبا إلى مسجد لأداء الصلاة تحف به مظاهر الأبهة والملك وتحيط به حاشية من وزراء وقراء وجنود وسحاب، فكانت تستهويه هذه المواكب، وتسحره هذه المظاهر، ويتمنى - شأن كل من في مثل سنه - أن يكون كأحد هؤلاء الذين يحيطون بالخليفة ويحفون به. أو يمر على حانة من حانات القصف واللهو تختلط فيها رنة الكأس بأصوات المغنيات، وتتعالى فيها صيحات الاستحسان من قوم سلبتهم بنت الحان عقولهم، فيقف ينصت لما يقولون ويسمع ما به يترنمون، فيود لو جلس بينهم وشاركهم لهوهم وفرحهم، فإذا آب إلى بيت أبيه في أحد أزقة بغداد هالة الفرق البعيد وأخرجته مرارة الحقيقة التي تتجلى له والتي هو رازح تحت كلها، من تصوراته البديعة وتخيلاته العريضة التي كان سابحا في ملكوتها، إلى واقع حياته وحياة من يحيطون به.

ولما صار فتى ألحقه والده بحانوت خزاز ليتعلم صنعة تكون له غناء في حياته ووقاية له من الفاقة، وكان كثيرا ما يسمع عن أسماء بعض الفقهاء والعلماء، وأقوالهم ومجالسهم وما حباهم الله به من نور وعرفان، فتاقت نفسه إلى مشاهدة مجالسهم وسماع أقوالهم. وذات مساء ذهب إلى إحدى الحلقات التي يؤمها كثير من طلاب العلم، وهناك جلس في ركن من زمانها قانتا خاشعا في وقار وتهيب وخشية وخوف، يسمع ما يقال ولا ينبس ببنت شفة، وسخره القول وأعجبه الحديث، فصار يتردد على هذا المجلس حتى تفتحت بصيرته وانشرح قلبه لنور به، وبدأ يفهم ما يقال ويتأمل ما يسمع.

ثم سمع بإبراهيم بن خالد الكلبي صاحب الإمام الشافعي رضي الله عنه، فورد عليه وأنصت لما يقول فجذبه قوله واستأثر به حديثه فلزم مجلسه. واسترعت مواظبة الجنيد وحضوره مبكرا نظر الكلبي فقر به إليه وأدناه من مجلسه، وأعظم فيه مظاهر الورع والتقى على صغر سنه، ورأى علائم النجابة بادية عليه، فاتخذه تلميذا له يرعاه ويحدو بعنايته. ولم يقتصر الجنيد على الفقه بل أخذ من كل علم بطرف، فكان في الأخلاق تلميذ معروف الكرخي، وفي التوحيد تلميذ الحارث المحاسبي. . .

وصار الجنيد قبلة الأنظار وهو في سن العشرين. وفي أحد الأيام قال له خاله السري السقطي وكان من أساتذته، تكلم على الناس وعظهم حتى تفيد وتستفيد، ولتعظ نفسك قبل أن تعظ الناس، فامتنع عن ذلك لأنه كان يرى نفسه ليس أهلا لذلك، فراى في المنام رسول الله ، وكانت ليلة الجمعة، فقال له النبي عليه السلام: تكلم على الناس. قال فانتبهت من نومي وأتيت باب السري قبل أن ينبلج الصبح، فلما دققت الباب قال لي: لم تصادفنا حتى قيل لك. قال: فقعدت في هذا اليوم للناس بالجامع. ثم صار له أتباع ومريدون وأصبح أوحد أهل عصره. فقد كان يفتي في المسألة الواحدة وجوها لم تخطر على بال العلماء. سأله أحد الفقهاء عن مسألة فأجابه فيها بأجوبة لم تخطر له، فقال يا أبا القاسم لم أكن أعرف فيها سوى ثلاثة أجوبة مما ذكرت فأعدها علي، فأعادها بجوابات أخرى، فقال والله ما سمعت هذا قبل اليوم، فأعده على، فأعادها بجوابات أخرى، فقال لم أسمع بمثل هذا فأمله علي حتى أكتبه. فقال الجنيد: لئن كنت أجريه فأنا أمليه، أي أن الله هو الذي يجري ذلك على قلبي وينطق به لساني؛ وإنما هذا من فضل ربي يلهيه ويجريه على لساني. وسمعه بعض المعتزلة فقال: رأيت في بغداد شيخا يقال له الجنيد ما رأت عيني مثله. كان الكتبة يحضرون لألفاظه، والفلاسفة لدقة كلامه، والشعراء لفصاحته، والمتكلمون لمعانيه، وكلامه ناء عن فهمهم.

وبينما هو يسير في الليل في درب من دروب بغداد سمع غناء في دار فعاد به الحنين إلى عهد الطفولة فأنصت، فإذا الجارية تقول:

إذا قلت هذا أهدى الهجر لي حلل البلى ... تقولين: لولا الهجر لم يطب الحب

وإن قلت هذا القلب أحرقه الجوى ... تقولين: نيران الهوى شرف القلب

وإن قلت ما أذنبت قلت مجيبة ... حياتك ذنب لا يقاس به ذنب فصاح وخر مغشيا عليه ولما أفاق ورجع إلى بيته أخذ يطيل الفكر فيما سمع، وترن في أذنيه قول الجارية (حياتك ذنب لا يقاس به ذنب) فبدأ يتخلف عن مجلسه ويطيل وحدته ويتأمل صنائع الإله وما أبدع في الكون وبذلك انتقل إلى مرحلة التصوف

والميثاق الذي ورد في كتاب الله جل شأنه والذي بمقتضاه أقسمت الأرواح أن تؤمن به قبل أن تحل في أبدانها وقبل أن يخلق الله هذه الأجسام، وهو مذهب الجنيد الذي اعتنقه ونادى به. وصاحب هذا المذهب يؤمن بوجود حقيقة الإنسان في الوقت الذي تعهدت فيه الأرواح بالإيمان لخالقها، وان البدن باطل لا وزن له ولا يساوي أية قيمة؛ وأما الحقيقة الإنسانية فهي تنحصر في الجوهر الروحاني الذي لا تشوبه شوائب المادية، وفي هذا اليوم الذي تعهدت فيه الأرواح لخالقها بالإيمان تفرر مصير الإنسانية وتحدد نهائيا. ومن هذا اليوم اختار الله السعداء من خلقه فاصطفاهم لحضرته فانكشفت لهم الألوهية في ذلك الوجود النقي الصافي الذي كان يحتويهم قبل عالم الأشباح، ثم بعد أن صاروا في عالم الأشباح لازال الله يجذبهم إلى العودة إليه من ثنايا هذه الحياة. ولهذه العودة درجات كثيرة مختلفة ومتعددة، ولكن أعلى هذه الدرجات وأولاها المعرفة، وأول مبادئها التوحيد، ثم تحديد الوحدانية الإلهية، ولا يكون هذا التحديد حقيقيا إلا بالتنزيه وهو جحود الكيف والحيف، ولا يحظى بهذه المنزلة إلا من شاء الله له ذلك عن طريق السكر التنسكي وهو نوعمن الجنون الفجائي يمن الله به على من اصطفاه فيصبح بواسطته في حال يصدر فيها عن القول والفعل دون أن يكون مسئولا عما يقول أو يفعل، ومن يمنحهم الله المعرفة، ويتجل عليهم بهذه المنزلة خصهم الله بقربه واصطفاهم لحضرته (هؤلاء هم الذين اعتزل الله بهم).

والمعرفة عنده معرفتان: معرفة حق، وهي إثبات وحدانية الله تعالى على ما أبرز من الصفات وما أظهر من آثار قدرته في الأنفس وفي الآفاق. وهذه المعرفة هي معرفة المؤمنين عامة. ومعرفة حقيقة: وهي مشاهدة السر من عظمة الله وتعظيم حقه وإجلال قدره وتنزيه ربوبيته عن الإحاطة، لأن الصمد لا تدرك حقائق نعوته وصفاته؛ فالحق سبحانه وتعالى يشاهد من عظمته. وفي هذا يقول: (المعرفة تردد السر بين تعظيم الحق عن الإحاطة وإجلاله عن الدرك). أما من اكتفى بمظاهر الحياة وما يشاهد في قلبه من صور، واعتقد أنه بهذا وصل إلى المعرفة فقد خانه التوفيق وجانبه الصواب والجنيد يقول: (المعرفة أن تعلم ما تصور في قلبك فالحق بخلافه). لكنه وجود يتردد في الكون ويحكم تدبيره، لا تتهيأ العبارة عنه، ولا تؤدي الكلماتالمقصود منه. فالإنسان مسبوق، والمسبوق غير محيط بالسابق، فصاحب الحال قائم موجود عيانا وشخصا وصفة ونعتا.

والمعرفة تجعل العارف الذي تعلق بحقيقة الخالق لا يشهد حاله، بل يشهد سابق علم الحق فيه وأن نهايته صائرة إليه ومصيره إلى ما سبق له، ومن لم ينعم الله عليه بشهود ما سبق له من الله تحير، لأنه لا يدري ما علم الحق فيه ولا ما جرى القلم به، ومن عرف ما سبق له من القسمة لا يتقدم ولا يتأخر وتعطل عن الطلب، فقد عرف أن الله متولي أمره. ومن عرف أن الله متولي أمره تذلل له في أحكامه وأقضيته وسار في طريقه مستقيما متذللا. وفي هذا يقول (المعرفة شهود الخاطر بعواقب المصير، وأن لا يتصرف العارف بسر ولا تقصير). والعارف هو من لبس لكل حال لبوسها فيكون في كل حال بما هو أولى وما يناسبه فلا يرى بحال واحدة، لأن أمره ليس بيده ومصرفه غيره. ولما سئل عن صفة العارف قال: (لون الماء لون الإناء) وكثيرا ما كان يحكي في هذا المقام ما حدث لأبي بن كعب. قيل أن رسول الله قال لأبي بن كعب (إن الله أمرني أن أقرأ عليك) فقال أبي: أ، ذكرت هنالك يا رسول الله! قال نعم: فبكى ابي ولم ير حالا يقابله بها، ولا شكرا يوازي نعمه، ولا ذكرا يقوم بما يستحقه المولى جل شأنه، فانقطع فبكى فقال له النبي عليه السلام (عرفت فالزم).

وذكر الله هو سبيل الوصول إلى الحضرة الربانية، والهيام به هو تصريح المرور إلى مجلس الأنس الأسمى، ولا يكون حقيقة من القلب إلا إذا استروح الذاكر حب الله وعاين الحق وثمل من كأس الحبيب وسكر بخمره. وهو قوت القلوب الذي تحيا به، وزاد الأرواح التي تتزود به، وأنس النفوس الذي يذهب عنها الوحشة ويزيل همها وكربها، والماء الذي يطفئ ظمأ الفؤاد ويخفف من حدة اشتعاله، وهو الدواء الشافي من العلل والأسقام، والبلسم المطهر لجراحات القلوب، وهو حبل الوصل بين الذاكر والمذكور، وسبيل القرب بين المحب والمحبوب، وكلما ازداد الذاكر في ذكر محبوبه استغراقا وهياما، ازداد الحبيب المذكور إلى ذاكره قربا وإلى لقياه اشتياقا. والذكر عنده نوعان: ذكر اللسان وهو أيسر النوعين وأقلهما مشقة وأخفهما عناء، وهو ملك للجميع وفي هذا يقول: ذكرتك لا أني نسيتك لمحة ... وأيسر ما في الذكر ذكر لساني

فإذا وافق القلب في الذكر اللسان، نسي الذاكر في جنب الله كل شيء وهان عليه كل شيء وحقر في نظره متاع الدنيا وزينتها، وطرح مباهجها وراءه ظهريا، وتعلق بذكر محبوبه وهام به وغرق في بحر ملكوته القدسي. ومن كانت هذه حاله حفظ الله عليه كل شيء وعوضه بلذة ذكره عن كل شيء، ومن وصل إلى هذه الدرجة فهو الذي من الله عليه بعمة الوصل والتعرف؛ لأن من بلغ هذا المقام فقد عرف الله حق معرفته؛ ففي الأثر الإلهي: (إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه) وفي هذا يقول الجنيد (من ذكر الله عن غير مشاهدة فهو مفتري)

والذكر بالقلب هو أصل المحبة وعنوان التقرب لأنه يغزو قلب الذاكر وفي هذا يقول: (المحبة ميل القلوب) فالذاكر إذا أحب من يذكره مال إليه قلبه وانجذب إلى حضرته وفني في ذاته، فيكون حبه من غير تكلف، وهيامه مصدق وإخلاص. وما دام الذاكر قد مال قلبه إلى من يذكره واتصلت به محبته فإنه يرى اللذة والسعادة في الخضوع له والتذلل في حضرته وإطالة الوقوف ببابه طلبا للمثول بين يديه، والطاعة فيما يأمره به من أعمال، ويبتعد عما بنهاه عنه، ويرضى كل الرضا بحكمه فلا تثور نفسه ولا يضجر قلبه إذا نزل به مكروه أو حاقت به نازلة، يفعل كل ذلك ليحظى بالقرب وينال الرضا من المحبوب، فإن حظي بمراده وبلغ مأموله فقد طابت له الحياة وصفا عيشه؛ لأن المحب يتلذذ بكل ما يرد عليه من المحبوب من خير أو شر. وفي هذا يقول: (المحبة لذة والحق لا يتلذذ به لأن مواضع الحقيقة دهش واستبقاء وحيرة).

وإذا ملك الحب شغاف القلوب، وتكشف الحال بين الحب والمحبوب، وأصبحت المحبة تعظيما يحل الأسرار، وقربا يحيي موات القلوب، فإذا سمع المحب ذكر محبوبه اضطربت منه الجوارح طر بالذكر محبوبه فيصبح في حال من الوجد والهيام، والمحب غذاء كان ضعيفا إيمانه ضعف وجده، وضعف الوجد ينتج حالا من التواجد وهو ظهور علامات الهيام على المحب، وأما القوي الإيمان الراسخ القدم الصافي القلب الصادق الحب، فيكون وجده من السكر لا يفيق منها أبدا، وهذه الحال حال العارفين. ولا شك أنها خير حال من الأولى لأن كتمان الحب دليل على قدرة المحب وصبره على تحمل ما يلقى في سبيل حبه.

وفي هذا يقول الجنيد:

الوجد يطرب من في الوجد راحته ... والوجد عند حضور القلب مفقود

قد كان يطربني وجدي فاشغلني ... عن رؤية الوجد من في الوجد موجود

والجنيد صوفي متنسك وهو زيادة عن ذلك عالم فقيه محدث وله كثير من المؤلفات منها (كتاب التوحيد، وكتاب الفناء، وكتاب الميثاق، وكتاب دواء الأرواح، وكتاب آداب الفقر، وكتاب سر أنفاس الصوفية، وغير ذلك كثير) كما أن له رسائل هامة وأجوبة على كثير من الأسئلة التي كانت توجه إليه. وكان ورده في اليوم ثلاثمائة ركعة وثلاثين ألف تسبيحة. ولما حضرته الوفاة جعل يصلي ويقرا القرآن فقيل له لو رفقت بنفسك في مثل هذا الحال؟ فقال: لا أجد أحوج مني إلى ذلك الآن، وهذا أوان طي صحيفتي. ثم فاضت روحه، وكان ذلك سنة 298 للهجرة النبوية، فبكاه الأمراء والعظماء وسارت وراء نعشه بغداد كما كانت تسير وراءه أيام حياته، وحزن عليه الأصحاب والمريدون.

أسيوط

عبد الموجود عبد الحافظ