مجلة الرسالة/العدد 802/القصص

مجلة الرسالة/العدد 802/القصص

ملاحظات: الإشارة Le Signe هي قصة قصيرة بقلم غي دو موباسان نشرت عام 1886. نشرت هذه الترجمة في العدد 802 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 15 نوفمبر 1948



الإشارة!. . .

للكاتب الفرنسي جي دي موبسان

كان المضجع الوثير، الناعم، يضم مدام مارجيونسي دي ريندون في كثير من الوله والحب!. . . وكانت المطلقة الحسناء: قد فتحت عينيها على صخب وضجيج ينتهيان إليها في غرفة الاستقبال، فأصغت بقليل في الانتباه، فإذا هي تميز صوت صديقها البارونة الصغيرة دي جرانجيريه مشتبكا في نقاش حاد مع الخادمة، تلك تريد مقابلة صديقتها لأمر خطير، هام، وهذه تأبى عليها مقابلة سيدتها، وإزعاجها في مثل هذه الساعة المبكرة!. . وعندئذ تسللت من فراشها، وأخرجت رأسها اللطيف، المكلل بثروة من الذهب الخالص، وهتفت متسائلة:

- ما بك يا عزيزتي. . . . لم قدمت في مثل هذه الساعة المبكرة؟ إنها لم تبلغ التاسعة بعد؟!

وأجابت البارونة الصغيرة الشاحبة الوجه الذابلة العينين من الانفعال، المرتجفة غضباً وانزعاجاً:

- أريد أن أحدثك يا عزيزتي عن مسألة خطيرة. . . لقد وقع لي ما لا يتصوره العقل!

- تعالي يا عزيزتي. . . تعالي.

ودخلت البارونة المخدع وراء صديقتها. . وتبادلتا العناق والقبل. وعادت مارجيونسي إلى مضجعها الوثير. بينما كانت الخادمة تزيح السجف الثقيلة عن النوافذ، ليتجدد في الغرفة الهواء، ويدخل إليها النور. . . ولما انصرفت الخادمة، قالت مدام رليندون: والآن يا عزيزتي. . . هات ما عندك من حدث!

وانفجرت مدام جرانجيريه باكية. . وانهمرت من عيناها الدموع. . هذه الدموع التي لو ترقرقت في عيون المرأة لزادتها فتنة على فتنة، وحسنا على حسن!. . . ولم تمد منديلها إلى عينها لتجفف دموعها، خوفا عليهما من الاحمرار. . . وقالت:

- إن ما حدث لي يا عزيزتي فظيع. . . فظيع، لم تغمض له عيناي طول الليل. . حتى ولا دقيقة. . أتسمعين؟. . ولا دقيقة آه. . ضعي يديك هنا على قلبي. رباه! إنه يخف ويضطرب! وأخذت يد صديقتها، ووضعتها على موضع القلب من صدرها هذا الصدر الجميل، الذي يفتن ويغرى. . ولكن قلبها الآن، كان حقا شديد الاضطراب والخفقان. ثم قالت

- حدث ذلك نهار الأمس. . . كانت الساعة الرابعة. . . أو النصف بعد الرابعة، لا أتذكر تماما. أنت تعرفين منزلي، وتعرفين غرفة الاستقبال منه، حيث تعودت أن أجلس، وانفرج بمراقبة الناس. وهم يروحون ويجيئون في شارع لازار. وبالأمس كنت أجلس في الفراندة على كرسي منخفض، وكانت النافذة مفتوحة، وأنا خالية البال من كل ما يشغل البال، ويبلبل الخاطر، أوه. . لعلك تذكرين كم كان جو الأمس لطيفا، والمناخ معتدلا.

وفجأة، رأيت امرأة ترتكز على مرفقيها، في نافذة البيت المقابل. . . وكانت ترتدي المايوه. . لباس البحر الجذاب.

لم يسبق لي أن رأيت هذه المرأة ذات الثوب الأحمر الخليع. ولكنني عرفتها جيداً لأول نظرة. كانت امرأة من ذلك الصنف الذي يتجر بنفسه!!

ووجدت نفسي أتابع حركاتها. كانت تنظر إلى الرجال، والرجال يبادلونها النظرات، وكانت تدعوهم إليها: ألا تشرفنا يا سنيور؟ فكان بعضهم يرد عليها: متأسف. . . الوقت ضيق!

- في فرصة أخرى.

- لا. . . ليس الآن

وكان بعضهم يردعها، ويعنفها: اخسئي. . . . حقيرة!

لو تستطيعين يا عزيزتي، أن تتصوري، كم كان عملها هذا مثيرا للضحك! وفجأة رأيتها تغلق النافذة. . . لقد وقع في صنارتها واحد من المغفلين!. . . ووجدت لذة كبيرة في مراقبة هذه المرأة الوضعية، وهي تقوم بعملها العجيب! وأحسست برغبة ملحة تدفعني لتقليدها. . . أتكون هذه الحمقاء، أقدر مني على اجتذاب الرجال؟. . . هيهات!!

وقلدت حركاتها، وغمزاتها، وإذا أنا أوديها أحسن منها بكثير. . . وعندئذ اتخذت مكاني من النافذة.

وانتصرت عليها. . . وجذبت نحو كل الرجال من كل صنف، بعضهم أجمل من زوجي. . . بل أجمل من زوجك. . . أقصد آخر أزواجك. . إيه يا عزيزتي. . . نحن النساء لنا بعض عقول القردة المقلدة. . . هكذا قال لي أحد العارفين بالنفس. . . ألا نحب تقليد بعضنا بعضاً؟!

قلت لنفسي: لأجرب مرة واحدة. . . لمجرد التغيير. . . ترى، ما الذي سيحدث لي؟. . . لا شئ على كل حال. . . وسأنساها!

وبحثت عن رجل. . . رجل جميل. . . . أجمل من كل الرجال. وفجأة رأيت النموذج الكامل للرجل الذي أردته.

رشقته بنظرة ساحرة، وابتسمت له بطريقة خاصة، ففهم إشارتي، وإذا هو يتجه نحو الباب الكبير!!

وجننت. . . وتملكني خوف شديد، فإذا هو يتحدث مع الخادم يوسف. . يوسف المخلص لزوجي، فسيظن أنني على صلة بهذا الرجل من قبل!. . ماذا أستطيع أن أفعل يا عزيزتي. . . ماذا أفعل إذا طرق الباب؟

فكرت في أن أقابله بنفسي، وأخبره بأنه مخطئ، وأرجوه أن ينصرف. . . لعله يعطف على امرأة. . . ضعيفة، مسكينة:

وذهبت إليه أقول:

- انصرف بربك يا سنيور. . . أنصرف من هنا. . . أنت مخطئ يا سنيور. . . . أشفق علي يا سيدي!

- صباح الخير يا آنسة. . . لم كل هذا الدلال؟. . . فلست اجهل قصصكن. . . ستقولين إنك زوجة لرجل غيور وإنك معي لفي خطر شديد، وستطبين أربعين فرنكاً بدلا من عشرين. . ولكن لا بأس. . . سأدفعها لك، إذا أفسحت لي الطريق.

ولكنه لم ينتظر جوابي. . . بل دفعني إلى غرفة الاستقبال، وظل يتفحصها في دهشة، وقال:

- ما أجمل هذه الغرفة. . . لا شك أنك موفقة في عملك، وتكسبين كثيراً، وتوسلت إليه

- أرجو يا سنيور، تفضل بالانصراف. . أن زوجي سيكون هنا بعد دقائق. . . أقسم لك انك مخطئ.

فأجابني في برود شديد: زوجك؟!. . سأمنحه خمسة فرنكات، يشرب بها كأسا من النبيذ في الحانة المقابلة.

ثم وقعت عيناه على صورة زوجي راؤول، فقال:

- أهذا هو زوجك؟

- نعم

- أوه. . رجل لا بأس به، ومن هذه؟. . واحدة من صديقاتك! كانت هذه صورتك - نعم. . . واحدة من صديقاتي!

- جميلة. . لعلك تقدمينها إلي

- في فرصة أخرى.

وعندئذ دقت الساعة خمس دقات. . . . لقد حان موعد قدوم زوجي إلى البيت. . . رباه. . . ماذا يحدث لو جاء راؤول ورأى عندي هذا الرجل؟

وفكرت في أن أحسن طريق للتخلص من هذا أن. . . أن أرضيه بأسرع وقت، وأصرفه عني. فهمت ما أعني يا عزيزتي هل فهمت ماذا حدث؟!!

وضحكت مدام ريندون. . واهتز السرير تحتها لشدة ضحكها، ثم قالت والدموع تترقرق في مآقيها:

- ولكن. . أكان منظره جذابا حقاً؟

- كان رائعاً. . . في غاية الروعة.

- من حسن حظك. . . ولكن، إذا كان رائعا كما تقولين، فلماذا جئت تشتكين؟!

- لأنه. . . لأنه سيعود ثانية، في نفس الوقت وأنا شديدة الخوف، فماذا أفعل لو نفذ وعده، وجاء مرة أخرى؟!!

- دعيه يعود

فتملكت المسكينة دهشة عظيمة، وتساءلت:

- ماذا؟ ماذا تقولين؟. . كيف أدعه يعود؟

- هذا شئ بسيط. . . اذهبي إلى مدير البوليس، وأخبريه بما حدث، وقولي له أن هذا الرجل يضايقك منذ مدة طويلة، وعندئذ سيبعث إليه ببعض رجاله، ويقبضون عليه متلبسا بالجريمة! - ولكن يا عزيزتي. . . ربما اعترف.

- من يصدقه. . . أنت سيدة معروفة في البلد.

لا. . . لا أستطيع.

- أن لم تخبري البوليس. . . فسيعود إليك كل يوم!

- طيب. . . . والفرنكات التي تركها لي؟. . . ماذا أصنع بها؟

وبعد أن فكرت مدام ريندون قليلاً، قالت ضاحكة:

- عزيزتي. . يجب أن تخلدي هذه الحادثة في هدية صغيرة لزوجك العزيز راؤول. . نعم، هذه أحسن فكرة!!!

(البصرة: عراق)

يوسف يعقوب حداد